السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2017-09-29

شرح الحديث رقم 10 من كتاب الاربعين النووية

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نص‏‏
درس الليلة 07 محرم 1439ه الموافق ل 28 09 2017 
عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ : (إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) (المؤمنون: الآية51) ، وَقَالَ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (البقرة: الآية172) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء،ِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ،وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك)[87] رواه مسلم.
الشرح
"إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ" كلمة طيب بمعنى طاهر منزّه عن النقائص،لايعتريه الخبث بأي حال من الأحوال، لأن ضد الطيب هو الخبيث،كما قال الله عزّ وجل: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )(المائدة: الآية100) ، وقال: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَات)(النور: الآية26) ومعنى هذا أنه لايلحقه جل وعلا شيء من العيب والنقص. فهو عزّ وجل طيب في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أحكامه، وفي أفعاله، وفي كل ما يصدر منه، وليس فيها رديء بأي وجه.
لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً فهو سبحانه وتعالى، لا يقبل إلا الطيب من الأقوال، والأعمال وغيرها، وكل رديء فهو مردودٌ عند الله عزّ وجل، فلا يقبل الله إلا الطيب، ومن ذلك الصدقة بالمال الخبيث لايقبلها الله عزّ وجل، لأنه لايقبل إلا طيباً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ اللهَ إِلاَّ الطَّيِّبَ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْخُذُهَا بِيَمِيْنِهِ يُرَبِّيها كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ[88] .
فالطّيب من الأعمال: ما كان خالصاً لله، موافقاً للشريعة.
والطيب من الأموال: ما اكتسب عن طريق حلال، وأما ما اكتسب عن طريق محرّم فإنه خبيث.
"وَإَنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ" تَعْلَيةً لشأن المؤمنين، وأنهم أهلٌ أن يوجّه إليهم ما أمر به الرسل، فقال عزّ وجل في أمر المرسلين: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً )(المؤمنون: الآية51) فأمر الرسل أن يأكلوا من الطيبات وهي التي أحلها الله عزّ وجل، واكتسبت عن طريق شرعي. فإن لم يحلّها الله كالخمر فإنه لايؤكل، وإن أحلَّه الله ولكن اكتسب عن طريق محرّم فإنه لايؤكل، وأضرب لذلك مثَلين:
الأول: رجل أكل من شاة ميتة، فهذا لم يأكل من الطيبات، لأن الله تعالى حرّم أكل الميتة. وهذا محرّم لذاته.
الثاني: رجل غصب شاة وذبحها وأكل منها، فحكمها أنها ليست بطيبة وهي محرّمة لكسبها.
" وَاعْمَلُوْا صَالحَاً " أي اعملوا عملاً صالحاً.
فأمرهم بالأكل الذي به قوام البدن، ثم أمرهم بالعمل الذي يكون نتيجة للأكل، لكنه قال: وَاعْمَلُوا صَالِحَاً وصالح العمل هو ما جمع بين: الإخلاص والمتابعة.
ولهذا روي عن بعض السلف أنه قال: العمل الصالح ماكان خالصاً صواباً. أي خالصاً لله صواباً على شريعة الله.
وقال تعالى في أمر المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )(البقرة: الآية172) كما قال للرسل: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.
إذاً نقول: المؤمنون مأمورون بالأكل من الطيبات، والمرسلون كذلك مأمورون بالأكل من الطيبات.
"ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ..." يعني ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لهذا الرجل: "يُطِيْلُ السَّفَرَ" والسفر من أسباب إجابة الدعاء، ولاسيما إذا أطاله.
"أَشْعَث أَغْبَرَ" يعني أشعث في شعره أغبر من التراب، أي أنه لا يهتم بنفسه بل أهم شيء عنده الدعاء.
"يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء" ومد اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء،كما جاء في الحديث: إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ يَسْتَحِييْ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفعَ يَديْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرَاً[89] .
"يَا رَبّ يَا رَبّ" نداء بوصف الربوبية،لأن ذلك وسيلة لإجابة الدعاء، إذ إن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية.
"وَ مَطْعَمُهُ حَرَامٌ" يعني طعامه الذي يأكله حرام، أي حرام لذاته أولكسبه.
"وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ" يعني شربه الذي يشربه حرام، إما لذاته أو لكسبه.
"وغُذِيَ بالحَرَامِ" يعني أنه تغذّى بالحرام الحاصل من فعل غيره.
فَأَنَّى اسم استفهام، والمراد به الاستبعاد، يعني يبعد أن يستجاب لهذا، مع أن أسباب الإجابة موجودة.
وهذا للتحذير من أكل الحرام، وشربه، ولبسه، والتغذّي به.
من فوائد هذا الحديث:
.1أن من أسماء الله تعالى الطيّب، لقوله: إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ وهذا يشمل طيب ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه.
فأسماؤه كلّها حسنى، ولا يوجد في أ سماء الله ما يكون فيه النقص لاحقيقة ولافرضاً، فكلّ أسماء الله تعالى ليس فيها نقصٌ بوجه من الوجوه، لأن الله تعالى قال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)(الأعراف: الآية180) والحسنى اسم تفضيل، يقابلها في المذكر: الأحسن.
ولذلك لاتجد في أسماء الله ما يحتمل النقص أبداً،ولهذا باب الصفات أوسع من باب الأسماء،لأن كل اسم متضمن لصفة،وأفعاله لامنتهى لها،كما أن أقواله لامنتهى لها،(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)[لقمان:27] فمن صفات الله المجيء، والإتيان والبطش كما قال تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ)(الفجر: الآية22) وقال: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)(البروج:12)
فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولانسمّيه بها،فلا نقول من أسمائه: الجائي والممسك والباطش. وإن كنا نخبر بذلك عنه سبحانه ونصفه به
وهو سبحانه وتعالى طيب في صفاته: فكل صفات الله تعالى طيبة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، فمثلاً:
القدرة والسمع، والبصر، والتكلم، كل هذه صفات طيبة يتصف الله تعالى بها. وهناك من الصفات ما تكون كمالاً في حال ونقصاً في حال،وهذه الصفات لاتكون جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق،فلا تثبت له سبحانه إثباتاً مطلقاً، ولا تنفى عنه نفياً مطلقاً،بل لابد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمنع في الحال التي تكون نقصاً،وذلك كالمكر، والكيد،والخداع ونحوها،فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها،لأنها حينئذٍ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد،وتكون نقصاً في غير هذه الحال،ولهذا لم يذكرها الله من صفاته على سبيل الإطلاق،وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها،كقوله تعالى: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(الأنفال: الآية30) و (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً)[الطارق:15].
وأما الخيانة فلا يوصف الله بها، لأنها نقص بكل حال، فلا يوصف الله تعالى بالخيانة، ويدل لهذا قول الله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُم)(البقرة: الآية9) وقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(النساء: الآية142) فأثبت الخداع لأنه يدل على القوة.
لكن في الخيانة قال الله عزّ وجل: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ)(لأنفال: الآية71) ولم يقل: فقد خانوا الله من قبل فخانهم، لأن الخيانة خِدعة في مقام الأمان،وهي صفة ذمّ مطلقاً،وبذا عرف أن القول "خان اللهُ من يخون" قول منكر فاحش يجب النّهي عنه ووصف ذم لا يوصف الله به.
إذاً صفات الله تعالى كلها طيبة، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)(النحل: الآية60) أي الوصف الأعلى من كل وجه.
2- كمال الرب سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، كما يدل عليه قوله : ( إن الله طيب.. ). 
3- أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال والأقوال إلا طيبها، وهو ما كان خالصاً لوجهه وموافقاً لأمره وسنة نبيه r. 
4- أن الإنفاق من الحرام لا يقبله الله لأنه خبيث. 
5- أن الحلال من المكاسب والأعيان طيب فالصدقة منه مقبولة. 
6- وجوب الأكل من الحلال واجتناب الحرام. 
7- أمر الرسل والمؤمنين بذلك. 
8- إباحة الأكل من الجيد من المطاعم والمشارب. 
9- ذم الذين يمتنعون من أكل الطيب الحلال. 
10- أن الرسل عباد لله يأمرهم وينهاهم. 
11- أن للمؤمن في الرسل أسوة. 
12- أن المؤمنين لا يعبدون إلا الله. 
13- تكريم المؤمنين بخطابهم بوصف الإيمان. 
14- أن الإيمان يقتضي فعل المأمورات وترك المنهيات. 
15- أن التوحيد يقتضي شكر الله على نعمه وقبول رزقه. 
16- أن الشكر إنما يكون بالعمل الصالح لقوله تعالى للمؤمنين{وَاشْكُرُواْ لِلّهِ }في مقابل قوله للرسل :{وَاعْمَلُوا صَالِحًا }. 
17- إثبات علمه تعالى بأعمال العباد ، وفي ذكر العلم بعد الأمر وعد ووعيد، لقوله :{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
18- استشهاد النبي r بالقرآن. 
19- الاستعانة بأكل الحلال على العمل الصالح. 
20- أن أكل الحرام أو الإنفاق منه قد يبطل العمل أو ينقص الثواب. 
21- أن من موانع إجابة الدعاء أكل الحرام. 
22- أن من أسباب إجابة الدعاء طول السفر والشَّعَث ورثاثة الهيئة، لأن ذلك يوجب انكسار القلب. 
23- أن من أسباب الإجابة رفع اليدين والإلحاح. 
24- أن من غلب عليه الحرام في طعامه وشرابه ولباسه يبعد أن يُستجاب له، ولو أتى بأسباب الإجابة. 
25- أن الأكل – وفي معناه الشرب- أهم وجوه الانتفاع وبعده اللباس وبعده المركب والمسكن، فالأكل والشرب أولاها بالحلال، ثم ما بعده، وما كان من المكاسب مشتبهاً فينفق في المركب والمسكن. 
26- سوء أثر تغذية الصبي بالحرام وإن لم يكن عليه إثم بذلك. 
27- وصف الله بالربوبية. 
28- التوسل إلى الله –في الدعاء- بربوبيته. 
29- استبعاد الإجابة عن جنس من قام به المانع، فلا يجزم بذلك في حق المعيَّن.
المسجد العتيق اولاد لعياضي 

عبد النور خبابة

"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"


ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏لحية‏ و‏نظارة‏‏‏‏
خطبة الجمعة ليوم : 08 محرم 1439هـ الموافق لـ : 29 09 2017م

