السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2017-04-25

مزيجٌ من مزاج : تشدد وتساهل في آن واحدٍ !!



حين تتحكّم الأمزجة، وتتحيّز الأفكار، ويغلب الهوى على الطبيعة الإنسانيّة، ويقلّ العلم، ويكثر الجهل، ويُعجب كل ذي رأي برأيه، وتكثر التصورات الخاطئة، يتحصّل لدى الشخص مزيج متعدد ضمن مزاج مختلف يجمع التشدد والتهاون في آن واحد !
فليس غريباً - وإن كان متناقضاً في الوقت نفسه - أن ترى حول محيطك البشري من يتشدد في أموره الدنيوية، وطريقة تعامله الحياتية والمادية، غير أنّه يُريد من العلماء في قضايا الشريعة أن يكونوا خُدّاماً له ليخففوا عليه في الفتيا حتى وإن خرج الأمر عن حدود التيسير المشروع، وحالما يفتيه العالِمُ أنَّ قضيّته ممنوعة شرعاً ومحرمة في دين الله، قد يُسارع فئة منهم بوصم من أفتاه بالتشدَّد.
حالة كهذه تشتبك فيها الأبعاد النفسيّة مع الممارسات الفقهية، وهي كثيرة الوقوع في المجتمعات، وقد يغفل عنها بعض الناس، فتشدد وتهاون، وتنطع وتساهل في الظاهر لا يلتقيان غير أنّهما قد يلتقيان، ما دام أنّ لكل منهما طريقاً يؤدي لمزاجيات تطلبها الأنفس وترتاح لأجلها...
في كتاب الله تعالى إشارات مُكثّفة حول النفس، فقد وردت هذه الكلمة واشتقاقاتها قرابة (295) مرّة؛ فالأنفس فيها عجيب خلق الله، من تناقضات، وعُقدٍ، وأشياء خفيّة، لا يعرفها إلاّ الذي براها، بل يقع صاحب النفس في أشياء يقوم بها، هو بذاته قد يخفى عليه السبب الدقيق من فعله لها، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "ما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانّة أنّها تفعله طاعة لله"  وهي حتماً دسيسة نفسيّة تحتاج ليقظة حقيقيّة لانتزاعها وما يحتويها من سوس النفوس..!!
* تشدد مسكوت عنه؛ وغلوٌ نفسي دنيوي :
ثمّة نماذج عمليّة تطبيقيّة سأذكرها تباعاً، لكن أستحسن إيراد جانب له علاقة بالنقاش الفكري في حلبة الحوارات له علاقة وطيدة بمقصد المقال؛ إذ إنّ عدداً مِمَّن يطلب التسامح مع الرأي الآخر وضرورة قبوله وعدم التضييق عليه من المعترضين؛ يقصدون بمعنى قبول الآخر أن يتسامح الناس مع أقوالهم التي يرومون نشرها فيما هم لا يتسامحون مع الرأي الآخر، ويقومون بإسكات المُخالفين ووصمهم بصفات تشويهية تبشيعية، ويمنعونهم عن إبداء رأيهم، وتضيع كل كلماتهم الرنّانة في الدعوة إلى الحرية والوسطية والسلام والتعايش وقبول الآخر...
إنّها عقليّة التشدد التي يزعم بعض من يدعو للانفتاح أنّه يُحاربها، وهو بذاته يقع فيما هو أقسى من التشدد؛ بوصم مخالفيه بالنقيصة وقد يتّهمهم بصفات غير لائقة، ونسي تشبّثه برأيه وتشدده الغريب في الاستمساك به، وكأنّ المرء لا يكون وسطياً منفتحاً إلاّ بجُملة آراء من يحملها ينال القابلية للاعتراف بكونه منفتحاً غير متطرف..!!
وعلى أنّ التشدد بطبعه مذموم والإسلام بذاته قد تكفّل بإدانته، إلاّ أنّ المرء يجد في نفسه الارتياح بوضوح من يقول إنني أرفض القول الآخر، أكثر ممن يدعو للتسامح مع الناس؛ فإذا وصل الأمر معه ومع قناعاته ورأيه؛ كان رأيه أشدُّ تنطعاً وتشدداً من سابقه؛ لكنّ الأول صريح في إبداء وجهة نظره؛ والثاني يلبس الأقنعة، والطبيعة النفسيّة بينهما متفقة يجمعها قاسم مُشترك في تصلب فكري من كل طرفٍ لجهته...
وفي خضّمِّ معترك النقاش علينا أن نفهم معنى اليُسر والتشدد ضمن دائرة الوسطيّة التي تدعو لها الملّة الإسلاميّة؛ فالوسطية هي طريق القصد والاعتدال والخيريّة، خلافاً لمن أراد أن يتّخذ موقف الوسط بين رأيين لمحاولة التلفيق بينهما أو قياس مسافة ما بينهما لاتخاذ الموقف المناسب، وكأنّ الوسطيّة في الشريعة كالوسطيّة في موقف الطُّرُق، وهذا ما لا يتّفق مع المعنى الحقيقي للاتّسام بالوسطيّة، فالأحكام الشرعية هي بذاتها أحكام وسطيّة وإن ارتأى بعضُ جاحدي الشريعة أو المتشككين فيها إلى اعتبارها متشددة أو متساهلة؛ فليس ذا عُشُّهم فليدُرجوا؛ والأحكام الإسلامية تُدرك من خلال الفهم الأصولي العلمي الذي يقوم به رجالات العلم الشرعي؛ لا أن تُقاس بالآراء المُجرّدة من المتعالمين؛ ليُفصّلوا للناس مقاساً شرعياً لما هو وسطي بزعمهم..
إنّ بعض المسلمين، تمتزج فيهم خاصّيتان: غلو عميق في الدنيا وتشدد فيها، وتساهل وتفريط بالأخذ بأمور الدين، ولذلك عدّة نماذج، أذكر بعضها:
1. يتشدد في أعرافه وعاداته وتقاليده الاجتماعيّة التي تحتاج لتغيير في الواقع، مع أنّ بعض هذه التقاليد الشعبيّة فيها من الخطأ البيّن مِمّا يتفق الناس عليها؛ إلاّ أنّهم مستمرُّون بالقيام بها ولا ينفكون عنها قيد أُنملة، وإن حدَّثه أحد لكي يُغيّر من قناعاته، يستعظم تركها كون الناس يفعلونها، ولا يُريد أن يسير عكس التيار!!
2. يتعامل مع مُخالفيه بالغلظة والجفاء والشِّدَّة، وتسفيه رأيهم، ويتشدد في وصم مخالفيه بكل نقيصة، بل تكاد تلتفُّ عروقه أثناء تشنّجه لرأيه، ويبدو منه النُّزقُ في الخُلُق، لأنّه يرى آراء من يحتدّ معهم متشددة؛ فيما هو يعتدُّ برأيه، ويحتدُّ في موقفه، ويتشدد في تعامله معهم.
3. يبالغ في طلب المهر المرتفع أثناء خطبة ابنته، ويرهق الخاطب بتكاليف الزواج؛ فيكون أكثر من أقرانه تشدداً في تزويج ابنته؛ بدعاوى عريضة!
4. يريد أن يفتيه العلماء في البيوعات والمعاملات بالإباحة دوماً، ولا يطيق سماع كلمة تُحرّم عليه ممارسة مالية لا تجوز، ويُحاول بكل وسيلة وذريعة أن يتوصل لجواز المعاملة؛ غير أنّه في مجال البيع والشراء ومعاملات الناس المالية؛ يتشدد للغاية؛ ولا يُيسّر عليهم.
قد يحفظُ قوله تعالى : {يريد الله بكم اليسر}، وينسى حديث رسول الله في صحيح البخاري: (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) أي: إذا طلب قضاء حقه بسهولة، وعدم إلحاف.
وهو إن أراد الاقتراض من أحد ذكّره بقوله تعالى: {إن تُقرضوا الله قرضاً حسناً يُضاعفه لكم} ، لكن إن أقرض أحداً وتعسّر معه ردّ القرض، ينسى قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}.
5. يقع الشخص بخطأ لا يخجل منه أثناء قيامه به، وبعد أن يُدرك قُبح ما صدر عنه، ويُطلب منه أن يعتذر لغيره؛ أو يتنازل لأخيه لإرضاء الله؛ يبدو في موقف متصلب ويتعسّر إقناعه، لكنّه لا يدع شاذّة ولا فاذّة في موقف أو لقاء مع بعض العلماء حتى يحدثهم عن التسامح مع الناس في الفتوى، وهو لا يتسامح مع من أساء إليه!
6. يستهين القيام بالسنن والمستحبات والمندوبات، كونها ليست واجبات؛ وإن حرّص أحد على التذكير بالسنن المهجورة، يصفُ من قام بها بالمبالغات الدينية والإغراق في جزئيات لم تصل لمرحلة الوجوب؛ فيما هو يتقصد التشبه بالكفار واتباع سنتهم وطرائقهم، ولا يجد أدنى غضاضة في ذلك، أو يبتدع بدعاً ما أنزل الله بها من سلطان، ويُطالب الناس بمعرفتها وتطبيقها، ويتشنّج حين يسمع من ينهى عنها.
7. يحرص على معرفة حقوق غير المسلمين؛ حتّى يقع في الإجحاف بحقوق المسلمين الدينية والدنيوية؛ فيلتقي والحال هذه – مع وجود فوارق أخرى - بطريقة الخوارج الذين يجتهدون في معرفة حقوق غير المسلمين من الذمّة والعهد والأمان؛ أكثر من معرفة حقوق المسلمين من حفظ أعراضهم وأنفسهم، ولهذا جاءت الشريعة بتعرية حالهم، وصحّ فيهم قوله عليه الصلاة والسلام : "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"، ولهذا رأى ابن عمر-رضي الله عنهما- أنّهم شر الخلق فقال: "انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المسلمين" أورده البخاري معلقاً وصححه الحافظ في الفتح.
8. يتولى أمور العباد والبلاد فيحرص على سماع أحاديث التأكيد على السمع والطاعة؛ وينسى قوله صلى الله عليه وسلم : "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم فارفق به" أخرجه مسلم في صحيحه.
9. يصلي الصلاة ينقرها نقر الغراب؛ ويفكر كثيراً في أموره الدنيوية ومعاملاته؛ ولا يجد وقتاً بعد الصلاة لاستماع آية وذكر، أو جلوس مع أولاده لتربيتهم؛ بحجّة أنّه يُكافح لطلب رزقه وعيشه، وطلب الرزق عبادة، ولو قُلِبَتِ القضية فقيل له: صلّ كما تطلب رزقك فالصلاة عبادة، لعدّ ذلك غلواً في الدين، وقد نسى غُلوّه في دنياه، والحق أنّ طلب الرزق لامس شيئاً في قلبه من حب المال وديمومة طلبه، فسبحان من آتاهم قوّة في طلب الرزق وتحمُّلاً في بذل كل شيء لأجله؛ وحرمهم من التلذذ بالتعرُّف عليه، حتى ما فهموا من العبادة إلاّ طلب الرزق!!
هذا مع كون الرزق في الأصل ليس مُعلّقاً بالمال والمادّة فحسب؛ فالقضايا المعنويّة يشملها الرزق، فمن معانيه أن تُرزق القلوب بالإيمان بالله والعلم به، فالله تعالى يقول: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
10. يلبس أحسن ثيابه وقت الذهاب لحفل زفاف، أو مقابلة وظيفيّة، ويهتم بأدق التفاصيل في مظهره وشكله، غير أنّه يلبس ما رثّ من الثياب وقت صلاة الجمعة، وغيرها من أماكن التجمُّع للعبادة، مع أنّه تعالى يقول: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}.
