السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2012-01-31

كلمة في الوفاء:

 كلمة في الوفاء:

امتازت الأمة العربية من بين سائر الأمم بكثير من الفضائل قلَّما نجد من يتصف بشيء منها في أمة سواها، خصوصاً في هذا العصر الذي قام فيه معظم الناس على قدم وساق يحاربون الفضيلة، ويعملون على إزهاقها، ويسعون إلى إفناء معالمها وتعاليمها حتى تدهورت الأخلاق، وانحطت الآداب، وانتشر الفسق والفجور بين الناس، وانصرف المسلمون عن دينهم القويم الحنيف، وعن اتباع آدابه إلى تلك التُّرَّهات الكاذبة، والخزعبلات المزرية التي تتنافى مع أوامر الدين، ولا تتمشى مع ما جاء فيه، والتي يأباها العقل الصحيح، وتنفر منها النفوس العالية الكبيرة.
وأجل ما اختصت به الأمة العربية من الفضائل الوفاء الخلةُ الشريفة التي لم تجد جوَّاً صالحاً لخروجها، ولا مناخاً ملائماً لها غير تلك الصحراء المقفرة المجدبة، فنبتت بين الرمال، وغذَّاها العربي بدمه وماله حتى نمت، وترعرعت، وأرسلت عليهم ظلَّها الوارف الظليل.
وليس في هذا ما يدعو إلى الشدة أو يثير التعجب والاستغراب؛ فالعربي الذي يقضي جُلَّ أوقاته وحياته بين سفر وانتقال، وبين ظعن وترحال، والذي كثيراً ما تُعْوِزه الظروفُ، وتلجئه الضرورة إلى أن يتخذ طريقه وسط تلك الصحراء في جوف الليل البهيم وحيداً لا يأنس لمخلوق سوى ناقته، ولا يأنس إليه مخلوق سوى ناقته، هذا العربي بلا شك أحوج الناس إلى رجل وفيٍّ ينصره وقت الشدة، ويعينه إذا حَزَب الأمر، ويستجيب لدعائه حينما يستصرخه، ويلجأ إليه.
والعرب الذين لم تكن لهم قدم راسخة في المدنية، ولم يكن لهم حتى بعثة النبي "دستور يكفل لهم النظام، ويبين لهم الحلال من الحرام _ هم بلا شك أحوج الناس إلى أن يسود الوفاء بينهم، وينتشر لواؤه عليهم.
ولولا أن الله يسر هذا الخلق لتعطلت المتاجر، ووقف دولاب العمل، وتغلَّب القويُّ على الضعيف، وكثر العداء والجفاء، واشتعلت نيران الثورات والحروب؛ فما هي إلا أيام أو أعوام حتى تنقرض الأمة، وتخرب البلاد؛ فالوفاء هو الحجر الأساسي في بناء مستقبلهم، والمحور الوطيد الذي تدور عليه رحا عزِّهم وسعادتهم؛ لذلك كان العرب يَقْدُرون تلك الصفة حقَّ قدرها، ويرفعون مِنْ شَأْنِ مَنْ يشتهر بها، حتى كانوا يضربون بهم الأمثال، ويلهجون بذكرهم في الأندية والمجتمعات، ويترنمون بمدحهم والثناء عليهم في كل وقت وحين.
بل كانوا يترسمون طريقهم، ويدأبون في سبيلهم، وينقادون لأوامرهم انقياد العبد للسيد، والمرؤوس للرئيس.
وممن اشتهر بينهم بالوفاء السموأل بن عادياء، وكان من وفائه أن امرأ القيس ابن حجر لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموأل دروعاً له، فلما مات امرؤ القيس غزاه ملك من ملوك الشام، فتحرز منه السموأل؛ فأخذ الملك ابناً له خارج الحصن، وصاح يا سموأل هذا ابنك في يدي وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي، وأنا أحق بميراثه، فإن دفعت إليَّ الدروع وإلا ذبحت ابنك.
فقال السموأل: أَجِّلْني، فأجله، فجمع أهل بيته فشاورهم، فكلهم أشاروا بدفع الدروع وأن يستنقذ ابنه، فلما أصبح أشرف عليه، وقال: ليس لي إلى دفع الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع!
فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه وكان يهوديَّاً، وانصرف الملك، ووافى السموأل بالدروع الموسم، فدفعها إلى ورثة امرئ القيس، وقال في ذلك:
وفيت بأدرع الكنديِّ أني


إذا ما خان أقوام وفيت

وقالوا عنده كنز رهيب


فلا وأبيك أغدر ما مشيت

بنى لي عادياً حصناً حصيناً


وبئراً كلما شئت استقيت

فانظر كيف فرط، وتهاون في فلذة كبده، ومهجة قلبه، وتركه لذلك الملك الجائر الجبَّار حتى فجعه فيه، وذبحه أمامه، ولم يفرط أو يتهاون في هذه الدروع.!!
فلا عجب إذ طار صيته في كل فجٍّ وحدب، ولا عجب إذ كانوا يضربون به المثل فيقولون: أوفى من السموأل بن عادياء، وفي ذلك يقول الأعشى:
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به