"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"
:الخطبة الاولى:الحمد لله، وبحمده يستفتح الكلام، والحمد لله حمده من أفضل ما تحركت به الألسن وجرت الأقلام، أحمده تعالى على الدوام، وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأبان لنا الحلال والحرام، وشرع لنا الشرائع وأحكم الأحكام، وأمرنا بالبر والاجتماع على الحق والاعتصام، ونهانا عن الجفاء وسائر الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، ولي كل إنعام، ذو الآلاء الجسام، والمنن العظام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، هو للأمة بدر التمام، وللأنبياء مسك الختام، المصطفى من الرسل والمجتبى من الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.أما بعــد:فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى، فتقوى الله عروة ليس لها انفصام، وقدوة يأتم بها الكرام، وجذوة تضيء القلوب والأفهام، من تمسك بها سلم من محذور العواقب، ومن تحقق بحملها وقي من شرور النوائب.فاتقوا الله عباد الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
أيها الإخوة المسلمون: من أهم ما يميز هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها أمة متوادة متراحمة متكاتفة متلائمة متحابة، تبني أفرادها، وتقيم مجتمعاتها على أسس التعاون المشترك والتقدير المشاع، وتؤسسها على قواعد الحب المتبادل، والتعامل الرفيق، والسلوك الرقيق، لا مكان في المجتمع الإسلامي للأثرة الممقوتة، والأنانية البغيضة، والفردية المتسلطة، قلوب أفراده مفعمة بالمحبة لإخوانهم، وألسنتهم ثرة بذكر محاسنهم، وعد فضائلهم، حذرة من الوقيعة في أعراضهم، والنيل من كرامتهم، لا يحملون الحقد الدفين، ولا ينشرون الكذب المبين، فهذا مسلك أهل اللؤم والوضاعة، والخسة وقلة المروءة.لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب ولقد أحاط الإسلام المجتمع المسلم بسياج منيع، وحصن حصين ينبع من الداخل يحول دون تصدع بنيانه وتزعزع أركانه، ويعلي أعلام المحبة خفاقة على أرجائه، ورايات الإخاء مخيمة على جنباته، وأقام الضمانات الواقية، والحصانات الكافية التي تحول دون معاول الهدم والتخريب أن تتسلل إلى جبهته الداخلية، فتعمل عملها فرقة وتأليباً، وهدماً وتخريباً. وعلى أهل الإسلام أن يعيشوا بالمحبة في الله، ورعاية إخاء الإسلام، ورباط الأخوة الإسلامية بعيداً عن النعرات والعرقيات، وفي منأى عن الحزبيات والحزازات، وأن يسعوا لإصلاح ذات البين، وحفظ الألسنة من الوقيعة في الأعراض، وسلامة القلوب من الغل والشحناء والحقد والبغضاء، وأن يقفوا سداً منيعاً أمام الجرائم الأخلاقية، والأمراض الاجتماعية، وغوائل الشرور، وبوائق القطيعة، وأدواء القلوب والصدور حتى يسلم المجتمع من التفكك الاجتماعي، والتمزق الأسري، بل والخلاف العقدي والسياسي والفكري، وغيرها مما يأتي على بنيان المجتمع من القواعد، ويحوله إلى مجتمع صراع دائم، وتفكك مستمر ومحن متكاثرة، وفئات متناحرة، فيصبح مجتمع الأخوة والوحدة مجتمع أشتات متناثرة وأفراد متناثرة وآحاد متناثرة وأحزاب متناكرة، وويل للمجتمع يومئذٍ من أعدائه المتربصين حيث سيكون لقمة سائغة لهم.أيها الإخوة في الله: ولما للوحدة والتضامن والاجتماع والإخاء من منـزلة عظيمة، وآثار فريدة، ولما للفرقة والخلاف والتنازع والشقاق من آفات وأمراض كثيرة، وشرور مستطيرة، فقد جاء ديننا الحنيف بالحث على التآلف والمودة واجتماع الكلمة ووحدة الصفوف، والتحذير الشديد من التنافر والفرقة والشقاق والتنازع، فكان من أهم ما جاء به الإسلام بعد عقيدة التوحيد، وكلمة التوحيد توحيد الكلمة ولم الشعث وجمع الشمل؛ لأن في ذلك سر بقاء أهل الإسلام، وضمانة انتصارهم على أعدائهم، وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، يقول عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103]. وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم } وقد ضُمنِت لهم العصمة من الخطأ عند اجتماعهم، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقت، وستفترق على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة، ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.يقول الله عز وجل أيضاً: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول سبحانه وتعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، ويقول جل وعلا: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، ويقول جل وعلا: الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، ويقول سبحانه وتعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، ويقول جل وعلا: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32].
أيها المسلمون: وما شرع الإسلام صلاة الجمعة والجماعة والعيدين، وما شرع الزكاة والحج ونحوها إلا لمواساة المسلمين بعضهم بعضاً، وليحصل الوئام والتآلف، وما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقضى على ما كان بين الأوس والخزرج إلا طلباً لمصلحة الاتحاد والإخاء، وما ظهر أمر المسلمين وقويت شوكتهم، وانتصروا على أعدائهم، وفتحوا البلاد، وقادوا العباد، وصاروا أئمة هدى، ومصابيح هدى ودجى، ودعاة خير وتقى إلا باتحادهم، وبقراءة التاريخ الإسلامي يتجلى ذلك بحمد الله، أمة الإسلام: لقد مرت على هذه الأمة فترات من تاريخها اتحدت فيها صفوفها واجتمعت كلمتها، فعاشت عزيزة كريمة مرهوبة الجانب، ولما دب إليها داء الفرقة والخلاف، انقسمت الأمة الواحدة إلى أحزاب متناثرة، وأمم متناثرة، ولا يزال هذا الداء العضال والمصاب الجلل جاثماً في جسد هذه الأمة، ومستحوذاً على قلوب الشعوب، وأعظم محنة وأشد فتنة أصيبت بها هذه الأمة اليوم هي محنة الفرقة المستحكمة والخلاف المستمر على كل صعيد، وفي كل مستوى، حتى في أبناء الأسرة الواحدة يذكيه الشيطان ويُغليه الهوى، فغلب الشقاق على حياة كثير من الناس إلا من عصم الله، وسادت القطيعة، وعم الجفاء والشحناء، وتنافرت القلوب، وسادت الوحشة والظنون السيئة، وراجت سوق الغيبة والنميمة والبهتان وتناول أعراض الناس، والسعي في الفساد بينهم، فتعمقت الفجوة، واتسعت الهوة، فأصبحت حالة كثير من الناس محزنةً للصديق مفرحةً للعدو، والله المستعان.فيا أمة الإسلام: لماذا الاختلاف والدين واحد؟ لماذا الفرقة والأصل واحد، والقبلة واحدة، والأمة واحدة؟ إلى متى الفرقة وأنتم تدركون ما فيها من الضرر والفساد؟ وهل يختل نظام المجتمع، وتنتشر الفوضى والاضطرابات، وتتصدع أركان الأمة، وتتهدد عروشها، وتنهد حضاراتها إلا بتفرق أهلها وتنازعهم.
وهل تتعطل مصالح البلاد ومنافع العباد إلا بالتفكك والاستبداد للآراء واتباع الأهواء.
وهل يتسلط الأعداء ويتمكنون في رقاب الناس إلا بتضارب الآراء وتحكيم العقول والأهواء، وانتشار الأحقاد والحزازات الشخصية والنزعات الفردية، ففيمَ الاختلاف -يا عباد الله- والإسلام هو الجامع؟ وإلى متى التفرق يا أمة الوحدة والألفة والإخاء؟ إنه لعجيب أمر المسلمين! كيف يرضون لأنفسهم هذه الحالة مع أن الشرائع قد أجمعت والعقول قد أطبقت على ضرر الفرقة وسوء أثرها في الأمة، فما أصابت أمةً إلا أهلكتها، وقضت على وجودها.نعم أيها المسلمون: إن اختلاف الأفهام، وتباين الآراء ليس بمنكر، ولا مستغرب، بل هو من طبع البشر، ولكن الشأن كل الشأن ألا يكون ذلك سبباً للتقاطع والشقاق والتنافر والحسد والحقد والبغضاء، وإنه مما يؤسف له أن كثيراً من الناس قد ابتلوا بهذا الداء، ودأبوا على إحياء بذور الشقاق وغوائل الشرور بين المسلمين، فيتخاصمون ويتقاطعون ويتدابرون لأسباب شخصية وأمور مادية، وقد يكونون أقارب، أو جيران، وبعض الناس يجعلون من الخلاف فيما فيه سعة ومندوحة طريقاً للتناحر والتشاجر والقطيعة، فيا قادة المسلمين! ويا أهل الرأي والفكر! ويا رجال العلم والدعوة والإصلاح! اتقوا الله في أنفسكم وأمتكم، احملوا رايات التضامن والتآلف بين المسلمين قادةً وشعوباً، رعاةً ورعيةً واحرصوا على رأب الصدع وجمع الكلمة ووحدة الصف وتضييق مجاري الخلاف، والقضاء على أسباب النـزاع والخصومات.يا عباد الله! أعداؤكم يقيمون أحلافاً واتحادات وتكتلات للقضاء على الإسلام واحتلال دياره والكيد لأبنائه، والمسلمون أولى أن يقوموا بذلك، وإن لم يجمعهم الحق، فرقتهم الأهواء بالباطل، فوصيتي إلى المسلمين جميعاً من منبع الوحدة والإخاء أن يصلحوا ذات بينهم، ويبتعدوا عن التحريش والخصومات، وأن يعملوا على حب الخير والولاء للمسلمين جميعاً، ويحرصوا على سلامة الصدور وطهارة القلوب من الأحقاد، وسل الضغائن من النفوس، ليكونوا يداً واحدةً على أعدائهم، وإن بوادر التآلف وبذور الاجتماع والوحدة لتبشر بالخير في الأمة الإسلامية، فالأمة بخير، ولا زالت بخير بحمد الله، ونسأل الله أن يزيدها من الخير والتوفيق لتعود إلى سالف مجدها وغابر عزها وقوتها، وما ذلك على الله بعزيز.
أيها المسلمون: إن هناك مظاهر غريبة، وأحداثاً خطيرةً، ووقائع كثيرةً تبين مدى تقهقر وتوتر العلاقات الاجتماعية بين الناس حتى بين أبناء الأسرة الواحدة والرحم والقرابة، ولعلها من إفرازات ضعف الإخاء الإسلامي بين أهل الإسلام، بل بين ذوي القربى وأهل الأسرة الواحدة، فيؤلمك ما آل إليه أمر كثير من الناس من التفكك الاجتماعي الرهيب حتى حصلت النـزاعات، ونشبت الخصومات، ورفعت الدعاوى، وكثرت الشكاوى من أجل خلافات يسيرة حول شيء حقير من حطام هذه الدنيا الفانية، ولربما تضخمت المشكلة، وتعقدت القضية، وتدخل أهل الإصلاح، فيأبى المتخاصمون إلا التشفي والانتقام والثأر وتحكيم حظوظ النفس والهوى، لماذا كل هذا أيها المسلمون؟ويتملكك العجب من بيوت وأسر عصفت بها الخلافات، فتقاطع الأبناء والآباء، قاطع الأبناء آباءهم، وأهمل الآباء أبناءهم، وهجر الأخ أخاه، وطلق الرجل زوجته، وتقاطعا؛ بل وتقاتل أبناء العمومة والخئولة، عياذاً بالله! إن الأمر خطير جد خطيرٍ -أيها المسلمون- لا سيما إذا كان بين القرابة والأرحام، والله عز وجل يقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].لقد وصل الحال ببعض الناس أن تمر الأشهر والسنوات وهو لا يعرف عن أقاربه شيئاً، بل ولا يسأل عنهم، ولا يكلف نفسه، ولو برفع سماعة الهاتف ليصلهم ويسلم عليهم ويتفقد أحوالهم.نعوذ بالله من قسوة القلوب وتبلد المشاعر، وضمور الضمائر، وموت الأحاسيس، واستحكام الدنيا في النفوس، فلأجل حفنة من المال، أو شبر من الأرض، أو مشادة كلامية، أو وشاية نقلها مغرٍ، أو شائعة، أو سوء فهم، تنقطع الأواصر، وتنحل الوشائج، وتنفصم عرى المحبة، وتتحول إلى ضغائن وأحقاد، وتشهير بالمجالس، وظنون سيئة، بل وإلى قطيعة مستديمة، وفرقة مستحكمة، والعياذ بالله. 
وكذلك حال الجيران بعضهم مع بعض، فالواقع أن هناك تقاطعاً كبيراً وتدابراً واضحاً بين كثير من الجيران -هداهم الله- جارك الذي تربطك به علاقة الجوار، وفرض له الإسلام حقوقاً كثيرةً، قد تمر على بعض الناس أشهر، بل أكثر وهو لا يعرف عن جاره شيئاً، قد يمرض ويعافى، ويسافر ويرجع، بل قد يموت ويدفن، وهو يهز كتفيه، وكأن الأمر لا يعنيه في قليل، ولا كثير، الله المستعان! وكذلك ما يحصل بين الأخوة في الله والأصدقاء والزملاء، يجب أن تراعى بينهم حقوق الأخوة في الله، وآداب الصحبة، فلا ولاء إلا لله، ولا بغض إلا في الله، في بعد عن الانتماءات الحزبية.
يجب أن تتسع الصدور للخلاف في وجهات النظر والتباين في الفروع والوسائل ما دام أن الاعتقاد صحيح، وإنك لترى في ذلك عجباً لما أسيء مفهوم الولاء والبراء، وأخذ على الميل والهوى، فحصل البراء من أجل خلاف يسير، والجفاء من أجل أمر صغير، وذلك يتطلب فقهاً وخوفاً من الله.أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
:الخطبة الثانية:الحمد لله أولاً وآخراً، والشكر له باطناً وظاهراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعــد:فاتقوا الله عباد الله، واذكوا روابط الإخاء الإسلامي بينكم، وغذوا وشائج الصدق والمحبة في مجتمعاتكم، وليكن كل واحد منكم -أيها المسلمون- جاداً في علاج هذا الداء العضال، ويكون مفتاحاً للخير والفضيلة مغلاقاً للشر والفتنة والقطيعة والرذيلة. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال، كما نهى عن التدابر والتقاطع، والتحاسد والتباغض، وأن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، فعمل على التحريش بينهم وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] وإنه حينما ترفع الأعمال إلى الله في كل يوم إثنين وخميس، يغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: {أنظروا هذين حتى يصطلحا }.
إن حقاً على كل متشاحنين لا سيما من القرابة والأرحام والأخوة في الله أن يصطلحوا، وأن يجمعوا قلوبهم، وأن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يستعيذوا بالله من نزغات الشيطان الرجيم. فيا أيها المتشاحنون! اصطلحوا فيما بينكم، فإن متاع الدنيا قليل.ويا أيها المتخاصمون! سطروا على صفحات مجتمعاتكم أحرف الوفاء والإخاء والمحبة والوئام، عاهدوا ربكم أن تكونوا إخوة متحابين كما أراد الله لكم، وكما كان سلفكم الصالح رحمهم الله.