11. يحرص على حضور أعياد المشركين ومشاركتهم بحجج التسامح، مع أنّ فيها مِمّا يُسخط الله ما هو معروف؛ وقبالة ذلك يسهر الليل إلى قبيل الفجر ولا يقوم مع جماعة المسلمين لأداء صلاة الفجر، ومن ثمّ صلاة العيد معهم وحضور بهجة العيد الإسلامي وزينته.
12. يطلبُ مديرٌ في البنك الربوي أن يُكتب على لوح زجاج فاخر في ذكرى المولد النبوي آية : { وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم} وينسى قوله تعالى : { وأحلّ الله البيع وحرّم الربا}، فتبرز الأخلاق التجاريّة الرأسماليّة في تسويق ما يُريد من أمور الدين، وتناسي أشياءَ أُخر، فهو بزعم حبّه للنبي صلّى الله عليه وسلّم يكتب هذه اللوحة، وإن قيل له: إنّك في عملٍ ربوي خالص؛ فدعه وابحث عن بديل؛ وسيُعوّضك الله خيراً؛ يُحدّثك عن الله الغفور الرحيم وعن دين اليُسر وسماحة الإسلام، مع أنّ من دعا للاحتفاء بمولده – كما يزعم - ، هو من نهاه عن ذلك، فعند مسلم في صحيحه وغيره من حديث جابر : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم في الإثم سواء.
13. يُصلّي خلف الإمام الذي يقرأ قوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} فيتمتم: " بلى وأنا على ذلك من الشاهدين"، فهو حريص على قول هذا الذكر في صلاته اتّباعاً للسنّة، وحين تسأله: هل تؤمن بذلك حقاً وقد قطعت الميراث عن أخواتك وحرمتهنّ منه؟
ترى الأجوبة الذي تفوح منها رائحة الطمع الدنيوي، وفصله مسائل الدين عن الحياة، فتراه متمسّكاً بالقيام بشيء، مُعرضاً تمام الإعراض عن تطبيق ما هو فرض!
14. يترك الصلاة بالكُليّة ، ويذهب بالقرب من بوّابة المسجد وقت صلاة الجنازة على قريبه أو صديقه الميت، ويهتم بموعد ذلك، وحين يخرج المصلون من المسجد يُشيّع معهم الجنازة، ويرفع صوته إلى المقبرة، وبكل حماس يُردد: لا إله إلا الله والميت حبيب الله، وبعيداً عن كون ذلك غير مشروعاً، غير أنّ المرء يعجب من حرصه على مجاملات دنيويّة حتّى لا يعتب عليه الناس أو لصداقته للميت، ولكنّه لا يتعظ من الموت فيذهب يصلي.
ما أسلفت ذكره إنما هي أعراض لأمراض من انشغل قلبه بالبحث عن التيسيرات مع تفريطات عمليّة في الجوانب الفقهية والشرعية؛ إزاء المبالغة المُفرطة في قضايا الحياة الدنيوية، حتّى اضطره الأمر لأن يتطلب التيسير في أمور دينه، ويتشدد في دنياه.
* مُحدّدات الإشكالية :
تبرز الإشكالية في مستوى الدوافع والرغبات النفسية في الانتفاع من كلا الأمرين؛ تشدد في حياته العامة، وتطلب للتيسير أو التفلت من خطاب الشرع، مع تشدد أحياناً في فضائل دينيّة؛ مع تهاون في فرائضه، وهذا ينبع عن عدّة أمور:
1. الهوى والتشهّي :
فيأخذ ما يروق له في دينه، ويتشدد في دنياه اتباعاً لرغباته.
وكلٌّ يعلم ما يدور بقلبه، وما منشأه ومنزعه؛ فإن كان من قبيل الهوى؛ فعليه أن يُصلح نيّته، وقد أخرج الإمام أحمد في المسند وأبو داود في سننه بسند حسنٍ أنّه عليه الصلاة والسلام قال: " وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى – تتسابق - بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" .
يقول العلاّمة الشاطبي في كتابه الاعتصام: "وذلك أن معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها، على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء، وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء، فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه، وأشرب حبه، لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه".
2. الفهم الخاطئ للدين، وللنصوص الشرعيّة:
يرى صعوبة الحياة، وتعقيداتها الكثيرة؛ فيزدادُ تشبُّثاً وتمركزاً حول الانتفاع الدنيوي؛ ويُحاول البحث عن الرخص والحِيَلِ ظاناً أنّ هذه الجوانب من الدين؛ أو مما أباحها علماء الدين؛ وقد يخفى عليه أنّ الرخص منها المُنصوص عليه شرعاً، ومنها المُستنبط من أهل العلم على وجهه الصحيح، ومنها ما يُعدّ زلّة من العالِم الذي أفتى بها، فيخلط هذه الرخص بعضها بعضاً، ويُحاول أن يفهم الدين على طريقته التي يختارها، ويفهم النصوص على وجهٍ مغلوط.
وقد ذكر الشاطبي رحمه الله بعض المفاهيم الخاطئة، ومن ذلك قوله: "ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة حرائر، مستدلاً على ذلك بقوله تعالى:{ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع، ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالاً، لأن الله قال:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}، فلم يحرم شيئاً غير لحمه، ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس".
3. العُقد النفسيّة:
إذ يُبتلى بتربية خاطئة مُشوّهة للدين؛ فيها من التعقيد والتشدد والتسلط؛ فينشأ لديه دافع للتفلت من الدين، وقيوده وحدوده الشرعيّة، فبعضهم قد تكون ردّة فعله التحيّز للفكر العلماني المواجه للشريعة الإسلامية، ومنهم من يبحث عن التفلت والتساهل عبر طُرق ملتوية في إيجاد المخارج من الالتزام والتقيد بالانضباط الديني، ومنهم من يقوم بفعل بعض الكبائر، ويظلم الناس، ويؤذيهم، ويستروح في دنياه بما يشاء، ويشعر بوخز ضمير يعاتبه بين حين لآخر؛ فبدلاً من توبة نصوح يُخلصها لله، يتعلق في جوانب دينيّة مستحبة فيعطيها من التأكيد أضعاف ما تستحق!
ومن هذه العُقد التي يُصاب بها بعضهم أن يعتقد تحريم قضايا ليست كذلك؛ ثمّ يضطره القول باستحلالها عبر حيلٍ أشبه بالتحريم مِمّا يعتقد حُرمته، فيجلبَ هذه الحيل لاستحلال ما حرّمه على نفسه.
وفي لفتة فقيه ذات تأمّل نفسي؛ ذكر الإمام ابن تيميّة أنّه تأمّل أغلب ما أوقع الناس في الحِيل فوجده من شيئين أحدهما: " مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع ، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل ، وهذا من خطأ الاجتهاد ، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له ، وأدى ما أوجب عليه ، فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبداً".
وعليه فهذه العُقد النفسيّة التي تُسبّب أشواكاً في التفكير، تتطوّر مآلاتها لما هو أبعد من ذلك ويُخشى على صاحبها المروق عن الإسلام؛ وتحليلُ ذلك من شِقّين:
أ‌. تكون مآلات الإفراط؛ مزيداً من التشدد فيه والتنطع حتّى يخرج صاحبه من الدين، فقد قال ﷺ: "فإنه سيكون شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه" أخرجه أحمد بسند حسن.
ب‌. تكون مآلات الإفراط، مزيداً من الترخُّص والتسيُّب حتى يصل به الحال للتفلت والانحلال، فقد زعم أقوام أنّ أكل الحلال متعذّر في عصورهم؛ فأعقبهم إباحيةً، ويُفسّره الإمام ابن تيمية بقوله: "لأنهم ظنوا مثل هذا الظن الفاسد؛ وهو أن الحرام قد طبق الأرض، ورأوا أنه لا بد للإنسان من الطعام والكسوة، فصاروا يتناولون ذلك من حيث أمكن، فلينظر العاقل عاقبة ذلك الورع الفاسد كيف أورث الانحلال عن دين الإسلام".
4. ضغوط الواقع :
فيتهاون بعض الناس بقضايا شرعية، ويتشبّث بأخرى لأسباب خشية من تأثيرات سلبية تعود عليه؛ فهو يرى أنّ الالتزام بالهيئة الإسلامية العامة؛ قد تودي به لفقدان وظيفة وعمل، أو يخشى من تهكُّم بعض الناس به، فيتفلّت تفلتاً شديداً من واجبات دينيّة؛ كي لا يُتّهم ويكون في مأمن القيل والقال.
5. الشعور بالسعادة وإرضاء الذات:
حيث يتخيّر ما يُريد من قضايا الدين، ويأخذ منه ما يشاء بطريقة التشهي والبحث عن اللذّة والمُتعة الشخصيّة الدنيوية والتطلع لصعوباتها طمعاً في المزيد من علاوات ومناصب وأموال وجاه، مع الابتعاد عن التكاليف الدينية التي يوجد فيها نوع من المشقة، وما علم أنّ المبالغة في الدنيا لا يُشعر المرء بالسعادة؛ فالسعادة للروح قبل أن تكون للجسد، وقد أتى الدين في الأصل لعمران الروح لتسعد، وما كان الدين عامل شقاء بل عامل ارتقاء للنفس البشرية ، فالله تعالى يقول: { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}.
6. الاستهانة بحُرُمات الله وحدوده وشعائره:
وتجد الفارق الرئيس بين ضعف تعظيم طاعة الله وطاعة رسوله، مع الالتزام الحرفي بالقوانين والعادات والأعراف والتدقيق فيها وجلب الشُّرّاح لها؛ لكنّه يجد أنّه الشخص المناسب ليقرأ كلام الله ويشرح مراد الله منه دون حاجة لشروحات العلماء.
7. الفكر الرغبوي للتعامل المصلحي مع الدين:
فهو يتعامل مع قضايا الشريعة عبر مصلحته الشخصية كما يتعامل مع مصالح الدنيا؛ فتكون وسيلة المنفعة استدرار ما في الدين من تعزيز لمزاجه وقناعاته أكثر من كونه دين فيه التزام وتكاليف، ومن هنا ينشأ معنى التقعُّر الدنيوي في التكلٌّف بما يُطيقه وبما يؤثّر على نفسه وقُدراته؛ ابتغاء ما يُريده من طبيعة الحياة الدنيا، فهو مع متطلبات الدين في تهرب وفي متطلبات الدنيا في تطلُّع دائم!