في جحفل كسواد الليل جرَّار

بالأبلق الفرد من تيماء منزله
حصن حصين وجار غير غدَّار

خَيَّرهُ خطتي خسفٍ فقال له


مهما تَقولَنْ فإني سامع حار

فقال ثكل وغدر أنت بينهما


فاختر فما فيهما حظ لمختار

فشك غير طويل ثم قال له


اقتل أسيرك إني مانع جاري

ومنهم الطائي صاحب النعمان بن المنذر، وكان من وفائه أن النعمان ركب في يوم بؤسه _ وكان له يومان يوم بؤس ويوم نعيم لم يلقه أحد في يوم بؤسه إلا قتله، ولا في يوم نعيمه إلا استبقى حياته وحباه وأعطاه_ فاستقبله في يوم بؤسه أعرابي من طيء فقال: حيا الله الملك إن لي صبية صغاراً لم أوص بهم أحداً فإن رأى الملك أن يأذن لي في إتيانهم، وأعطيه عهد الله أن أرجع إليه إذا أوصيت بهم حتى أضع يدي في يده، فرقَّ له النعمان، وقال له: لا إلا أن يضمنك رجل ممن معنا فإن لم تأت قتلناه، وكان مع النعمان شريك بن عمرو بن شراحيل فنظر إليه الطائي، وقال:
يا شريك بن عمرو


هل من الموت محاله

يا أخا كل مضاف


يا أخا من لا أخا له

يا أخا النعمان فكَّ اليـ


ـوم عن شيخ غلاله

ابن شيبان قبيل


أصلح الله فعاله

فقال شريك: هو عليَّ أصلح الله الملك؛ فمضى الطائي وأجَّلَ له أجلاً يأتي فيه.
فلما كان ذلك اليوم أحضر النعمان شريكاً، وجعل يقول له: إن صدر هذا اليوم قد ولَّى.
وشريك يقول: ليس لك عليَّ سبيل حتى نمسي، فلما أمسوا أقبل شخص والنعمان ينظر إلى شريك، فقال شريك: ليس لك عليَّ سبيل حتى يدنو الشخص، فلعله صاحبي، فبينما هما كذلك إذ أقبل الطائي، فقال النعمان: والله ما رأيت أكرم منكما، وما أدري أيكما أكرم أهذا الذي ضمنك وهو الموت أم أنت وقد رجعت إلى القتل؟! والله لا أكون ألأم الثلاثة ثم أطلقه وأمر برفع يوم بؤسه.
وأنشد الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي


فأبيت عند تجهم الأقوال

إني امرؤ مني الوفاء سجية


وفعال كل مهذَّب مبذال

قال النعمان: ما حملك على الوفاء؟ قال: ديني، قال: وما دينك؟ قال: النصرانية، قال: اعرضها عليَّ، فعرضها عليه؛ فتنصر النعمان.
وقد افتخر النعمان بن المنذر بالعرب أمام كسرى ملك الفرس، وميزهم على غيرهم من الأمم، وامتدحهم بكثير من الفضائل وكان منها الوفاء، فقال: وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة، ويومئ الإيماءة فهي وَلْتٌ وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق رهنه، ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب، فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المُحْدِث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله.. !!
والحق أن النعمان لم يكن مغالياً في كلامه، ولم يصف العرب بشيء ليس فيهم؛ فقد روي عن حاتم الطائي أنه خرج في الشهر الحرام في حاجة له فلما كان بأرض (عنزة) استجار به أسير وناداه يا أبا سفانة أهلكني الأسار، فقال: ويلك قد ظلمتني بتنويهك باسمي في غير بلاد قومي، ثم اشتراه من بني عنزة، وأقام في القيد مكان الأسير حتى فدى نفسه فأطلقوه.
وتلك لعمري مكرمة يتضاءل دونها كل مدح وثناء؛ فأين من هذه النفوس نفوس تفرُّ من المكارم، وتنفر من الفضائل والمحامد، بل تعمل على محاربتها، وتسعى في تقويض دعائمها؟.
 وأين من أولئك الأقوام أناس يتظاهرون لغيرهم بالحب والوفاء، ويغرونهم بابتسامات صفراء ومجاملات زائفة، يخفون بها دخيلتهم وما تنطوي عليه نفوسهم، ويتخذون من ذلك ستاراً يعملون من ورائه على الكيد لهم حتى إذا ما حانت لهم الفرصة، وأمكنتهم المقادير أعملوا فيهم سيوف غدرهم، ومعاول خيانتهم لا يرقبون في ذلك إلاًّ ولا ذمة، ولا يرعون حرمة لعهد أو ميثاق..؟!

هناك تعليقان (2):

  1. م إبراهيم الكفاوين31 يناير 2012 في 11:59 ص

    بارك الله فيكم شيخنا وجعلها في ميزان حسناتكم

    ردحذف
  2. أحيانا تبلغ الكلمات وتفوق ربما قيمة الذرر المتهافت عليه ، هكذا كلماتك ننتظرها بشوق ، ونقرؤها بحب ، ونحضنها كالعصافير ، ونحفظها كالأطفال خلف طاولات المدرسة . بارك الله فيك وفي أناملك ودمت لنا نورا وحرفا وضياء باذن الله تعالى ألف شكر .

    ردحذف