المسجد العتيق اولاد لعياضي 

عبد النور خبابة

2017-09-27

"إلا تنصروه فقد نصره الله"


الحمد لله الذي جعل الهجرة تنبيها وتذكيرا، يستنهض بها همم المتقاعسين فكان للمهاجرين وليا ونصيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق الزمان فقدره تقديرا، وحذرنا من الخيانة والخذلان تحذيرا، وأشهد ن سيدنا محمدا أرسله الله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، فكان في ظلام الكفر الدامس سراجا منيرا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم يحدد مصير الناس جنة أو سعيرا.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
ها نحن قد وضعنا أرجلنا على عتبة العام الهجري الجديد، وقد حزم العام الماضي حقائبه وانصرف، حاملا معه ملفات العباد بما لهم وبما عليهم، فطوبى لمن رفع ملفه في سلك أصحاب اليمين، وويل لمن وضع ملفه في سلك أصحاب الشمال. 
وقد قدمنا لكم أن أول شيء نتذكره في بداية كل عام هجري جديد، هو هجرة النبيﷺ من مكة إلى المدينة، ليس لأن الهجرة وقعت في شهر محرم كما يعتقد البعض؛ بل لأن شهر محرم هو بداية عام هجري جديد. أما الهجرة فإنما وقعت في شهر ربيع الأول الشهر الثالث من السنة الهجرية. 
نتذكر الهجرة التي اتخذها الله تعالى وسيلة يذكر بها الناسين، وينبه بها الغافلين، ورسالة يستنهض بها همم المتقاعسين، ويوقظ بها عزائم المتهاونين، على مر العصور والأزمان. وهل تدرون كيف كانت الهجرة كذلك؟
لقد ذكر الله تعالى الهجرة في سورة الأنفال فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
وذكرها سبحانه أيضا في سورة التوبة فقال: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}، وهاتان الآيتان الكريمتان لم تنزلا أثناء الهجرة، ولا بعدها مباشرة. 
أما آية سورة الأنفال فقد نزلت بعد خمس سنوات من الهجرة حين حاصر رسول اللهﷺ بجيوشه يهود بني قريظة في المدينة، وأرسل إليهم وهم محاصرون الصحابي الجليل أبا لبابة، لما له معهم من علاقة قرابة وأسرة، وعلاقة مال وتجارة. ولكنه رضي الله عنه في لحظة ضعف، وتحت ضغط روابط القرابة والمال، كشف لهم عن سر رسول اللهﷺ وعن أهدافه، فلما تبن له أن ما فعله خيانة لله ورسوله، ندم أشد الندم، فربط نفسه بسارية في المسجد النبوي لازالت إلى الآن تسمى بسارية التوبة أو سارية أبي لبابة، وحلف ألا يفك أحد وثاقه حتى يتوب الله عليه، وبعد أيام نزلت هذه الآية الكريمة توبيخا له على خيانته لله ورسوله، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى أن قال الله سبحانه وهو يذكره بالهجرة:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فذكرته الآية الكريمة بأنه لو خان النبيﷺ فإن الله قد نصره في الهجرة وحيدا. 
أما آية سورة التوبة {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} فقد نزلت بعد تسع سنوات من الهجرة، عندما دعا النبيﷺ أصحابه لمحاربة الروم في غزوة تبوك، تلك الغزوة التي جاءت في فصل الحرارة والصيف، وفي سنة الجفاف والقحط، مع بعد المسافة والشقة، فتخلف من أجل ذلك بعض الصحابة، فنزلت هذه الآية الكريمة توبيخا لهم على تقاعسهم عن الاستجابة لنداء النبيﷺ، تذكرهم بالهجرة وبأن الله تعالى ليس في حاجة لجهادهم إن أراد أن ينصر نبيهﷺ.
فما أحوج الأمة اليوم للتذكير بالهجرة وقد تقاعس أفرادها عن نصرة الإسلام في كثير من المجالات، وخذلوا إخوانهم المضطهدين في كثير من الساحات، وتغافلوا نسيانا أو تهاونا عن سيطرة الصهيونية على جميع المستويات، تستنزف الأرواح والأعراض والثروات، كأني بالآية الكريمة اليوم تخاطبنا؛ بل إنها لتخاطبنا: 
إلا تنصروا نبيكمﷺ في أنفسكم بالاقتداء والاتباع، إلا تنصروا نبيكمﷺ في أسركم بحسن التربية والأدب، إلا تنصروا نبيكمﷺ في أموالكم بالحلال الطيب، إلا تنصروا نبيكمﷺ في نسائكم بالعفاف والحجاب، إلا تنصروا نبيكمﷺ في مجتمعكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا تنصروا نبيكمﷺ في إعلامكم بالصدق والأمانة، إلا تنصروا نبيكمﷺ في أحكامكم بالقسط والعدل، إلا تنصروا نبيكمﷺ في القدس وفلسطين، فقد نصره الله في الهجرة وحيدا. فالله تعالى ليس في حاجة لمؤتمرات تستسلم لمؤامرات الأعداء، ليس في حاجة لأمة قد تشت شمل دولها، فكانت الخلافات بينها شديدة، والآمال في اتفاقهم ووحدة كلمتهم لازالت بعيدة، فالله تعالى ليس في حاجة لنصرنا وجهادنا إذا خذلنا نبيناﷺ، بل نحن في حاجة لذلك! {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد}.
فلازال القرآن الكريم يخاطبنا بالهجرة: إن لم تنصروا نبيكمﷺ فقد نصره الله تعالى حين تنكر له كفار مكة ومكروا به، وأجمعوا أمرهم على اغتياله، وقد طوقوا باب بيته بسيوف مشرعة، فمر النبيﷺ بين أيديهم وقد أعمى الله أبصارهم، كما عميت قبل بصائرهم، بعد أن نثر التراب والغبار على رؤوسهم ووجوههم، وهو يقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سد ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}.
لازال القرآن الكريم يخاطبنا: إن لم تنصروا نبيكمﷺ فقد نصره الله وحيدا ليس معه إلا أبو بكر في الغار، يوم كتف الكفار البحث ليقتلوه، وتتبعوا الآثار إلى فم الغار، فيقول أبو بكر: «والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا» فتبسم الرسولﷺ والتبسم في وجه الموت أمر لا يجيده إلا العظماء الواثقون بحفظ الله ونصره، فيقولﷺ: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»؟ فمن المغلوب؟ ومن الخاسر في الجولة؟ {لا تحزن إن الله معنا} فلا خوف مع الله ولا حزن مع الله ولا ضرر مع الله.
لازال القرآن الكريم يخاطبنا: إن لم تنصروا نبيكمﷺ فقد نصره الله في هجرته يوم رصدت قريش من أجل القبض عليه جوائز مغرية مائة ناقة، يوم طارده في الطريق مشرك اسمه سراقة، يرجو من وراءه الفوز بمائة ناقة، والرسولﷺ يقرأ القرآن ولا يلتفت لأن الله معه، فيدعو على سراقة فتغوص به قوائم فرسه في الأرض، فيصبح مهددا بالموت بعد أن هدد به الرسولﷺ فلما تبين له أن الرسولﷺ في حماية ربانية، وتيقن أن النصر حليفه ولو بعد حين، طلب منه أن يكتب له أمانا على حياته، فأمر النبيﷺ له بذلك، فرجع من حيث أتى وهو يصد عن النبيﷺ كل من صادف يبحث عنه، ففي الصباح خرج عدوا للنبيﷺ وفي العشي رجع حاميا للنبيﷺ. 
لقد ذكر الله تعالى إذن الهجرة في معرض تذكير الناس كلما تأخروا عن نصرة الإسلام، وكلما ظهرت منهم بوادر الخيانة والخدلان، بأن الله سينصر نبيه بهم أو بغيرهم؛ بل بجنود من ملائكة الرحمن لا ترى، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب -كما يقول العلماء-، فدل ذلك على أن الهجرة هي أعظم وسيلة تذكر الناسين وتنبه الغافلين، وأجل رسالة تستنهض همم المتقاعسين، وتوقظ عزائم المتهاونين، وقد روى البخاري أن النبيﷺ قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
وفرصة الهجرة لا زالت مواتية، بإمكان المسلم أن يغتنمها فيحصل له أجرها وهذا الحديث يبين لنا أن المهاجر هو من هجر وابتعد عن المحرمات التي نهى الله عنها.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…