8. الورع البارد :
وهي نقطة في غاية الأهميّة، فمن يقتلُ دون وجه حق، ويُكثر من الظلم، ويسأل عن بعض دقائق المسائل وصغارها، وقد فرّط في العظائم؛ فهو مستخفٌّ بحرمات الله، وبرهانه: أنّه يسأل عمّا لا وجه للسؤال عنه، بل عمّا هو مسكوت عنه، أو أنّه من المنهيات التي لم تصل درجتها إلى درجة ما سأل عنه، وقد فرّط فيما هو واجب أو فرض، ومن يقرأ قوله تعالى في سياق ذكره لليهود حين عبدوا العجل بعد ما تجاوزوا البحر، وقالوا : ( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) يجد أنّ الإمام ابن كثير رحمه الله قال: " حاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط ، فألقوها عنهم، وعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير ، وفعلوا الأمر الكبير".
وهذا عينُ ما فعله المشركون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، حين أخبر الله عن سؤالهم فقال: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ )، والحال أنّهم يتورعون عن القتال في الأشهر الحرم، وقد سفكوا الدم الحرام وفتنوا المؤمنين عن دينهم .
ويشهد لمثله ما رواه الإمام مسلم رحمه الله عن فضيل بن غزوان قال : سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، يَقُولُ : ( يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ! مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ ) يشير بذلك إلى ما جاء في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ: ( كُنْتُ شَاهِدًا لِابْنِ عُمَرَ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ البَعُوضِ – فَقَالَ : مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ . قَالَ : انْظُرُوا إِلَى هَذَا، يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ البَعُوضِ ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
وإنّك لواجدٌ في هذا الصدد تبريرات غريبة، منها ما ذكره ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس:" وَقَدْ تسمى قوم من الصوفية بالملامتية ، فاقتحموا الذنوب، فقالوا : مقصودنا أن نسقط من أعين الناس ، فنسلم من آفات الجاه والمرائين. وهؤلاء مثلهم كمثل رجل زنى بامرأة فأحبلها ، فَقِيلَ لَهُ : لم تعزل ! فَقَالَ : بلغني أن العزل مكروه. فَقِيلَ لَهُ : وما بلغك أن الزنا حرام ".
فكم من شخصٍ يُدقّق في قضايا بشكل عميق لدرجة المثالية، غير أنّ الواقع يكشفه بسرعة وقت العمل، وفي هذا يقول مالك بن دينار: " تلقى الرجل وما يلحن حرفا ، وعمله كله لحن!" .
*مسيسُ الحاجة للتوازن في تصُّور طبيعة الدين والدنيا:
إنّ أمّة يكثر في وسطها البحث عن اليُسر والرُّخص في كثير من التكاليف الشرعيّة، وتؤثر السلامة على المخاطرة، وتتربى على الرخص أكثر من العزائم، كيف يتسنّى لها نشر دينها والصدع بحقها والصبر على الأذى في سبيله.
فمن كان منتمياً حقّ الانتماء لأمّة الإسلام ولدينه العظيم؛ فعليه أن يعلم أنّ هذا الدين ليس قوالب جامدة، بل فيه حيويّة وعمل، وهكذا كانت حركة الإسلام على أرض الله تنتشر بفعل المسلمين، ومع ذلك فلقد بُنيت بهم دولة مُسلمة ونشأت إثرها حضارة إسلاميّة استفادت من حِكمة الشعوب السابقة، وأضافت عليها كثيراً من مُجدّدات الحضارة، واختراعات أفادت دنيا الناس وواقعهم، ولم تقطعهم عنها بل ذلّلت دنياهم، حتى نشأ كثير من عوامل المدنيّة والصناعة، بسبب حاجة الناس في دينهم إلى خدمته بوسائل دنيويّة ابتكارية.
إنّ مِمّا جلب غضب الله على يهود أنّهم ادّعوا أنّهم أبناء الله وأحباؤه، وأنّهم اعتبروا تفضيل الله لهم على العالمين سبيل للتخفف من القيود والحدود الشرعيّة؛ فاستهانوا بالمعاصي والذنوب، ورقّ دينهم، حتّى اجترؤوا على دينهم وكذبوا على ربهم، فقد جاء في التنزيل الحكيم: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون}.
وإنّ أناساً يُحاولون الالتفاف على دين الله، وارتكاب الحيل، والتفلت من الشرائع، بحجّة أنّها أمّة مرحومة، وأنّها أكثر الأمم دخولاً الجنة، وأنّها خير أمّة؛ وأنّ الله خفّف عنها كثيراً من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم، مما يؤدّي ببعض من ينتسب إليها أن تكون تلك الأمور تُكأة للتفريط بحقوق الله ودينه، واستغلال الدين لمصالحَ دنيوية، والتشدد في التشبُّث بالدنيا...وفي أمور الدين يبحث الواحد منهم عن كل ما يُتيح له الانشغال عن دينه، كي يحلو له الحال في دنياه، وما هو سوى عبد للدنيا؛ فليخشى أن يكون ممن دخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي، وإن لم يُعط لم يرض» أخرجه البخاري في صحيحه.
إنّ من لطائف القرآن، أنّ لفظ " الدنيا " ورد بعددٍ يُماثل لفظ "الآخرة"، في مائة وخمس عشرة مرَّة، ولعلهّا – والله أعلم – إشارة لما ينبغي التوازن فيه بين القضيتين؛ فالدنيا ممر للآخرة؛ وهي محطّة التزوّد للتقوى؛ فلا يطغى شيء على شيء، طالما أنّ القصد إرضاء الله تعالى، ولهذا يقول العلاّمة العز بن عبد السلام: "اعلم أن مصالح الآخرة لا تتم إلا بمعظم مصالح الدنيا كالمآكل والمشارب والمناكح وكثير من المنافع".
إنّ عبادة المؤمن التي يقوم بها ينبغي أن تؤثر بشكل إيجابي في طبيعة دنياه؛ فمن ذا الذي يتفق مع من يقضي سحابة نهاره في أعمال الطاعة والبر، غير أنّه سيء الخلق نزق الطبع؟!
لهذا جاء الحديث النبوي في الحث على التوازن في الحياة الدينية مع الدنيويّة، وإن قلّت النوافل والطاعات بعد القيام بالفرائض فلا إشكال؛ فالمعضلة في أن يكثر من الطاعة سواء كان في تعامله مع الله أو في صدقاته على الفقراء، إلاّ أنّ هنالك تقصيراً شديداً في جانب آخر، قد يودي به إلى الدركات – والعياذ بالله – ونستذكر هنا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رجل : يا رسول الله ! إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها ، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال : " هي في النار ". قال : يا رسول الله ! فإن فلانة تذكر قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وإنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي بلسانها جيرانها قال : " هي في الجنة " أخرجه أحمد في المسند، والبيهقي في " شعب الإيمان " وصحّحه جمع من المُحدّثين.
يقول العلاّمة علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح : في شرحه لقوله: (هي في النار ): " أي : لارتكاب النفل المباح تركه واكتساب الأذى المحرم في الشرع، وفي نظيره كثير من الناس واقعون حتى عند دخول البيت الشريف ، واستلام الركن المنيف ، ومن هذا القبيل عمل الظلمة من جمع مال الحرام وصرفه في بناء المساجد والمدارس ، وإطعام الطعام".
بقي أن أقول خواتم كَلِم:
إنّ دين الإسلام بطبيعته يسر لا عُسر فيه غير أنّ فيه جهاد ومُجاهدة للنفس...
وهو دين قد حثّ على القصد والسداد والمقاربة، فلا يأمر بالشدّة والإشقاق، لهذا حثّ على السُّنة واجتناب البدعة...
وهو دين رفع الله فيه عن عباده الحرج، ومنع عنهم الضرر، وكتب في شريعته التخفيف في التكليف، وجعل التكليف لا إشقاق فيه..
وهو دين حثّت الشريعة على الرفق بالولوغ فيه لأنّه متين، ونهت عن التشدد على النفس بالأخذ بأحكام الدين، فلا يُشادّ أحدٌ هذا الدين إلاّ غلبه...
إنّه دين نهى عن السؤال عمّا سكت عنه، وجعله من قبيل العفو المُباح المسكوت عنه...
وهو دين بعث الله به نبيّه بالسماحة، ووضع عنهم الآصار والأغلال...
وهو دين لا يرضى العنف ويحث على الرفق، غير أنّه يأمر بالقوّة والعزيمة والجديّة في تلقي أحكامه ولا يوجد فيه أثقال لكنّه بحاجة لرجال يأخذونه بجديّة وقوّة، وهم من لا تأخذهم الدنيا من كل جانب؛ فهم : { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً} وهم : {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار} فأعمالهم الدنيوية لا تُلهيهم أو تصرفهم عن طاعة ربهم، كما : "قال بعض السلف: الجبل يمكن أن ينحت منه ولا ينحت من دين المؤمن شيء".
وبهذا كان الدين حنيفاً مائلاً عن طريق الجور والشّطط، قويماً قاصداً طريق الاستقامة، وإذا كان الدين كذلك، فعلى المرء ألاّ يغلو في دنياه ولا يشقّ على نفسه لأجلها، فلئن قال الله : "ما جعل عليكم في الدين من حرج"، فعلى المسلم ألاّ يشقّ على نفسه في أمر دنياه فيجعل دنياه كلّها حرج عليه..!
وإذا قال تعالى : "لا إكراه في الدين"، فعلينا ألاّ نُكره الناس على رأينا ونتشدد من أجله، أو نُكرههم على اتّباع منهجية دنيويّة محددة، طالما يوجد البدائل السليمة.
وإذ يحث عباده على عدم الغلو في الدين فيقول: "لا تغلوا في دينكم"، فعدم الغلو في الدنيا من باب أولى..
والله مولانا ونعم النصير