2017-09-26

كيف تعلق قلبك بالمسجد؟


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فمن أفضل الوسائل لتعلق القلب بالمسجد هو معرفة ثواب الذهاب إلى المسجد، إن حياة المسلم ترتبط ارتباطا وثيقا بالمسجد؛ لأنه يدخله في اليوم خمس مرات.
فلنأخذ جولة سريعة عن فضائل المساجد، وكيف رغب الله عز وجل عباده في المساجد؟ وما الأجور التي لا نجد ثوابها في غير المسجد؟
ماذا تتوقع أن يُعدّ الله لك من أجور عندما تقدم إلى بيته وتجلس فيه تنتظر أداء فريضة عليك؟ أتظن أنك ستخرج من بيته صفر اليدين وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين؟ كلا والله.
فقد روى سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، فَهُوَ زَائِرُ اللهِ، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ الزَّائِرَ»
إن كبار الأغنياء عندما يدعون الناس إلى بيوتهم لا يخرجون منها إلا وقد ضيفوهم وأكرموهم، وقدّموا لهم أفضل ما لديهم، فيخرجون منها سعداء ممتلئين ومعطرين، فماذا سيقدّم لك الله تبارك وتعالى في بيته وقد دعاك لدخوله؟
أقرأ هذه الفضائل التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وألخصها لك في خمس عشرة خصلة.
أولا: أنك جالس في خير بقاع الأرض، ولقد رغب الله تبارك وتعالى في دخول المساجد واعتبرها بيوته في الأرض وأعطى الأجور الكثيرة منذ المشي إليها حتى الخروج منها، فالمساجد أفضل البقاع التي يحبها الله عز وجل حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»
وذلك لأن المساجد بيوت الطاعات، والأسواق محل الغش والخداع والأيمان الكاذبة والغفلة عن ذكر الله عز وجل.
ثانيا: أنك لا تخطو خطوة إلى بيت الله عز وجل إلا جعل الله لك بكل خطوة تخطوها درجة وتمسح عنك سيئة؛ حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ... ».
ويزداد ثواب المشي إلى المسجد لو مشيت إليه في الظلام حيث روى بريدة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : «بَشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ».
كما يزداد هذا الأجر لو مشيت إلى صلاة الجمعة؛ فيكتب الله لك بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها؛ حيث روى أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا» .
ثالثا: أنك إذا صليت الفريضة في جماعة في أي مكان كُتِبَ لك ثواب سبع وعشرين درجة، أما إذا صليتها جماعة في المسجد فإن لك ثوابا إضافيا وهو ثواب حجة كاملة؛ حيث روى أبو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ... ».
رابعا: أنك لو صليت ركعتي الضحى في أي مكان فلك ثواب من تصدق بعدد سلامى جسمه والبالغ عددها ثلاثمائة وستين سُلامى، أما لو صليت الضحى في المسجد فسيرتفع ثوابها إلى ثواب أداء عمرة، حيث روى أبو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يَنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ، وَصَلَاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ».
خامسا: أنه يكتب لك أنك من المصلين منذ خروجك من بيتك إلى المسجد حتى رجوعك إليه، حيث روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا تَطَهَّرَ الرَّجُلُ، ثُمَّ مَرَّ إِلَى الْمَسْجِدِ يَرْعَى الصَّلَاةَ، كَتَبَ لَهُ كَاتِبُهُ، - أَوْ كَاتِبَاهُ - بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الْمَسْجِدِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَالْقَاعِدُ يَرْعَى لِلصَّلَاةِ كَالْقَانِتِ، وَيُكْتَبُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، مِنْ حَيْثُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إليه».
سادسا: أنك إذا جلست في المسجد تنتظر الصلاة وكلَّ الله لك ملائكة تستغفر لك ما دامت تنتظر الصلاة، حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «...وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ: اللهُمَّ ارْحَمْهُ، اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ».
ولو انتظرت صلاة بعد صلاة كتب الله لك ثواب الرباط في سبيل الله، حيث قال صلى الله عليه وسلم : «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»
فلو صلى أحدنا المغرب وكان فارغا فجلس ينتظر صلاة العشاء؛ كتب الله له ثواب الجهاد في سبيل الله. 
سابعا: أن من أقام درسا في المسجد أو ذهب ليتعلم في المسجد أعطاه الله ثواب حجة كاملة، حيث روى أبو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ».
كل ذلك ترغيبا في دخول المساجد وجعلها جزءا من حياة الفرد.
ثامنا: أنك كلما غدوت أو رحت إلى المسجد أعد الله لك نزلا في الجنة بعدد ذهابك إليه، ومعنى النزل هو ما أُعد للضيف من مكان وطعام ونحوه، حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ»
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّمَا غَدَا، أَوْ رَاحَ».
تاسعا: ومن فضائها وخصائصها أنه لا يصح الاعتكاف إلا فيها.
عاشرا: أن من بنى مسجدا أو ساهم في بنائه ولو كان صغيرا بنى الله له بيتا في الجنة، حيث روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»
الحادي عشر: أن من عَمَرَ المسجد بذكر الله عز وجل شهد الله له بالإيمان حيث قال تعالى )إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى إولئك أن يكونوا من المهتدين( [التوبة: 18].
الثاني عشر: أن من جلس في المسجد بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس كتب الله له ثواب حجة وعمرة، وهذا لا يحصل إلا في المسجد، حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ»،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«تَامَّةٍ، تَامَّةٍ، تَامَّةٍ»
الثالث عشر: أن من التزم حضور المساجد فرح الله به وتبشبش له حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ، كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ».
الرابع عشر: بلغ من كرم الله عز وجل وترغيبه لبيوته أن من قصد المسجد يريد صلاة الجماعة كتب الله له ثواب الجماعة ولو رأى الناس قد صلوا عنه، حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا».
فلذلك إذا فاتتك الصلاة فلا تكسل وتصلي في بيتك؛ وإنما اقصد بيت الله لتنال كل الأجور سابقة الذكر.
بعض الناس لا يجد غضاضة أن يصلي في بيته بمفرده أو إذا كان مع مجموعة من زملائه؛ والسبب جهله بما سيفوته من ثواب؛ ولأن قلبه غير معلق بالمسجد.
الخامس عشر: أن من تعلق قلبه بالمسجد أظله الله في ظله يوم القيامة لحديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: «... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ... »
فهل ستعلق قلبك ببيوت الله بعد هذه الفضائل وتحرص على صلاة الجماعة؟
اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأمراض_التي_تفشت_في_المجتمع_الإسلامي:


ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏زهرة‏ و‏نبات‏‏‏
المروءة كمال الرجولية , ففي المروءة كمال الإنسانية , ومن المروءة العفة والحرفة وقال الأحنف : المروءة أن لاتفعل بالسر أمراً وأنت تستحي أن تفعله جهراً .
والمروءة هي التسارع لعمل الخير وهي من الأخلاق الفاضلة ويرافقها السخاء والكرم والشرف والود والسماحة والعلم والحكمة والشفقة والإيثار , ولا مروءة لمن لادين له لأن المروءة مرآة الأخلاق الفاضلة ومصدر الأخلاق الفاضلة الدين والعقيدة الصحيحة. 
وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن : للسفر مروءة وللحضر مروءة ؛ فأما المروءة في السفر فبذل الزاد ، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله. وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل . 
ومن المروءة نسيان النفس أمام الآخرين, والمبادرة بالنصيحة, والمسارعة في خدمة الناس, والذود عن محارم الغرباء, وتلبية المستغيث. وتظهر المروءة واضحة إذا رافقتها الجرأة والشهامة وكثرة البر. 
قال الأصمعي سمعت أعرابية تقول: لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل ، ولا ألسنة الموازين . 
مر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم ؟! فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه؟ ! إذ يقول الله: 
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) فالعدل، الإنصاف. والإحسان، التفضل، فما بقي بعد هذا ؟ .
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( تجاوزوا لذوي المروءة عن عثراتهم ، فوالذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر وإن يده لفي يد الله تعالى ) ابن المرزبان عن جعفر بن محمد مرسلا 
ومن المروءة الاحتشام في اللباس فإن مراعاة زي الزمان من المروءة ما لم يكن إثما .
قال الماوردي: يشير إلى أن من المروءة أن يكون الإنسان معتدل الحال في مراعاة لباسه من غير إكثار ولا إطراح فإن إطراح مراعاتها وترك تفقدها مهانة وكثرة مراعاتها وصرف الهمة إلى العناية بها دناءة وخير الأمور أوساطها .
وقال عليه الصلاة والسلام ( من المروءة أن ينصت الرجل لأخيه إذا حدثه، ومن حسن المماشاة أن يقف الأخ لأخيه إذا انقطع شسع نعله ) . كنز العمال 7177 عن أنس
وكذلك قوله (ليس من المروءة استخدام الضيف ) .رواه أبو نعيم عن عمر بن عبد العزيز 
وقوله عليه الصلاة والسلام ( ليس من المروءة الربح على الإخوان ) ابن عساكر عن ابن عمر 
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أن معاوية سأله عن الكرم والمروءة فقال: أما الكرم فالتبرع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال والإطعام في المحل، وأما المروءة فحفظ الرجل دينه وإحراز نفسه من الدنس، وقيامه بضيفه، وأداء الحقوق، وإفشاء السلام . 
و أن عمر بن الخطاب قال: كرم المرء تقواه، ومروءته دينه، ودينه حسن خلقه، والجبن والجرأة غرائز ، فالجريء يقاتل عما لا يؤوب على أهله، والجبان يفر عن أبيه وأمه، والقتل حتف من الحتوف، والشهيد من احتسب نفسه.
وقد اختص العرب بالمروءة واشتهروا بها عن غيرهم وفي الحديث: عليكم بتعلم العربية فإِنها تدل على المُروءةِ وتزيد في الموَدّةِ . وتسقط صفة المروءة عن من يتصف بالمجون والسخف والأكل في السوق والبول في قارعة الطريق. 
وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدن العربية بالمروءة عن أهل البادية بسبب جفاء أهل البادية وقسوتهم وبعدهم عن المروءة وطلبهم للزيادة فعن ابن عباس أن أعرابياً وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها قال: ( أرضيت ؟) قال: لا. فزاده. قال: ( أرضيت ؟ ). قال: لا. فزاده. قال: ( أرضيت ؟ ) قال: نعم . قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لقد هممت أن لا أتّهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي)الإتهاب قبول الهبة 
فمن كان يهب شيئا يحب أن يثاب عليه بأفضل منه فهو من الربا ومن المروءة ألا يكون للهبة عوض. فإن كنت صاحب مروءة فإنك كبير في نظر القوم يقتدون بك ويذكرونك بالخير في غيابك ويَضربون بك المثل الصالح بين الناس. 
ولا تظهر المروءة من شحيح ولا من متكبر ولا من خسيس ولا من فاسق فاجر ولا من سارق ولا من مرتش فالمروءة صفة في النفس محمولة على محاسن الأخلاق وجميل العادات.
ومن خوارم المروءة كثرة المزاح واللهو وفحش الكلام والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء وأمثال ذلك .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ما وجدت لئيما قط إلا قليل المروءة.
وعن عوف الكلبي قال : آفة المروءة خلف الموعد .
وليس من المروءة من يسأل الناس وهو قادر على الكسب, وليس من المروءة الكلام البذيء والفاحش, وارتكاب الكبائر تسقط المروءة.
وقد قيل : نعم العون على المروءة المال .
وقال أحد الشعراء :
وليس بمنسوبٍ إِلى العلم والنهى فـتىً لا تُرى فـيه خلائـقُ أربعُ
فواحدةٌ: تقوى الإِله التي بها يُنال جسيمُ الخيرِ والفضلُ أجمعُ
وثانيـةٌ : صـدقُ الحيـاءِ فـإِنـه طـباعٌ عـلـيه ذو الـمروءةِ يطـبعُ
وثالثةٌ: حلمٌ إِذا الجهلُ أطلعتْ إِلـيـه خبـايا مـن فـجـورٍ تسـرَّعُ
ورابعـةٌ: جـودٌ بـملـكِ يـمـينـهِ إِذا نـابه الحقُّ الـذي ليسُ يدفعُ
فهل نفتقد اليوم للمروءة بين الرجال ؟.فأين نجد أصحاب المروءة ؟.. 
ومن علامات المروءة إغاثة الملهوف وهداية الضال وإعانة ذو الحاجة ونصرة المظلوم والعمل بالمعروف والإمساك عن الشر وعون منقطع السبيل والإيثار والحب في الله والبغض في الله وعدم الجلوس في الطرقات وكف البصر عن العورات والجود على السائل ومكافئة المحسن والعفو عند المقدرة وكتم الغيظ والإحسان لمن أساء إليك وقبول الإعتذار وحسن الظن بالآخرين وقول الحق ولو كان صعباً وعدم التكبر وتجنب المراء وحسن الجوار وصلة الأرحام والحلم عند الجهل والتثبت في الأمر وصدق الوعد والوفاء بالعهد .
فأي قيمة لرجل بلا مروءة ؟.
روى عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته )، وقال ابن زياد لرجل من الدهاقين ما المروءة فيكم؟ قال أربع خصال. أولها: أن يعتزل الرجل الذنب فإنه إذا كان مذنباً كان ذليلاً ولم يكن له مروءة. والثانية: أن يصلح ماله ولا يفسده فإن من أفسد ماله واحتاج إلى مال غيره فلا مروءة لـه، والثالثة: أن يقوم لأهله فيما يحتاجون إليه فإن من احتاج أهله إلى الناس فلا مروءة لـه، والرابعة: أن ينظر إلى ما يوافقه من الطعام والشراب فيلزمه ولا يتناول مالا يوافقه فإن ذلك من كمال المروءة، وروي عن قيس بن ثابت بن ساعدة أنه كان يقدم على قيصر فيكرمه فقال لـه قيصر: ما أفضل العقل؟ قال معرفة المرء نفسه: قال ما أفضل العلم؟ قال وقوف المرء عند جهله، قال فما أفضل المروءة؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه. قال فما أفضل المال؟ قال ما قضى منه الحق .