يا نفس توبي التوبة شعار الصالحين


إن دأب الصالحين والأولياء والمقربين من عباد الله أن قلوبهم يقظة وجلة بتوفيق الله، قد شعشع الإيمان في صدورهم، فدومًا يستشعرون الخوف من الله ويستحضرون خشيته ومراقبته، وأنهم إلى ربهم صائرون وإليه سوف يحشرون، قد استحضرت قلوبهم ذكر الله وأمور الآخرة، واستجابوا لأمر ربهم تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البَقَرَة: 203].
فدومًا ترى المؤمنين من عباد الرحمن يلومون أنفسهم ويحاسبونها، ثم يرجعون إلى ربهم بقلوب منكسرة خاشعة، قد امتلأت رهبة وخشية.
قال الله عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ *مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ *} [ق: 32-33]. أي: رجاع إلى الله في جميع الأوقات، بذكره والاستعانة به، وحبه وخوفه ورجائه.
إنه قلب أناب إلى الله وأقبل على كتابه فزاده الله هداية ونورا وعلما وبصيرة، ويسّر الله له الوصول إليه، فإن الله هو الموفق للإيمان والتوبة {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[الرّعد: 27].
والإنابة والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين، كحال نبي الله أيوب عليه السلام ، قال سبحانه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص: 44].
والإنابة تعني الرجوع إلى الله وانصراف دواعي القلب إليه، وتتضمن محبة الله وخشيته، والخضوع له والإعراض عمّا سواه.
وقد امتدح الله تبارك وتعالى خليله إبراهيم عليه السلام فقال عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ *}[هُود: 75]. أي: سريع الفيئة إلى الله وإلى مرضاته، رجاع إلى الحق وإلى الفضيلة حيثما كان وفي كل حين، ومتضرع إلى الله في جميع الأوقات.
ولك أن تتخيل إبراهيم الخليل عليه السلام حتى وهو يؤدي طاعة ربه فإنه أيضًا يتوب إلى الله مخافة التقصير، لعلمه بأن الله هو التواب الرحيم، جاء ذلك في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *}[البَقَرَة: 128].
وهذا موسى عليه السلام تشرفت نفسه، واشتاقت إلى رؤية الله، وهو الأمر الذي لا يكون، ولا يطيقه بشر في هذه الأرض، حتى الجبل الأصم الغليظ لم يثبت، وانهال كالرمل مدكوكًا قد ساخت قمته رهبة من الله، حينها خرَّ موسى صَعِقا، وبعد الإفاقة ما كان منه إلا أن: استغفر، وثاب إلى نفسه منزهًا ومعظمًا لربه عما لا يليق، ولما صدر منه، من السؤال الذي دافعه الحب والمودة لربه، معلنًا التوبة، وأنه عليه السلام في طليعة المؤمنين بتعظيم ربهم وإجلاله، تجلى ذلك في قوله جل في علاه: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعرَاف: 143].
نعم هذا هو طريق المتقين، وزاد المؤمنين المخلصين، فإنهم يلازمون التوبة في كل حين، وعلى أي حال حتى أصبحت لهم شعارًا ودثارًا.
إنه أدب جميل، وخوف عظيم، يوم يطلب المتقون التوبة من ربهم حتى وهم متلبسون بالطاعة، منفذون لأوامره.
وهو دليل خشية الله وتعظيمه، وطهارة القلب من العُجب، والخوف من التقصير الذي يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تحطُّ بالنفس وتبعدها عن الله.
فليست التوبة محصورة في العصاة، بل حتى المؤمنين... والتائب لابد له من تجديد الإيمان، والتوبة في كل وقت وحال، وفي جميع مراحل العمر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن التوبة: "هي مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل إلى آخر عمره ولا بد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة". إنها النفوس العظيمة .. فعند التقصير تتوب، وإذا خشيت التقصير أيضًا سألت الله التوبة والغفران.
قال ابن القيم رحمه الله: "التوبة من أفضل مقامات السالكين؛ لأنها أول المنازل، وأوسطها وآخرها، فلا يفارقها العبد أبدًا، ولا يزال فيها إلى الممات".
يعيش العبد مع التقوى، وإذا ألمَّت به وساوس الشيطان، تذكر فعاد إلى الرحمن.
حيث يتذكر عقاب الله وجزاءه، ووعده ووعيده، فيتوب وينيب، ويستعيذ بالله، ويرجع إليه من قريب.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *}[الأعرَاف: 201].
قال مجاهـد رحمه الله: "هـو الرجـل يهمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه".
وقال مقاتل رحمه الله: "إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر، وعرف أنه معصية، فأبصر فنزع عن مخالفة الله".
وإن كانت الوقاية والسلامة من الذنوب والآثام خير من طلب التوبة؛ لأن العبد ربما لا يوفق للتوبة، أو ربما لا تقبل منه، كما أن السلامة من الذنب أيسر من التوبة والندامة.
قال الحسن البصري رحمه الله: «يَا ابْنَ آدَمَ، تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ».