2017-09-22

الهجرة النبوية دروس وعبر










خطبة الجمعة ليوم : 01 محرم 1439هـ الموافق لي 22 09 2017م 
الهجرة النبوية دروس وعبر 
أمَّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فهي أربح المكاسب، وأجزل المواهب، وأسمى المناقِب، وبها تُنال أعلى المراتب، وتتحقَّق أعظم المطالب.عباد الله:
تعيش الأمَّة الإسلاميَّة هذه الأيام إشراقةَ سنةٍ هجريَّة جديدة، وإطلالةَ عامٍ مباركٍ بإذن الله، بعد أن أَفَلَت شمسُ عامٍ كامل، مضى بأفراحه وأتراحه، فقوِّضت خيامه، وتصرَّمت أيامه، فالله المستعان عباد الله، ما أسرع مرور الليالي والأيام، وتصرُّم الشهور والأعوام! لكن الموفَّق الملهَم مَنْ أخذ من ذلك دروسًا وعِبرًا، واستفاد منه مُدَّكَراًً ومُزدَجَراً، وتزوَّد من المَمَرِّ للمَقَرِّ، فإلى الله سبحانه المرجِع والمستقرّ، والكيِّس المُسَدَّد مَنْ حاذَر الغفلة عن الدَّار الآخِرة حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرَّة، فيكون بعد ذلك عظةً وعبرة، واللهَ نسألُ أن يجعل من هذا العام نُصْرَةً للإسلام والمسلمين، وصلاحًا لأحوالهم في كلِّ مكان، وأن يعيده على الأمَّة الإسلاميَّة بالخير والنَّصر والتَّمكين، إنه جوادٌ كريم.إخوة الإسلام:حديث المناسبة في مطلع كلِّ عامٍ هجريٍّ: ما سطَّره تاريخنا الإسلاميّ المجيد من أحداثَ عظيمة، ووقائعَ جسيمة، لها مكانتها الإسلاميَّة، ولها آثارها البليغة في عزِّ هذه الأمَّة وقوَّتها وصلاح شريعتها لكلِّ زمانٍ ومكان، وسعيها في تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد.
معاشر المسلمين: ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمَّة الجديرة بالإشادة والتَّذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد، علَّها تكون سببًا في شَحْذ الهِمَم، واستنهاض العزمات للتمسُّك الجادِّ بكتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحاملةً على الاتِّعاظ والاعتبار، ووقفاتِ المحاسبة الدقيقة، ونظراتِ المراجعة المستديمةِ في الأمَّة، تجديدًا في المواقف، وإصلاحًا في المناهج، وتقويمًا للمسيرة في كافَّة جوانبها.إخوة العقيدة: وأوَّل هذه الإشارات - مع حَدَث السَّاعة وحديثها -: الحدث الذي غيَّر مجرى التاريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتَّضحية والإباء، والصَّبر والنَّصر والفداء، والتوكُّل والقوَّة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنَّه حَدَثُ الهجرة النبويَّة، الذي جعله الله سبحانه طريقًا للنَّصر والعزَّة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يُشِعَّ في جميع أرجاء المعمورة لو بقيَ حبيسًا في مَهْدِه، ولله الحكمة البالغة في شَرْعِه وكَوْنِه وخَلْقِه. إنَّ في هذا الحدث العظيم من الآيات البيِّنات والآثار النيِّرات والدروس والعِبَر البالغات ما لو استلهمته أمَّة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطُّرُق؛ لتحقَّق لها عزُّها وقوَّتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنَّه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلاَّ بالتمسُّك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوَالذي بعث محمَّدًا بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ما قامت الدُّنيا إلا بقيام الدِّين، ولا نال المسلمون العزَّة والكرامة والنَّصر والتَّمكين إلاَّ لما خضعوا لربِّ العالمين، وهيهات أن يحلَّ أمنٌ ورخاءٌ وسلامٌ إلاَّ باتِّباع نهج الأنبياء والمرسلين. إذا تحقَّق ذلك أيُّها المسلمون وتذكَّرتِ الأمَّة هذه الحقائق النَّاصعة، وعملت على تحقيقها في واقع حياتها؛ كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به، والدِّرع الحصين الذي تتَّقي به في وجه الهجمات الكاسحة والصراع العالمي العنيف، فالقوة لله جميعًا، والعزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
أمَّة التَّوحيد والوَحْدة: لقد أكَّدت دروس الهجرة النبويَّة أنَّ عزَّة الأمَّة تكمن في تحقيق كلمة التَّوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأنَّ أيَّ تفريطٍ في أمر العقيدة أو تقصيرٍ في أخوَّة الدِّين مآله ضعف الأفراد وتفكُّك المجتمع وهزيمة الأمَّة، وإنَّ المتأمِّل في هزائم الأمم وانتكاسات الشُّعوب عبر التاريخ - يجد أنَّ مَرَدَّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتَّساهل في جانب الثَّوابت المعنويَّة مهما تقدَّمت الوسائل الماديَّة، وقوَّة الإيمان تفعل الأعاجيب، وتجعل المؤمن صادقًا في الثِّقة بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه، لا سيَّما في الشَّدائد.
ينظر أبو بكر الصدِّيق رضيَ الله عنه إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصَرَنَا! فيجيبه جواب الواثق بنصر الله: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!)).الله أكبر! ما أعظم لطف الله بعباده ونصره لأوليائه، وفي هذا درسٌ بليغٌ لدعاة الحقِّ وأهل الإصلاح في الأمَّة: أنه مهما احْلَوْلَكَتِ الظُّلمات فوعد الله آتٍ لا محالة: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [يوسف: 110].
أمَّة الإسلام: ودرسٌ آخَر من دروس الهجرة النبويَّة، يتجلَّى في أنَّ عقيدة التَّوحيد هي الرَّابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القوميَّة والتمايزات القَبَلِيَّة والعلاقات الحزبيَّة، واستحقاق الأمَّة للتبجيل والتَّكريم مدينٌ بولائها لعقيدتها وارتباطها بمبادئها، يُقال ذلك - أيُّها المسلمون - وفي الأمَّة في أعقاب الزَّمن منهزمون كُثُر، أمام تيَّارات إلحاديَّة وافدة ومبادئ عصريَّة زائفة، ترفع شعارات مصطنَعة وتطلق نداءات خادعة، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذلَّ والصَّغار، والمهانة والتَّبار، والشَّقاء والبَوَار، فأهواءٌ في الاعتقاد، ومذاهبٌ في السياسة، ومشاربٌ في الاجتماع والاقتصاد، كانت نتيجتها التخلُّف المهين والتمزُّق المشين. وفي خضمِّ هذا الواقع المُزْرِي يحقُّ لنا أن نتساءل بحرقةٍ وأسى: أين دروس الهجرة في التَّوحيد والوَحْدة؟! أين أخوَّة المهاجرين والأنصار مِن شعارات حقوق الإنسان المعاصِرة ومدنيَّته الزَّائفة؟! 
فقولوا لي بربِّكم: أيُّ نظامٍ راعَى حقوق الإنسان وكرَّمه أحسن تكريمٍ وكفل حقوقه كهذا الدِّين القويم؟! فلتَصُخَّ منظَّمات حقوق الإنسان العالمية إلى هذه الحقائق، وتطَّرِح الشَّائعات المغرِضة عن الإسلام وأهل الإسلام وبلاد الإسلام، إن أرادت توخِّي الصِّدق والموضوعيَّة /إنَّ هذه الإلماحة إلى درس الهجرة في التَّضحية والبَذْل والفداء، ومراعاة كرامة الإنسان والحفاظ على حريَّته وحقوقه، يجرُّ - يا رعاكم الله إلى تذكُّر أحوال إخواننا في العقيدة في بقاعٍ شتَّى من العالم؛ حيث حلَّت بهم مصائب وبلايا، ونكبات ورزايا. سائلوا أرضَ النبوَّات ومهد الحضارات ومنطلَق الرسالات وبلاد المعجزات؛ فلسطين المجاهِدة: ماذا تعاني من صلفٍ يهوديٍّ سافر، ومن حقدٍ صهيونيٍّ أرْعَن؟!
إخوة الإيمان:وفي مجال تربية الشَّباب والمرأة، وميدان البيت والأسرة - يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفَوِيَّة، على صاحبها أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم؛ ففي موقف عبدالله بن أبي بكر رضيَ الله عنهما في خدمة ونُصْرَة صاحب الهجرة عليه الصَّلاة والسَّلام - بأبي هو وأمي - ما يجلِّي أثرَ الشَّباب في الدَّعوة، ودورهم في الأمَّة ونُصْرة الدِّين والملَّة. أين هذا ممَّا ينادي به بعض المحسوبين على فكر الأمَّة وثقافتها من تخدير الشَّباب بالشَّهوات، وجَعْلِهم فريسةً لمهازل القنوات وشبكات المعلومات، في الوقت الذي يعدُّون فيه للاضطلاع بأغلى المهمَّات؛ في الحفاظ على الدِّين والقِيَم، والثَّبات على الأخلاق والمبادئ، أمام المتغيِّرات المتسارِعة، ودعاوَى العَوْلَمَة المفضوحة؟!أيُّها الإخوة والأخوات: وفي موقف أسماء بنت أبي بكر رضيَ الله عنها، ورضيَ الله عن آل أبي بكر وأرضاهم ما يجلِّي دورَ المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها؛ فأين هذا من دعاة المدنيَّة المأفونة، الذين أجلبوا على المرأة بخيلهم ورَجْلِهم، زاعمين - زورًا وبهتانًا - أنَّ تمسُّك المرأة بثوابتها وقِيَمها، واعتزازها بحجابها وعفافِها - تقييدٌ لحريَّتها وفقدٌ لشخصيَّتها، وبئس ما زعموا؟! فخرجت من البيت تبحث عن سعادةٍ موهومة وتقدميَّة مزعومة، لتظنّها في الأسواق والشوارع والملاهي والمصانع، فرجعت مسلوبةَ الشَّرف، مدنَّسةَ العِرْض، مُغتصَبةَ الحقوق، عديمة الحياء، موؤودة الغَيْرَة، وتلك صورةٌ من صور إنسانيَّات العصر المزعومة وحريَّته المأفونة ومدنيَّته المدَّعاة. ألا فليعلم ذلك اللاهثون واللاهثات وراء السَّراب الخادع، والسائرون خلف الأوهام الكاذبة.أيُّها الأحبَّة في الله وإشارةٌ أخرى إلى أمرٍ يتعلَّق بحَدَث الهجرة النبويَّة، في قضيةٍ تعبِّر بجلاءٍ عن اعتزاز هذه الأمَّة بشخصيتها الإسلاميَّة، وتُثبِت للعالم بأسره استقلال هذه الأمَّة بمنهجها المتميِّز المستَقى من عقيدتها وتاريخها وحضارتها، إنها قضيَّةٌ إسلاميَّةٌ، وسنَّةٌ عُمَرِيَّة أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه إنَّها التَّوْقيت والتَّأريخ بالهجرة النبويَّة المبارَكة، وكم لهذه القضيَّة من مغزًى عظيم يَجْدُر بأمَّة الإسلام اليوم تذكُّره والتقيُّد به، كيف وقد فُتِنَ بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبُّه بهم في تاريخهم وأعيادهم، أين عزَّة الإسلام؟! وأين هي شخصية المسلمين؟! هل ذابت في خضمِّ مُغرِيات الحياة؟! فإلى الذين تنكَّروا لثوابتهم وخدشوا بهاء هُوِيَّتهم، وعملوا على إلغاء ذاكرة أمَّتهم، وتهافتوا تهافتًا مذمومًا، وانساقوا انسياقًا محمومًا خلف خصومهم، وذابوا وتميَّعوا أمام أعدائهم، ننادي نداءَ المحبَّة والإشفاق: رويدكم؛ فنحن أمَّة ذات أمجاد وأصالة، وتاريخ وحضارة، ومنهج متميِّز مُنْبَثِق من كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم فلا مساومةَ على شيءٍ من عقيدتنا وثوابتنا وتاريخنا، ولسنا بحاجةٍ إلى تقليد غيرنا؛ لكنَّه التَّقليد والتَّبعيَّة، والمجاراة والانهزاميَّة، والتَّشبُّه الأعمى من بعض المسلمين - هداهم الله وقد حذَّر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّته من ذلك بقوله فيما أخرجه الإمام أحمد وأهل "السُّنن": ((مَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم))[2]، والله المستعان
الخطبة الثَّانية
الحمد لله الملك القدُّوس السلام، مُجري الليالي والأيام، ومُجدِّد الشهور والأعوام، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل شهر المحرَّم فاتحة شهور العام، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التَّمام، ومِسْك الختام، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله البَرَرَة الكِرام، وصَحْبِه الأئمَّة الأعلام، والتَّابعين ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ ما تعاقب النُّور والظَّلام.
.أيُّها الإخوة المسلمون: وثالث هذه الإشارات إلى حدث عظيم في شهر الله المحرَّم، فيه درسٌ بليغٌ على نصرة الله لأوليائه وانتقامه من أعدائه مهما تطاولوا، إنَّه حدث قديم، لكنَّه بمغزاه متجدِّدٌ عبر الأمصار والأعصار، إنه يوم انتصار نبيِّ الله وكليمه موسى عليه السَّلام وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعِبَر والعظات والفِكَر للدعاة إلى الله في كلِّ زمانٍ ومكان، فمهما بلغ الكَيْد والأذى والظُّلْم والتسلُّط؛ فإن نصر الله قريبٌ، ويا لها من عبرةٍ لكلِّ عدوٍ لله ولرسوله ممَّن مشى على درب فرعون، أنَّ الله منتقمٌ من الطُّغاة الظَّالمين، طال الزمن أو قَصُرَ؛ فيوم الهجرة ويوم عاشوراء يومان من أيام النَّصر الخالدة. 
ألا فلتقرَّ بذلك أعين أهل الحقِّ ودُعاته؛ فالعاقبة للمتَّقين، وليتنبَّه لذلك قبل فوات الأوان أهلُ الباطل ودُعاته، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشَى ﴾ [النازعات: 26]، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14].
إنَّ في الحوادث لعِبَرا، وإنَّ في التاريخ لخَبرا، وإنَّ في الآيات لنُذُرا، وإنَّ في القَصَص والأخبار لمُدَّكَرًا ومُزْدَجَرا، ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏18‏ شخصًا‏، و‏‏حشد‏‏‏
اللهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخِرها، وخير أيَّامنا يوم نلقاكَ.اللهم اجعل حاضرنا خيرًا من ماضينا، ومستقبلنا خيرًا من حاضرنا، إنَّك خير مسؤولٍ وأكرم مأمول.أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، من كلِّ الذنوب والخطايا والسيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه كان توابًا.
المسجد العتيق أولاد لعياضي برج الغدير
عبد النور خبابة 