2017-04-19

بيوتنا وسر الفراغ العاطفي


شبه الله عز وجل أوهن البيوت ببيت العنكبوت، وتلك حقيقة قد يعيشها البعض وهو لا يدري، فكم منا يحيى في بيت من بيوت العنكبوت ووعيه مغيب على أن يدرك تلك الحقيقة، بل ومغيب على أن يقف على الأسباب التي أودت ببيته إلى تلك الحالة من الضعف الخفي، فبيته الذي يبدو للناظر من أول وهلة متماسك موزون البناء هو نسج من خيوط واهية أوهن من أن تصمد للمسة لامس أو هبة ريح .. ونعود فنسأل لماذا هذا الوهن؟ وكيف حدث دون أن ندري؟!
الواقع أنه ثمة عوامل متعددة تتشارك في الوهن الخفي للبيوت. لكن أحد أهم وأشهر تلك العوامل هو «الفراغ العاطفي» الذي يعود غالبا إلى فتور وهج العاطفة بقدر كبير بين الزوجين بعد الزواج .. ففي مرحلة الخطوبة يجد الخاطب الطاقة والنشاط الكافيين لإظهار وإثبات اهتمامه بالإنسانة التي لفتت انتباهه، فتراه يغدق عليها الهدايا والعناية الخاصة جدا. وبعد أن يبلغ هدفه ويستحوذ عليها بالزواج، ويطمئن إلى أن الزوجة التي أرادها وناضل للحصول عليها قد امتلكها بل كسبها، ينقل اهتمامه إلى «شيء آخر»! مما تقتضيه ضروريات الحياة، فتستفيق الزوجة مع مرور الأيام بعدما تدرك التراجع في اهتمام زوجها بها - إن لم نقل انعدام هذا الاهتمام - مما يدفعها إلى الشعور بأنه خدعها .. وبما أن الزوجة ليست من النوع الذي يتجاهل انفعالاته وعواطفه، وبما أنها تتألم لما آل إليه وضعها. تحسم أمرها وترحل عاطفيا من حياة زوجها، فتقاسي آلام الحرمان العاطفي في كل لحظة تعيشها معه. 
كيف تشبع عاطفة زوجتك؟
يلعب الزوج دوراً حيوياً وكبيراً في إثراء المحبة وتوطيدها حينما ينجح في إرسال رسائل إيجابية لزوجته بأن زوجها هو ذلك الرجل الذي رسمته في خيالها. يجسد القوة والحنان والتسامح. يحتوي ضعفها وأنوثتها. صبور أمام انفعالاتها في المنعطفات الصحية الطارئة (الحيض والحمل والنفاس ..). يقدّر اضطراباتها الهرمونية وحالاتها المزاجية المتقلبة. يتعامل مع ظروفها النفسية بصبر وجلد. يمتص آلامها وأحزانها. يقف في أزماتها موقف السند القوي الذي يحميها من عوز الحاجة وقسوة الأيام .. كل هذه الصور سوف ترسم في قلبها ملامح جميلة تزدهر وتتألق مع الأيام حتى آخر لحظة من حياتها .. ستحبه، ستعطيه دون حدود، ستتحول الحياة معه إلى جنة وارفة الظلال، ستتغاضى عن قصوره في الجوانب الأخرى، لأنه بالنسبة لها الوطن، الحنان، القوة، الثبات .. ستشعر به أباً وزوجاً وحبيباً وصديقاً، فما أغرب الرجال وهم يشتكون برود زوجاتهم العاطفي، وإهمالهن لجمالهن، وقساوتهن، وجفاءهن، وهم في كل هذا الخضم غير مدركين أن المعاني الجميلة تختفي من قلب المرأة حينما تكفر بالرجل.
عندما تُخبر زوجتك أنك تحبها، فأنت تعلّمها أن تحبك .. قد يعتقد البعض أن الشخص الذي يحبه لا يحتاج إلى سماع هذه الكلمة، أو أنه لن يأخذها مأخذ الجد، وربما يكون العناد أو التكبر هما ما يمنعنا من ذلك .. ومهما كانت الأسباب لا يوجد مبرر يجعلك لا تقول لزوجتك «أنا أحبك».
الكلام عن المشكلة أمام شخص يصغي بانتباه، مسألة حيوية بالنسبة للمرأة، فإذا لم تروّح عن نفسها مع الإنسان الذي يشاركها حياتها، يتفاقم غضبها الذي تصبه في النهاية عليه هو نفسه، لا لأنه منبع المشاكل التي تواجهها بل لأنه لم يكن البحر الذي تغرق فيه هذه المشاكل. فإذا كفت زوجتك عن الإفصاح لك بكل ما يزعجها عليك أن تقلق لأن ثمة ما يقلق، وإن لم تعد زوجتك تطلعك على كل ما يعتمل في نفسها، فلأنها لم تعد تثق بك ولم تعد ترى في شخصك ملجأ لها وملاذا تفرغ فيه الضغط الذي تتعرض له.
الرجال يميلون عادة إلى الاعتقاد بأن الكلام هدفه «تقديم المعلومات»، وبالتالي يصبح الهدف من الإصغاء هو تلقي المعلومات، أي التسليم بأن معلومات الشخص الآخر أكثر وفرة من معلوماتهم. وهذا في الواقع اعتقاد خاطئ، فالإصغاء يعني الاهتمام بالآخر وبرغباته، فاسمع من شريكتك واسكت، وكف عن الاعتقاد بأن الإصغاء لزوجتك من دون إبداء لرأي تصرف لا يليق بك كرجل.
لا تشعر زوجتك بأنها مهانة لديك، بل يجب أن تشعرها أنها ملكة معززة مكرمة، ولا تنس الثناء عليها بين الفينة والأخرى أمام الأبناء وذويها وذويك في حضرتها وغيابها.
تحتاج الزوجة أن تدرك أن زوجها يعطي أهمية أولى لمشاعرها وحاجاتها ورغباتها وأمانيها، فعندها تشعر باحترامه لها. وهذا من خلال إظهار الزوج اهتمامه الحقيقي بها، ومن خلال تذكر المناسبات الخاصة التي تخصها كذكرى زواجهما، ومن خلال القيام بتصرفات إيجابية رومانسية تظهر اهتمامه بها كهدية باقة الورد .. فالزهور لغة الحب العالمية والتاريخية، وهي لا تكلف كثيرا، وتباع في طريقنا اليومي .. فلماذا تنتظر دخول زوجتك إلى المستشفى لتقدم لها باقة من الزهور؟!
لا تطيق المرأة أي انتقاد يوجه إليها بصدد مظهرها الخارجي على وجه الخصوص. وقلما توجد امرأة راضية تماماً عن مظهرها الخارجي، وتراها تسعى باستمرار لأن تكتشف فيما لو كانت ما تزال جذابة في نظر زوجها .. لذا فعليك أن تسعى دائما - قدر إمكانك - للتأكيد لها أنك تجدها فعلاً جميلة ومثيرة ورائعة. 
كيف تشجعين زوجك على تلبية حاجاتك العاطفية؟
الرجل يحتاج للتقدير والتشجيع حتى يستمر في العطاء، ويتوقف عن العطاء عندما يشعر أن شريكته تعتبر ما يقدمه فرضًا عليه أداؤه .. إنه يحتاج للشعور بأن زوجته تقدر ما يقوم به، وتثق به وبإمكاناته، وبقدرته على القيام بالأعمال المطلوبة منه. 
وفي كل مرة تقدر الزوجة ما قدمه لها الزوج فإنه يشعر بالحب، ويمنحها الحب في المقابل، فتذكري أن الحاجة الأولية للرجل هي «التقدير».
وكثيرا ما تجهل المرأة القوة التي يحققها حبها، فتحاول دون داع أن تلتمس حب الرجل بأداء أعمال لا يريدها ولا يحتاجها، فالمصدر الرئيسي للحب عند الرجل هو «الاستحسان المحب لتصرفاته» فالرجل أيضا له خزان حب، ولكنه لا يملأ بما تفعله المرأة من أجله، بل يملؤه رد فعلها الإيجابي لما يقوم به، وتعبيرها عن شعورها نحوه. 
والنساء مرهفات الحس وغالبا ما تبكي لرؤية مشهد درامي، أو عندما يكسر ظفرها، أو عندما لا تعجبها قصة شعرها، والأسوأ من هذا أنها تتوقع من الرجل أن يغير كل شيء بحركة واحدة وكأنه ساحر! .. بالطبع يحب الرجل المرأة العاطفية، ولكنه لا يحب سيل الدموع المنهمر لأنه ببساطة غير مبرمج على التعامل مع هذه المواقف .. دعي دموعك جانبا، وتحدثي معه عما يضايقك. 
وأخيرا لا يفوتنا التأكيد على أنه عندما يكون الزوجان أصدقاء في المقام الأول فإن الأمور تسير طبيعية من تلقاء نفسها، فالصداقة تحث الصديق أن يدعم صديقه ويحتمله ويعطف عليه، ويلتمس له العذر، كما أن الصداقة تسهل عملية التواصل، وتمهد الطريق لانشراح الصدور، كما أنها أيضًا تعني التزام الجدية إذا تطلب الأمر ذلك، فالصديق المخلص على اتصال دائم بصديقه، يجده وقت الرخاء، ولا يفتقده وقت الشدائد.