2017-09-18

وقفات تربوية من سيرة الرسول في القرآن الكريم


إن الحمدَ للهِ، نحمَدهُ ونَسْتَعينهُ، ونستغفِرُهُ، ونَستهديه، ونَعوذُ بالله مِنْ شُرُور أنفسِنا ومِنْ سَيئاتِ أَعمالِنَا، مَنْ يَهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ له، وَأَشْهَدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وَأَشْهَدُ أن محمداً عَبدُه ورَسولُه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -:
وقع في القرآن الكريم أساليب متنوعة لمدح الأنبياء والمرسلين ألا أن أكثر الأنبياء نصيباً في المدح الإلهي هو النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف لا؟ وقد تنزلت عليه آيات الذكر الحكيم وجعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد توزعت معها الأغراض والمقاصد البلاغية والإرشاد وذلك من أجل الاقتداء بأخلاقه العالية التي أثنى عليها الخالق - عز وجل - حسب ما يقتضيه السياق، ويمكن أن نجمعها في ثلاثة جوانب:
الأول: مدحه - صلى الله عليه وسلم - في الجانب العقدي والإيماني كمدحه بصفة الإيمان في قوله تعالى ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، وأعظم المدح وأغلبه في النظم القرآني اقتران ذكره - صلى الله عليه وسلم - مع الله - عز وجل - في مواطن كثيرة منها قوله تعالى﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [النساء: 59]، ومن أساليب المدح ذكره - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل كما في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [الأعراف: 157] لذا جاء الأمر بالإيمان به في قوله تعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].

وقد خصه السياق بالأمية مدحاً، ((والأمية وصف خص الله به من رسله محمداً - صلى الله عليه وسلم -... وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه مع أنها في غيره وصف نقصان... صارت أميته آية على كون ما حصل له إنما هو من فيوضات إلهيه)) [2].

الثاني: مدحه - صلى الله عليه وسلم - في الصفات الإنسانية ومقومات التعامل التي تبرز في سلوكه؛ إذ جعلته محط الاقتداء والتأسي. قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4] ومنها الرحمة في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ومنها الهداية كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52] ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ أُذُنُ خَيْرٍ ﴾ [التوبة: 61] فقد ((جاء وصف المدح من الله تعالى بمقابل وصف المشركين والمنافقين فهو أذن في الخير))[3].

الثالث: مدحه - صلى الله عليه وسلم - في ذكر اسمه الصريح (محمد) في أربع آيات، وأحمد في موضع واحد وبهما يتحقق المدح لما ((بين الاسمين من وشائج وصلات أن محمداً هو المحمود حمداً بعد حمد من كثرة حامديه وموجبات الحمد فيه، وأما أحمد فيدل على استحقاق لما لا يستحقه غيره من حمد، فمن حيث كانت زيادة الحمد في محمد من جهة الكمية كانت زيادة الحمد من أحمد من جهة الكيفية)) [4]، ومن بديع النظم تسمية سورة قرآنية (سورة محمد) أسوة بغيره من الأنبياء والمرسلين، و((كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ونباهة قدرة إذ كل اسم منها ينبئ عن ناحية من نواحي العظمة فيه)) [5]، وكل هذا يدخل مدحا وتكريماً تحت قوله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4]، وكل الآيات القرآنية تبين سيرته وأخلاقه ودعوته عليه الصلاة والسلام[6].

إن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - نبي هذه الأمة تزخر بالقدوة والمثل الأعلى، وهذا الذي فتأت أمم الكفر تبحث عنه، أما أمته - صلى الله عليه وسلم - فحياته أمامهم كصفحات الفخر الناصح يستقون من سيرته، فتملأ نفوسهم إيماناً بالله - عز وجل -، وبهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - العظيم، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾.
وإن الحديث عن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتاج إلى وقفات كثيرة؛ فإن حياته - صلى الله عليه وسلم - كلها تبين لنا عزيمته وعلو همته في شتى المجالات: في الدعوة، والجهاد، والعبادة، وغير ذلك من سيرته العطرة - عز وجل -، فهو - صلى الله عليه وسلم - قدوة للناس كافة على اختلاف أجناسهم وألوانهم[7].

ومن الجوانب التي سنقف عليها في سيرته ما يأتي:

أولاً: الدعوة إلى الله - عز وجل -:
لقد اتصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتصالاً شخصياً بقومه، وعرض نفسه على قبائل العرب، ورحل من أجل تبليغ الدعوة، وسلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل طريق لتبليغ الدعوة على الوجه الأكمل، قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾} [يوسف: 108]، أي: قل يا محمد هذه طريقتي وسنتي، ومنهجي ودعوتي أنا ومن سار معي على نفس الدرب؛ لأنها السبيل المؤدي إلى مرضاة الله والجنة، لما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقيام والنهوض بإنذار الناس قيام عزم وتصميم على تحقيق المقصود[8]، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾[المدثر: 1، 2]، ثم أمر الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يصدع بالدعوة إلى الله، قال تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، فجهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة، وصرح بها هو وأصحابه، ولما نزل قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [الشعراء: 214 - 216] فما كان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أن قام بإنذار قومه ودعوتهم إلى الله تعالى بهمة عالية وعزم صادق، ويظهر ذلك في الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ((لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ صَعِدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: ((يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ)) - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: ((أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)) قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [المسد: 1، 2] [9].

واستجاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمر ربه وقام بتنفيذه، فهذه هي الهمة العالية التي تقود الإنسان للمعالي، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - صدع بأمر الله تعالى لا تأخذه في الله لومة لائم، فدعا إلى اللهِ الصغيرَ والكبيرَ، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والأحمر والأسود، والجن والأنس[10].

وفي سبيل هذه الدعوة إلى الله - عز وجل - واجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الأذى، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30] وقد عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك مكة موطنه ومسقط رأسه متجهاً إلى المدينة المنورة من أجل هذه الدعوة.

قال سيد قطب: ((لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحبسوه حتى يموت، أو ليقتلوه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا)) [11].

ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان صاحب همة عالية، فواجه هذا التحدي بثقته بالله - عز وجل - ((فيا للثقة العظمى تنسكب في حنايا نفس الرسول الكريم، ويا للتأييد الرباني المطلق الذي ما بعده من تأييد، ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، فأي قوة تثبت أمام الرسول الكريم وقوة الله معه؟، وأي تدبير يقف في وجهه وعناية الله تحوطه وتصونه وترعاه؟، ويا للسكينة تغشى نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - المطمئنة بنصر الله فإذا هي تمضي في الطريق الوعر، وكلها ثقة بهذا النصر، مهما اشتدت وعورة الطريق)) [12].

وصبر - صلى الله عليه وسلم - على أذى المشركين في مكة، وما لاقاه هو وأصحابه من صنوف العذاب والتضييق، ثم عفوه عنهم ومغفرته لهم لما أظهره الله عليهم، وتألف قلوبهم على الإسلام، وخير دليل على علو همته التي تحجز النفس عن أن تشفي غيظها، وأن تنتقم لما حصل لها إبان الضعف وعدم القدرة، ولكنه كان القدوة في امتثال أمر الله - عز وجل -، وكان القدوة في همته وعزيمته الصالحة القوية.

ومما يبين لنا قوة إرادته - صلى الله عليه وسلم -وعزمه على تبليغ الدعوة: سيرته التي تحفل بمواقف كلها تدل على الهمة العالية والتوكل على الله - عز وجل - من غير جزع، أو عجز، أو تشكٍّ، فلقد حاول كفار قريش أن يثنوه - صلى الله عليه وسلم - عن إرادته وعزيمته القوية بأسلوبين:
أولها: الإيذاء والتعذيب.
وثانيهما: الإغراء وتقديم التنازلات.

وفي الأسلوب الأول تفننوا وجاءوا بكل ما دلتهم عليه أفكارهم الشيطانية، فتارة بالسب واتهامه بالسحر والجنون والكذب والافتراء، وتارة بتسليط السفهاء عليه يؤذونه بإلقاء القذر عليه، وتارة في التضييق والمنع، وتارة في محاربته نفسيا وتحطيم معنوياته - صلى الله عليه وسلم -، فقد تفننوا في إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يراعوا فيه قرابة، وتخطوا حدود الإنسانية[13].

فلم تصرفه - صلى الله عليه وسلم - الإغراءات ولا العروض ولا الملذات ولا الشهوات عن همه وهمته ومبتغاه ووجهته، بل ولا حتى المشاقُّ والأتعاب والتهديدات والترهيب والتخويف، بل كان رابط الجأش، رافع الهامة، قوي العبارة خالصاً مخلصاً لله تعالى، عاش - صلى الله عليه وسلم - يريد وجه الله، همه إرضاء الله تعالى وخدمة دينه، وتبليغ شريعته إلى الخلق، لإنقاذهم من ظلمات الكفر والجهل في الدنيا، ودركات جهنم في الآخرة، فلم يصرفه عن هذا الهدف صارف، ولم يعقه عن تحقيقه عائق.

وقد تجلى ثباته - صلى الله عليه وسلم - لله تعالى في عبادته وجهاده ونصحه للمسلمين ودعوته وأمره ونهيه، وظهر ذلك جلياً من خلال ما تم إيراده في الفقرة السابقة، إذ ثبت أمام الإغراءات والتهديدات، ولم يتزحزح أو يتراجع، بل حاصروه وأهله في شعب أبي طالب ثلاث سنين حتى بلغ منهم الجهد مبلغه وأخذوا يأكلون الأوراق والجلود، وكان يُسمع صوت النساء والصبيان يتصايحون من الجوع، فما فل ذلك من عزيمته - صلى الله عليه وسلم - ولا توقف عن دعوته، بل استمر وصبر وتحمل ودوام عليها، ووضعوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد، وحثوا التراب في وجهه وأدموا قدميه، وشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، ومع هذا ظل - صلى الله عليه وسلم - ماضياً في سبيله يدعو إلى الله تعالى، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على بصيرة - صلى الله عليه وسلم -.

هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم لنا القدوة بالفعل والعزيمة الصادقة فعلاً. إنه صدق الإيمان وعزمه وقوة الثبات والتحمل الذي ينبغي أن يكون عليه كل مسلم مؤمن، وكل داعية إلى الله؛ فإن توفر قوة العقيدة وثباتها زالت وهانت بسببها كل المصائب والمحن، واستلذها الداعية إلى الله، هذا هو اليقين وهو التوكل على الله، وهو الدافع الأسمى للثبات على المبدأ، وعلى العقيدة والصبر والتحمل[14].

ومن أهم المجالات العملية التي تبين لنا علو همة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسيرته الدعوية مبادرته في بناء المسجد النبوي، فأول عمل قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بناء المسجد؛ لأنه هو الذي يمثل حياة المسلمين وعباداتهم، فكان لابد من معلم إسلامي يمثل الدولة الإسلامية الجديدة، ويرسخ دعائمها، انطلاقاً من الإيمان بالله وتطبيقاً لشرائع دينه سبحانه.

يقول الله تعالى: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108]. فهذا تأكيد على مبادرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومشاركته الصحابة y في بناء المسجد وتشجيعه لهم في أثناء العمل، فكان ينقل معهم اللبن ويقول:
اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ... فاغفر للأَنْصَارَ، وَالمُهَاجِرَهْ[15]

قال الرازي - واصفاً هذا العمل من النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما قوله: ﴿ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ﴾ [التوبة: 109] أي: للخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه، وذلك لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا عند هذه الرهبة والرغبة، وحاصل الكلام أن الباني لما بنى ذلك البناء لوجه الله تعالى وللرهبة من عقابه، والرغبة في ثوابه، كان ذلك البناء أفضل وأكمل من البناء الذي بناه الباني لداعية الكفر بالله والإضرار بعباد الله)) [16].

إن بناء المسجد أهم ركيزة من ركائز بناء المجتمع الإسلامي، فالنظام الإسلامي قائم على شيوع أواصر المحبة والأخوة في الله، فلا يمكن تقوية تلك الأواصر إلا ببناء المسجد؛ فيلتقون على طاعة الله، ويجددون الميثاق والعهد مع الله والقيام بما فيه مصلحة لهذا الدين، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - غرس أول بذرة في بناء المجتمع الإسلامي وسارع في بناء المسجد، فكان هذا البناء بداية عهد جديد لزرع أواصر الإيمان والإخاء والتعاون.

ومجال علو همة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس في الدعوة فحسب، بل يتعداه إلى جوانب الحياة بصفة عامة، ففي غزواته كان يتقدم الصحابة y أو يوجههم من مركز القيادة، وكان في غزوة الخندق يربط الحجر على بطنه، ويحفر الخندق مع الصحابة، ويرتجز مثل ما يرتجزون، فكان مثالاً للمربي القدوة يتبعه الناس ويعجبون بشجاعته وصبره.

وكذلك في تعليم أصحابه وجهاده وشجاعته وبذله وكرمه وجميع أخلاقه، وفي عبادته من صوم وصلاة ونحوها كان القدوة في الإرادة التي تعمل دون كلل أو ملل فكان - صلى الله عليه وسلم - مثالاً وقدوة يقتدى به في علو الهمة وقوة العزيمة.

ثانياً: النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد في سبيل الله:
إن الجهاد في سبيل الله أمر يحتاج إلى همة عالية وعزم قوي، وذلك لأنه شاق على النفس، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعلى الناس همة في الجهاد والمضي فيه والإعداد له، وما ذلك إلا إعلاءً لكلمة الله - عز وجل -، واستجابة لأمره تعالى، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 159] وذلك بعد مشاورة أصحابه. يقول الطبري: ((والمعنى: إذا تبين لك الأمر وعزمت على جهاد عدوك فامض على ما أمرت به على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك))[17].

وإن معركة أحد لتبين قوة عزمه - صلى الله عليه وسلم - وعلو همته في المضي إلى القتال؛ لما جمعت قريش جموعها لقتال المسلمين استشار - صلى الله عليه وسلم - صحابته y فقال لهم: ((لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ، فَقَالَوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ - قَالَ عَفَّانُ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ: شَأْنَكُمْ إِذًا، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، قَالَ: فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْيَهُ، فَجَاءُوا فَقَالَوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ)) [18].

ويبين عزمه - صلى الله عليه وسلم - في جهاد الأعداء من خلال تحريض أصحابه على الجهاد: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ [الأنفال: 65] والتحريض: المبالغة في الحث على الأمر[19]، حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم من الترغيب في الجهاد، ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك.

ولا شك أن من يحض المؤمنين هو أقواهم عزماً وأعلاهم همة في تنفيذ هذا الأمر، ويظهر ذلك في قوله تعالى: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 84] يقول الرازي: ((دلت الآية على أن الله تعالى أمره بالجهاد ولو وحده)) [20].

فلو تثبط الأصحاب عن القتال فإنه لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم، فتقدم أنت إلى الجهاد، وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتباطأ عن أمر ربه، وهذا من تمام عزمه وقوة همته، فهو القائل: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ))[21].

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73]، وفي تفسير هذه الآية كلام جميل للمفسرين، منه ما ذكره ابن جرير أن في الآية ثلاثة أقوال:
الأول: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: يجاهدهم بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه.

الثاني: عن الحسن وقتادة: أن المراد جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين بإقامة حدود الله عليهم.

الثالث: عن ابن عباس يقول: جاهد الكفار بالسيف، وأغلِظ على المنافقين بالكلام.

ثم اختار ابن جرير قول ابن مسعود حيث يقول: ((وأول الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قاله ابن مسعود من أن الله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - من جهاد المنافقين بنحو الذي أمره به من جهاد المنافقين)) [22].

ويقول سيد قطب في تفسير هذه الآية: ((لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاين المنافقين كثيراً، وأغض عنهم كثيراً وصفح، فها هو ذا يبلغ الحلم غايته، وتبلغ السماحة أجلها، ويأمره ربه أن يبدأ معهم خطة جديدة، ويلحقهم بالكافرين في النص، ويكلفه جهاد هؤلاء وهؤلاء جهاداً عنيفاً غليظاً لا رحمة فيه ولا هوادة.

إن للين مواضعه وللشدة مواضعها. فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة، وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع.. وللحركة مقتضياتها، وللمنهج مراحله. واللين في بعض الأحيان قد يؤذي، والمطاولة قد تضر)) [23].

فكل هذا يؤكد لنا علو همة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف لجأ إلى الشدة والقوة في معاملة المنافقين إذا دعت الحاجة إليها؛ لأن الضمير في قوله تعالى: ﴿ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة:73] يعود على الفريقين: الكفار والمنافقين، ومعناه: جاهدهم بكل ما تستطيع مجاهدتهم به، بما تقتضيه الحال، واشدد عليهم في هذه المجاهدة[24].

لقد كانت همة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء هذه الفريضة أداء أصحاب الهمم العالية، والشجاعة الإقدام والثبات على المبدأ، واحتقار الموت في سبيل العقيدة، فهمته قد بلغت الذروة في هذا الأمر، فكان المجاهد الأعظم في التاريخ، حارب يوم بدر ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم حنين، وفي كثير من المواقع التي يعاني فيها من القلة من المؤمنين ومن ضعف الشوكة كان يقف - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة الفتن والحوادث الجسام بإيمان راسخ، وهمة عالية؛ ليكافح أعداء الملة والدين، بصبر ومصابرة، وهمة وعزمة صادقة.

فعلينا أن نقتدي بأعظم صاحب همة عالية رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة ونحن في هذه الأيام نعيش في وقت أظهر الكفار والمنافقون حقدهم وبغضهم للإسلام، فلنجاهد كما أمرنا القرآن الكريم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

ومما يظهر لنا علو همة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعزمه الصادق في جهاد الأعداء التحريض على الأمر بالقتال فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73].

يقول السعدي في تفسير هذه الآية: ((أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذكر فضائل الشجاعة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم))[25].

علاج الهم والحزن في ضوء الكتاب والسنة


إن طبيعة الإنسان في هذه الحياة الدنيا تتقلب من صحة إلى مرض , ومن عافية إلى بلاء , ومن فرح إلى حزن , والسعيد حقاً من جمع بين ثلاث خصال : الشكر في حال النعم , والصبر في حال البلاء , والاستغفار حيال الذنوب , وإذا كانت حياة الإنسان عرضة للهموم , والغموم , والأحزان , والأكدار , فإن هذا يوجب علينا أن نسعى إلى إزاحة هذه الهموم والأحزان ما أمكننا ذلك بالسعي في أسباب انشراح الصدر ومنها:

السبب الأول : الدعاء :
بالدعاء تتحقق الآمال , وتتيسر الأمور , وتُقضى الحاجات , وتُفرج الكربات , فينبغي للعبد أن يُلح على الله عز وجل بالدعاء حتى يستجيب له .
والدعاء منه ما يكون وقائياً , ومنه ما يكون علاجياً , فالدعاء الوقائي : مثل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اللهم إني أعوذ بك من الهم , والحزن , والعجز , والكسل , والبخل , والجبن , وضلع الدين , وغلبة الرجال ).
ومن الأدعية العلاجية لإزالة الهم والغم : الدعاء المشهور الذي حث النبي صلى الله عليه وسلم على حفظه , وتعلمه , وتعليمه , فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( ما أصاب أحداً قط هم , ولا حزن , فقال : اللهم إني عبدك بن عبدك بن أمتك , ناصيتي بيدك , ماض في حكمك , عدل في قضاؤك , أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك , أو علمته أحداً من خلقك , أو أنزلته في كتابك , أو استأثرت به في علم الغيب عندك , أن تجعل القرآن , ربيع قلبي , ونور صدري , وجلاء حزني , وذهاب همي , إلا أذهب الله همه وحزنه , وأبدله مكانه فرجاً , قال : فقيل : يا رسول الله ألا نتعلمها , فقال : بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها )  .
السبب الثاني : الإخلاص :
إن إخلاص العمل لله عز وجل سر من أسرار السعادة ؛ لأن العبد إذا كان يعمل للهعز وجل , ويبتغي ما عنده من الأجر والثواب , فإنه لن ينتظر شكراً من أحد , ولا ثناء , ولا حمد , فلا يتبع نفسه الحسرات , والندم , والآهات إن لم يتلقى كلمة شكر , أو إحسان ممن أحسن إليه , أو بذل له معروفاً .
ومتى لازم العبد الإخلاص وجعله شعاره نجاه الله من الكربات وأزاح عنه الهموم والمنغصات , ومما يدل على أن الإخلاص لله في الأعمال سبب لتفريج الكرب , وزوال الهم , والغم , النفر الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فالأول : توسل ببره لوالديه , وتوسل الثاني : بعفته عن الحرام , وتوسل الثالث : بأمانته , وكل واحد منهم يقول : اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه
السبب الثالث : التفكر في نعم الله : قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله- : " وكلما طال تأمل العبد في نعم الله الظاهرة والباطنة , الدينية والدنيوية , رأى ربه قد أعطاه خيراً كثيراً , ودفع عنه شروراً متعددة , ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم , ويوجب الفرح والسرور ".
ولو تأمل الإنسان نعم الله عليه لوجدها تغمره من أعلى رأسه حتى أخمس قدميه , وصدق الله : ﴿ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ ٖ ٢٠﴾[لقمان:20]
صحة في بدن , وأمن في وطن , وغذاء , وكساء , وماء , وهواء , وعينان , وأذنان , ولسان , وشفتان , ويدان , ورجلان , أنت تبصر وغيرك أعمى , وأنت تسمع وغيرك أصم , و جلدك حسن , ومنظرك حسن , وغيرك أبرص وأجذم , وأنت تعقل وغيرك مجنون ومعتوه , وصدق الله القائل : ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ ٣٤﴾[إبراهيم:34]
. إنك في نعم كثيرة , وأنت لا تدري , ثم تعيش مهموماً مغموماً حزيناً كئيباً , قف وتأمل , وفكر وشكر , ولا تكون ممن قال الله تعالى فيهم : ﴿يَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ٨٣﴾[النحل:83]
السبب الرابع : يومـك يومـك :
أنت بيومك , ولست بأمسك , ولا غدك , فكلما أشرقت شمس يومك , فاستغل لحظاتك , ولا تُأمل غدك , فإذا أصبحت فلا تنتظر المساء , وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح , فلا تضيع يومك بهاجس الماضي , وغمه , ولا تبعثر لحظتك بشبح المستقبل , ورعبه , لليوم فقط أنت ستعيش , فاصرف فيه همتك , ونشاطك , وقوتك , وتركيزك , ونصبك , وتعبك , وجدك , وكدحك .
السبب الخامس : التوكـل على الله : فعندما أُلقي إبراهيم عليه السلام في النار قال : حسبنا الله ونعم الوكيل , فجعلها الله عليه برداً وسلاماً , ولما هُدد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيوش الكفر والضلال قال : ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ ١٧٣ فَٱنقَلَبُواْ بِنِعۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٖ لَّمۡ يَمۡسَسۡهُمۡ سُوٓءٞ وَٱتَّبَعُواْ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَظِيمٍ ١٧٤﴾[آل عمران:174]