عندما تغيب لغة الحوار بين الزوجين


كلما زادت سنوات العشرة بين الزوجين، وكلمات زاد الاقتراب، وكلما عمقت العلاقة .. كلما زادت قدرتهما على التحاور غير المنطوق .. تصبح هناك وسائل أخرى غير الكلام للحوار والتواصل والإحساس، فيصبح كل منهما قادراً على قراءة وجه الآخر، بل من متابعة حركة العين ذاتها يستطيع أن يعرف الكثير عما يدور بخلده. تصبح الابتسامة أكثر تعبيراً وتأثيراً، وكذلك الإيماءة والحركة، وكذلك السلوك التلقائي والسلوك المقصود .. إنها درجات راقية من الاقتراب إلى الحد الذي يصبحان فيه كأنهما شخص واحد. ومنطقياً فإن الإنسان لا يتكلم مع نفسه بصوت مسموع، ولكن الحوار يكون داخلياً بين الإنسان ونفسه، حوارا غير مسموع، وهذا هو ما يحدث بين الزوجين الحبيبين بعد سنوات من الزواج. تصبح حواراتهما غير مسموعة لأنها غير كلامية وغير شفهية.

هناك شيء آخر أكبر يتعلق بالإحساس بين الزوجين. فإحساس كل منهما بالآخر ينمو ويكبر ويعظم إلى الحد الذي لا يحتاج فيه إلى كلمات لنقله والتعبير عنه، إذ يصبح كل منهما في حالة إحساس دائم بالآخر. إحساس كل الوقت. عاطفة حقيقية راسخة مؤكدة، تبعث على الإحساس بالاطمئنان والأمان والاستقرار والثبات والخلود، ولذا تصبح أي كلمات غير كافية للتعبير عن هذه الدرجة السامية من العواطف. بذلك يصبح الصمت بليغاً أبلغ من الكلمات. يصبح للصمت قدرة تعبيرية هائلة. يصبح الصمت معناه قمة الإحساس بالآخر. يصبح الصمت معناه أن كلاً منهما يعيش داخل عقل الآخر، وأن روح كل منهما ملتصقة بروح الآخر. 
وهذا النوع من «الصمت الصحي» يختلف تماماً عن «الصمت المرضي» والذي يقصد به التعبير عن غضب أو رفض أو عداوة أو فراغ بالإحساس .. عندها يفقد الزوجان لغة التواصل، وتتفجر المشكلات، فتشتكي الزوجة من ظاهرة «الزوج الصامت» ويشتكي الزوج من ظاهرة «المرأة الثرثارة».
لماذا يصمت الرجل؟
بداية لابد من التفريق بين صمت الزوج الجبلي الذي هو سمة من سمات شخصيته عموما، وبين صمت الزوج الوقتي بالأخص مع زوجته وداخل البيت، وهذا النوع من الخطورة التي تتعدد دوافعها ومسبباتها:
1- عندما يواجه الرجل مشكلة أو مسألة معقدّة أو يمّر بظروف صعبة، فغالباً ما يلجأ إلى الصمت، فهو يصمت لأنه يفكر بهدوء، ولأنه يعتبر أنه المسئول عن حلّ مشاكله بنفسه، ولا يحب أن يشاركه أحد في التفكير، وبعد أن يجد حلاً يعود تلقائيا إلى الحوار والتواصل مع الآخرين.
في هذا الموقف من الخطأ أن تصرّ الزوجة على أن يتكلم الزوج عما يعتمل بداخله، فهذا يزيد من توتره لعدّم تفهّم زوجته حاجته النفسية للصمت والتفكير الذاتي. فالزوج لا يحب أن يشعر بأنه محط رعاية دائمة من زوجته فهذا يشعره بالضعف. 
2- صمت الزوج المرهق الذي يحتاج فترة من الراحة للاستجمام واستعادة الطاقة.. جدير بالذكر أن المرأة عندما تكون متعبة تعبّر بصوت عال وتتكلم بطلاقة عما يتعبها، وعندما تخرج ما بداخلها ترتاح. لكن الرجل على العكس تماما حيث يفضل الصمت لاستعادة طاقته.
من المهم للزوجة في تلك الحالة تجنب إمطار الزوج بوابل من الأسئلة خاصة عند دخوله المنزل بعد يوم عمل شاق، فهذا يزيد من ضجر الزوج، وقد يلجأ إلى الصمت أكثر للتهرّب من ثرثرة وفضول الزوجة .. التصرف الأمثل للزوجة يكون باستقباله بالملاطفة، فهذا من شأنه أن يعجل خروج الزوج من صمته ويستعيد نشاطه. وكم هو جميل أن تهتّم الزوجة بتأمين الجو الهادئ لراحة زوجها المرهق: كتجهيز حماما دافئا له، وترتب غرفة نومه بطريقة لطيفة، وإعداد طعاما يحبه، وتشعره بأنها تقدّر تعبه من أجلهم.
3- انشغال تفكير الزوج لفترات طويلة في قضايا العمل ومسؤولياته، فهذا الانشغال الفكري يدفعه للصمت والانغلاق في دائرة واحدة من التفكير ألا وهو العمل واهتماماته.
تستطيع الزوجة أن تتحيّن الفرص والأوقات المناسبة للحديث معه ومناقشته في مشاكله واهتماماته. ولا بدّ للزوجة أن تتعلّم الأسلوب التشويقي والجذّاب لنقل الزوج من دائرة التفكير المغلقة إلى الحوار معها، ومن هذه الأساليب:
- أن تتعلّم هواية الزوج، وتشاركه فيها.
- أن تختار المواضيع الشيّقة التي تجذبه وتشد اهتمامه.
- أن تتحدث بأسلوب تشويقي يتخلله طرح أسئلة مفتوحة، مثل: "هل تعلم ماذا حدث؟ ماذا تقول أنت؟"، وأن تدخل عنصر المفاجئة في حديثها، وتدخل عنصر الفكاهة والمرح في الحوار.
- تعرض عليه مسألة معقدّة أو مشكلة ما وتطلب منه المساعدة في حلّها.
4- أسباب أخرى تدفع الزوج للصمت، منها:
-سماع تعليق خاطئ واستهزاء من زوجته عندما يتحدث. 
- مقاطعته كثيرا عند الكلام.
- إصدار الأحكام المسبقة على حديثه قبل الانتهاء منه.
- الاتهام المباشر واللوم والتهكّم أثناء الحديث معه.
- تسخيف ما يطرحه من حديث أو يقترحه من حلول وأفكار.
- أن تشعره الزوجة أنها تفهم أكثر منه في الموضوع الذي يحاورها فيه أو أن تلجأ إلى تصحيح معلوماته أو تحقّره بذلك.
- أن لا تبدي الزوجة اهتماماً لما يطرحه من حديث.
هنا يصمت الرجل ضجرا أو دفاعاً عن نفسه، وهذا الموقف له آثار سلبية على العلاقة الزوجية، ويجب على الزوجة أن تراجع نفسها وتغير من أسلوبها، وإلا فهي المسئولة عن صمت زوجها. من المهم أن تستبدل ذلك بمفردات المدح والتقدير والثناء، وتشعره بحاجتها إليه، وأن تعبّر له عن ثقتها فيه.
لماذا تثرثر المرأة؟ 
1- حاجة المرأة الدائمة للحوار، وأنها عندما تتحدث فهي تتواصل مع الآخرين، وبالتالي تشعر بقيمتها الذاتية.. هذه الثرثرة تعالج بالمصارحة والاتفاق بين الزوجين، على أنه باستطاعته أن يصغي إليها لفترة محددة، وعندما يمل يخبرها بالتوقف، أو يستأذناها بالاستراحة على أساس أن يكملا الحديث في وقت لاحق. وقد يتفق معها على أن يديرا الحوار، ويقسّما المواضيع المطروحة على أن ينهيا كل موضوع على حدة.
2- تثرثر المرأة عندما يكون لديها وقت كبير تقضيه بمفردها، وتعاني من وقت فراغ كبير لا تستثمره في أعمال مفيدة .. هنا يجب التنسيق بين الزوجين على وسائل معينة للاستفادة من وقت الفراغ، بإعداد برنامجاً من النشاطات والأعمال المفيدة التي تساعد الزوجة على الاستفادة من وقتها وتفريغ طاقاتها. ومن الرائع أن يتشاركا في أعمال واحدة يحققان فيها المزيد من التواصل بينهما.
3- تكثر الزوجة الكلام لأنها تشعر بعدم اهتمام الزوج بها وقلة تقديرها، ولا يعطي لها الوقت الكافي لأن يجلسا معا أو يخصصا وقتا بمفردهما. فتكثر الكلام لإثبات ذاتها لشعورها بأنها مهمّشة .. هنا يجب أن يحرص الزوج على تخصيص وقت محدد للإصغاء للزوجة، والسماح لها بالتعبير الحرّ عن ما يدور في خاطرها وما تكن مشاعر.. ومن المهم أن يعبّر لها عن تقديرها في الأمور الصغيرة والكبيرة التي تقوم بها لخدمته ولخدمة الأسرة، وأن يكافئها بالعطايا والهدايا المختلفة.

مائدة الأسرة .. ساحة فريدة للتواصل



من أشد الغبن أن نقصر تربية أبنائنا وتعليمهم على تصفح بطون الكتب فقط، فالعلم بحره واسع والتربية ساحة مترامية الأطراف من الحيف أن نركن لزاوية واحدة منها دون الأخذ بباقي معالمها وأبعادها خاصة في عصرنا الذي تنوعت فيه روافد الثقافة وتعددت فيه أشكال المعرفة، هذا مع تزاحم أحداثة وتقارب زمانه حتى صارت المهمات أكثر بكثير من الأوقات.
وإن قصرنا المعرفة والتربية على بطون الكتب وحدها -مع أهميتها- فأين يقع تعليم «القدوة الصالحة» ومتى نستفيد من «الوسائل الالكترونية» الحديثة المرئية والمسموعة، خاصة وأن التعليم بالرؤية أثبت في الذهن وأرسخ في السلوك إذا قورن بالتصفح البحت للمعلومات المجردة على صفحات الكتاب، ويبقى للتعليم بالممارسة والتطبيق الباع الأوفر من حيث الإيجابية، ولذلك كثرت في السلف الصالح رحلات السفر العلمية حيث كانوا ينتفعون برؤية العلماء ويتعلمون من سمتهم ودلهم كما ينتفعون بعلمهم، ورحم الله أم الإمام مالك التي أوصت ابنها لما أرسلته إلى «ربيعة» عالم زمانه، فقالت له موصية: «تعلم من أدبه قبل علمه».
ومع تشعب أحداث العصر وتنوع وسائله تشتت أفراد الأسر، فالأب غارق في ضغوط الحياة، والأم منهمكة مع الأولاد ومسئولياتهم، أما الأبناء فحدث عن المدرسة والواجبات المنزلية والنوادي الرياضية والكمبيوتر والإنترنت .. وغيرها من الظواهر التي اختطفت أبنائنا اختطافا وهم بين أحضاننا، والضحية الوحيدة في كل هذه المعمعة هو «التواصل الأسري» الذي بات عزيزا في كثير من المجتمعات رغم أهميته التربوية وعظم روعته التعليمية.
ورغم كل هذا التشتت تبقى «مائدة الطعام» أحد المجالات الصامدة أمام عاصفة التشرذم الأسري، حيث يجتمع كل أفراد الأسرة ليس للأكل فقط وإنما لتواصل حميمي فريد في كينونته عظيم في أهميته وفائدته بالنسبة للجميع.
على مائدة الأسرة نتبادل الحوارات مع أبنائنا عن شواغلهم والتزاماتهم العلمية والعائلية وعن معاناتهم وأحلامهم وطريقة تعاملهم مع الحياة .. لكن يبقى المحور الأعظم والهدف الأكبر هو التوجيه الأبوي والتعليم الهادف عبر مناقشة تصرفات وأفكار فلذات الأكباد حيث نتناولها بالتعزيز أو النقد والتعديل والتوجيه للأصوب من منطلق خبرتنا العملية وعمق تجاربنا الحياتية.
وتتجلى على مائدة الأسرة التربية بالقدوة العملية الحسنة، من منطلق التزام الأبوان بهدي السنة النبوية في آداب الطعام وهدي الإسلام في الصحة والغذاء، حيث يرى الأبناء تطبيقا فريدا للعديد من الآداب والتوجيهات الإسلامية الراقية:
- كم هو رائع أن يحرص الزوج عند أول دخوله المنزل وبعد إلقاء السلام أن يبدأ بسؤال الأولاد عن تواجد الوالدة ويذهب إليها ملقيا السلام ومقبلا رأسها تطيبا لخاطرها وإعلانا عن مشاعر الود والرحمة، فالزوجات عموما يعشقن الاهتمام الخاص من الزوج، ويثمنّ الإشارات واللفتات اللطيفة المفعمة بمشاعر الألفة والتقدير.
- ينبغي أن لا تقع مراسم تجهيز المائدة على عاتق الزوجة المنهكة في المطبخ وحدها، بل يتشارك كل الأفراد في حمل الأطباق وسائر الأغراض في جو مرح لطيف، وهذه المشاركة وإن كانت رمزية بالنسبة للزوجة إلا أنها تنطوي على معاني العرفان والمعونة بالقدر المستطاع، كما أنها تفتح شهية الصغار الذين يختارون لون طبقهم المفضل وكمية ونوعية الطعام المناسبة لديهم حسب الرغبة.
- من الهدي النبوي أن لا نعيب طعاما قط، فالنقد لنعمة الله تعالى نوعا من الجحود لفضل الكريم الوهاب، حتى وإن كانت تلك النعمة بسيطة في محتواها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "ما عاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعاما قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله، وإن كرهه تركه". قال أهل العلم: وأما حديث تركه –صلى الله عليه وسلم- أكل الضب فليس هو من عيب الطعام، إنما هو إخبار بأن هذا الطعام الخاص كان –صلى الله عليه وسلم- لا يشتهيه.
- من الأدب أن لا يبدأ أحد الصغار بالأكل قبل أن يبدأ رب الأسرة أولا، وما أجمل أن يجهر الوالد بالتسمية عند بدأ الأكل تعليما للجاهل وتذكيرا للناسي .. «بسم الله» أو «بسم الله الرحمن الرحيم»، فإن نسي ذكر الله تعالى أثناء الطعام «بسم الله أوله وآخره»، فإنها تطرد الشيطان وتحل البركة في الطعام. وفي هذا الأدب قصة ما أجمل أن نرويها لأطفالنا أثناء الأكل لتكون أوقع في نفوسهم، بدلا من أن نستفرغ الحديث فيما لا طائل منه، فعن حذيفة –رضي الله عنه- قال: "كنا إذا حضرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم طعاما- لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاما، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدها ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها ثم ذكر اسم الله وأكل». [رواه مسلم]
- من سنن وآداب الطعام العملية: الأكل والشرب باليمين، والأكل مما يلي المرء، وأن لا يأكل من وسط الطبق لأن البركة تتنزل فيه، والاجتماع على الأكل وأن لا ينفرد كل واحد بطبق خاص قدر المستطاع، وأن لا يقرن المرء بين حبتين من الأكل مما يؤكل أفرادا كالتمر وحب الفواكه كالعنب والمشمش وغيرها، ويجوز الإقران في حال استئذان الجلوس، أما الشرب فعلى ثلاث مرات، وأن لا يتنفس في الكوب.
فعن عمر بن أبي سلمة –رضي الله عنه- قال: كنت غلاما في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، فما زالت تلك طعمتي بعد [متفق عليه] 
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه». [رواه الترمذي وصححه]
وعن وحشي بن حرب أَنَّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه، إِنَّا نأكُلُ ولا نَشْبَعُ؟! قَالَ –صلى الله عليه وسلم-: «فَلَعَلَّكُم تَفْتَرِقُونَ عن طِعَامِكُم، فاجْتَمِعُوا علَيْه، واذكُرُوا اللَّه عزَّ وجل يُبَارِك لكم». [أبو داود]
- من التوجيه النبوي الذي يهمله كثير من الناس، قوله –صلى الله عليه وسلم-: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها. فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها. ولا يدعها للشيطان. ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه. فإنه لا يدري في أي طعامه البركة».[مسلم] 
- من شكر نعمة الأمل حمد لله تعالى بعد الفراغ منه، فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رفعت المائدة قال: «الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي، ولا مودع، ولا مستغني عنه ربنا» [البخاري] .. (غير مكفي) من الكفاية، والضمير راجع إلى الله تعالى، فيكون المعنى: أنه تعالى هو المطعم لعباده والكافي لهم، يستغني عن غيره، وغيره لا يستغني عنه، وذلك مثل قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام:14] .. (ولا مودع) أي: غير متروك، لأنه لا يستغنى عن الله عز وجل طرفة عين .. (ولا مستغني عنه) أي: غير مطروح ولا معرض عنه بل محتاج إليه فهو سبحانه لا يستغنى عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وهو غني عن الخلق، والخلق مفتقرون إليه.
- شكر الزوجة على الطعام، وذكر وتعداد محاسنه، فمقولة الجالسين للأم «جزاك الله عنا خيرا» تطيب نفس الزوجة المكدودة، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
- ما أجمل أن نتشارك في رفع المائدة كما تشاركنا في تكوينها، ويا حبذا لو تشاركنا في غسيل الأطباق وترتيب الأواني كل في موضعه، فعن الأسود قال: سألت عائشة -رضي الله عنها-: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في أهله؟ قالت: "كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة". [البخاري] وفي رواية: قالت: "يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم". وفي رواية أخرى: "ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه".