السبب السادس : الإيمان بالله إيماناً حقيقياً كاملاً : ومما يدل على أن الإيمان بالله سبب لانشراح الصدر : قوله تعالى : ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ فَوَيۡلٞ لِّلۡقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ٢٢﴾[الزُّمَر:22]
وقال تعالى : ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ مِنُونَ ١٢٥﴾[الأنعام:125]
وعلى حسب كمال الإيمان وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه.فالشقاء كل الشقاء , والضيق كل الضيق لمن فقد كنز الإيمان , ورصيد اليقين , ورياحين القرآن , ولذة مناجاة الملك العلام , وصدق العلي العظيم ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤﴾[طه:124]
السبب السابع : الصبر والتحمل : قال د/ عائض القرني : " إنك ستواجه في حياتك حرباً ضروساً لا هوادة فيها من النقد الآثم المر , ومن التحطيم المدروس المقصود , ومن الإهانة المتعمدة ما دام أنك تعطي , وتبني , وتؤثر , وتسطع , وتلمع , ولن يسكت هؤلاء عنك حتى تتخذ نفقاً في الأرض , أو سلماً في السماء فتفر من هؤلاء , أما وأنت بين أظهرهم فانتظر منهم ما يسؤوك , ويبكي عينك , ويدمي مقلتك , ويقض مضجعك ...إن الجالس على الأرض لا يسقط , والناس لا يرفسون كلباً ميتاً , لكنهم يغضبون عليك ؛ لأنك فقتهم صلاحاً , أو علماً , أو أدباً , أو مالاً , فأنت عندهم مذنب لا توبة لك حتى تترك مواهبك , ونعم الله عليك , وتنخلع من كل صفات الحمد , وتنسلخ من كل معاني النبل , وتبقى بليداً غبياً , صفراً محطماً , مكدوداً هذا ما يريدون بالضبط .
إذاً فاصمد لكلام هؤلاء , ونقدهم , وتشويههم , وتحقيرهم " أثبت أحد" , وكن كالصخرة الصامتة المهيبة تتكسر عليها حبات البرد لتثبت وجودها وقدرتها على البقاء ".
السبب الثامن : المداومة على الأعمال الصالحة :
إن المداومة على العمل الصالح سبب لانشراح الصدر يدل عليه قول الله تعالى :﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٧﴾[النحل:97]
وسأكر بعض أنواع الأعمال الصالحة الكفيلة بتحقيق السعادة ومن ذلك :
أ‌. طلب العلم الشرعي :
ب‌. كثرة ذكر الله :
ت‌. كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
ث‌. قراءة القرآن بتدبر : إن تلاوة القرآن وتدبره من أسباب انشراح الصدر ؛ لما فيه من القصص التي تبين مقدار الابتلاء الذي ابتلي به الأنبياء , والصالحين , فمهما كان بلاءك فإنك لم تبتلى مثل بلاء يوسف عليه السلام الذي رماه أخوته في البئر , ثم باعوه بثمن بخس , ثم كانوا سبباً في غربته , وبُعده عن أهله , ثم تعرضه لفتنة امرأة العزيز .
ق. كثرة الاستغفار :
وعن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً , ومن كل ضيق مخرجاً , ويرزقه من حيث لا يحتسب ).
ج‌. الإكثار من النوافل :
إن الإكثار من النوافل من صلوات وصيام سبب لانشراح الصدر ؛ إذ هي سبب لنيل محبة الله عز وجل , ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قال : من عادى لي ولياً , فقد آذنته بالحرب , وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه , وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , ورجله التي يمشي بها , وإن سألني لأعطينه , ولئن استعاذني لأعيذنه , وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت , وأنا أكره مساءته ).
ومتى تحققت محبة الله للعبد نال بذلك ولاية الله له ومتى نال الولاية زال همه وغمه , وانشرح صدره.
ح‌. الصلاة الخاشعة :
إذا لحق بالإنسان هم , وغم , وحزن , وقلق , فليفزع إلى الصلاة , فإنها كفيلة أن تُذهب همه , وغمه , وحزنه , وكمده ؛ لأن الله تعالى : ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ٤٦﴾[البقرة:46]
والسبب في كون الصلاة سبب لانشراح الصدر ؛ لأنها تزيل أدران الذنوب والمعاصي كما جاء في الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يبقي من درنه , قالوا : لا يبقى من درنه شيئاً , قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ).
خ‌. الصدقة :
السبب التاسع : تدبر أسماء الله وصفاته :
السبب العاشر: صلة الرحم وأوجبها: بر الوالدين :
السبب الحادي عشر : الجهاد في سبيل الله :
الجهاد في سبيل الله سبب لزوال الهم والغم حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عليكم بالجهاد في سبيل الله , فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الغم والهم ).
السبب الثاني عشر : العفو والصفح :
السبب الثالث عشر : إدخال السرور على الغير :
السبب الرابع عشر : التوبة من الذنوب :
إن الذنوب , والمعاصي سبب لضيق الصدر , ولكي يحقق الإنسان السعادة عليه بالبعد عن الذنوب والمعاصي ؛ لتتحقق له السعادة في الدنيا والآخرة ؛ لأنه ما نزل بلاء إلا بذنب , ولا يرفع إلا بتوبة , قال تعالى : ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٤١﴾[الروم:41]
فكلما كانت التوبة والإنابة إلى الله أقوى كان الصدر أكثر انشراحاً .
السبب الخامس عشر : الإعراض عن وسوسة الشيطان :
إن الشيطان يسعى جاهداً لتحزين الإنسان , وبث الخوف والحزن في قلبه ؛ ليقعده عن العمل الصالح , ويشغله بالهموم والوساوس , قال الله تعالى : ﴿إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡ‍ًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١٠﴾[المجادلة:10]
فعلى المؤمن أن يعرض عنه ولا يستجيب لوسوسته حتى لا تثقل عليه نفسه وتغتم بأمور كثير منها سراب وأوهام .
السبب السادس عشر : حسن الظن بالله :
ومما يزيد حسن الظن بالله التأمل في سير الأنبياء , وكيف أن الله عز وجلرعى يوسف في البئر , وموسى عليه السلام في بيت فرعون , ورزق زكريا عليه السلام بعد عقم , وحمى إبراهيم عليه السلام من النار , وحفظ محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الغار , ورعى أم إسماعيل وهي في واد غير ذي زرع , فلن يعجزه شئ سبحانه .
السبب السابع عشر : النظر فيمن هم أشد منك بلاء ومحنة وكربة :
السبب الثامن عشر : تذكر حقارة الدنيا :
إن المؤمن يعرف حقارة هذه الدنيا , وخستها , وسرعة زوالها , وأنها ممر , وليست مقر , وأنها فانية , فيهون عليه ما يلاقيه من الهم , والغم , وقد جاءت الآيات والأحاديث التي تقرر حقيقة الدنيا , وتحذر من الاغترار بها , فقال الله تعالى ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩﴾[غافر:39]
وقال الله تعالى : ﴿فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨﴾[التوبة:38]
السبب التاسع عشر : التوقع المستمر لجميع الحالات :
السبب العشرون : أن يوقن المؤمن بأن المصائب والابتلاءات دليل على محبة الله للعبد :
السبب الحادي والعشرون : أن يستشعر المؤمن أن هذا الهم كفارات ورفعة في الدرجات :
إن كثير من الناس يظن المصائب التي يصاب بها نقمة عليه , والحقيقة عكس هذا ؛ لأن في ثنايا المصائب نعم كثيرة ؛ لأن المصائب إذا نزلت لها ثلاث أحوال 
1. أن تكون عقوبة معجلة , وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة
2. أن تكون كفارات للذنوب سالفة كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها).
3. أن تكون المصيبة رفعة لك وعلواً في منزلتك عند الله تعالى , فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( عظم الجزاء مع عظم البلاء ).

السبب الثاني والعشرون : الرضا بالقضاء والقدر :
وقال تعالى : ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ١١﴾[التغابن:11]
إن القناعة بما قسمه الله للعبد هو عين السعادة والرضا , وعنوان الأنس والسكينة ؛ لأنه عندما يرضى بما قسمه الله له من مسكن , وموهبة , وعلم , ومال فإن نفسه تسكن , وتطمئن , ويخرج من الشقاء , والعذاب الذي يعيشه في داخل نفسه , وهذا منطق القرآن : ﴿قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّي ٱصۡطَفَيۡتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذۡ مَآ ءَاتَيۡتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤﴾[الأعراف:144]

السبب الثالث والعشرون : شغل الوقت بأمر نافع من أمور الدنيا والآخرة :

السبب الرابع والعشرون : اتخاذ الأنبياء والصالحين أسوة وقدوة :

السبب الخامس والعشرون : مجالسة الصالحين والعلماء وطلبة العلم :

السبب السادس والعشرون : محاسبة النفس :

السبب السابع والعشرون : اليقين باليوم الآخر :
إن يقين المؤمن باليوم الآخر , وما فيها من أهوال وشدائد تهون على الإنسان ما يجده في الحياة الدنيا من الألم والهم , ومن يؤمن بقلبه باليوم الآخر يقيناً حقيقياً يعلم أن هذه الدنيا لا تساوي شيئاً فهي قصيرة جداً.

السبب الثامن والعشرون : انتظار الفرج من الله :
وعن بن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( واعلم أن النصر مع الصبر , وأن الفرج مع الكرب , وأن مع العسر يسراً ).
السبب التاسع والعشرون : الشكوى إلى أهل العلم والدين وطلب النصح والمشورة لهم :
ولكنكم فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة , قلنا له : ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا ؟ قال :( كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه , ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه , والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه تستعجلون ). 
ومن هذا الباب : اللجوء إلى إخوان الصدق العقلاء والأزواج والزوجات الأوفياء والوفيات :
فعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة –رضي الله عنها - فوجد على بابها ستراً , فلم يدخل عليها , وقلما كان يدخل إلا بدأ بها , قال : فجاء علي رضي الله عنه فرآها مهتمة , فقال : مالك ؟ فقالت : جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدخل علي , فأتاه علي رضي الله عنه , فقال : يا رسول الله , إن فاطمة اشتد عليها أنك جئتها , فلم تدخل عليها , فقال :( وما أنا والدنيا وما أنا والرقم ) قال : فذهب إلى فاطمة فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : فقل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فما تأمرني به , فقال : قل لها ترسل به إلى بني فلان).