 

المُهِمَّات في صفات القُدُوات من القرآن الكريم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد:
فهذه همسات تربوية وخواطر قرآنية من هداية كلام رب البرية؛ عبارة عن فوائد وإرشادات مقتضبة، ووصايا وتوجيهات مختصرة، وبرقيات عاجلة، تنير الطريق وترسم المعالم، مستقاة من أخلاق الكبار وصفات العظماء، من الأنبياء والأصفياء، لصناعة وإيجاد قُدوات عملية ونماذج ربانية.
 إتقان العمل: سمة مهمة للقائد الناجح، إذ ضرب الله تعالى مثالا عجيبا في إتقان ذي القرنين بناء وإنشاء السد، باستخدامه أعلى المواصفات، ( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا )الكهف:96، بَنَاهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَسَاوَى بِهِ الْجِبَالَ الصُّمَّ الشَّامِخَاتِ الطِّوَالَ فَلَا يُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَجَلُّ مِنْهُ وَلَا أَنْفَعُ لِلْخَلْقِ مِنْهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. البداية والنهاية لابن كثير .
 تقييد مقصد طلب الذرية بالصلاح: صفة مهمة للقدوة، لتحقيق مجتمع نموذجي وجيل مثالي يحمل هم الأمة وقضاياها، قال تعالى عن عباد الرحمن ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان:74، وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام لما سكن فلسطين ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ )الصافات:100-101.
 البذل: والعطاء من مال وعلم وجهد ووقت؛ عنصرا أساسيا للقائد الفعال في حياة الأمة وما يعود عليها بالنفع، فعلى الرغم من أن الله سبحانه قد مكّن لذي القرنين في الأرض، إلا أنه لم يتوقف في السعي وبذل الأسباب للدعوة والجهاد ونفع الناس، ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . فَأَتْبَعَ سَبَبًا )الكهف:84-85، قال القاسمي: وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر. تفسير القاسمي .
 تقديم مصالح الأمة على مصلحته: من أهم أخلاق القائد المؤثر والقدوة الرباني، فيعقوب عليه السلام من مصلحته بقاء ولده بنيامين معه لشبهه من يوسف وتسليته به، لكن مصلحة القرية والمجتمع إرساله ليزدادوا كيل بعير، ( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )يوسف:63.
العفو: من الصفات المهمة للقدوة المتميز، التي تكسبه راحة النفس وانشراح الصدر، وتأليف القلوب وتماسك الصفوف، فيوسف عليه السلام النبي القائد مع كل ما فعله به إخوته عفا عنهم، ( قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )يوسف:92، وهذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين. تفسير السعدي ص404.
حُسن توزيع المهام: ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب صفة مهمة للقدوة الناجح، قال سبحانه واصفا حال نبينا عليه الصلاة والسلام ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ )آل عمران:121، إن الحق يذكر بمسئوليات القائد، الذي يوزع المهام، فهذا جناح أيمن وذاك جناح أيسر، وهذا مقدمة وهذا مؤخرة. تفسير الشعراوي .
 الشورى: تسدد رأي القدوة والرمز والقائد المثالي، بحيث لا يتخذ القرارات المهمة لوحده، ولننظر التوجيه الرباني للنبي عليه الصلاة والسلام ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )آل عمران:159، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هُنَا هِيَ الْمُشَاورَة فِي شؤون الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا. التحرير والتنوير .
اتخاذ المستشار الأمين: ذا الرأي السديد والخبرة الكبيرة والكفاءة العالية؛ من أولويات القائد الناجح، لذلك لم يؤجل موسى عليه السلام هذا الأمر عندما كلمه ربُّهُ، قال سبحانه على لسانه موسى ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)طه:29-32.
 اتخاذ مجلس شورى مخلص: لاتخاذ القرارات وإدارة الأزمات، وهذا ما فعلته ملكة سبأ كما قص سبحانه من شأنها ( قالت يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ )النمل:32، فقد كان لها مجلس شورى مكون من أكابر القوم، وفي استشارتهم دليل على حلمها وعلمها وحكمتها. .
 الثبات على المبدأ: تكشف عن طهارة قلبه وحسن سريرته وعدم التفاته لمغريات الدنيا مهما عظمت، ولنتأمل موقف سليمان عليه السلام ورده القوي وثباته وإصراره، في دعوة ملكة سبأ للإسلام ورفضه هديتها، ( قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ )النمل:36.

أمنياتنا بين الدنيا والآخرة

جميل أن تكون الأسرة :بأفرادها ومجموعها، طموحة - لها أمنيات وأهداف - سواء في أمور الدين؛ كالحج، وتزويج الأولاد، والصلاح، أو في أمور الدنيا: كالمسكن الواسع، والمركب المتميز؛ فقد روى ابنُ حبَّان في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص - رضِي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أربعٌ من السعادة: المرأةُ الصالحة، والمسكنُ الواسِع، والجارُ الصالح، والمَرْكَب الهنيء"..
والملاحظ من بعض اﻷسر إذا لم تستطعْ تحقيقَ شيءٍ من تلك اﻷمنيات يبدأ لديها: ندبُ الحظ، والندم على الاختيار، والمقارنة باﻵخرين، واﻷسف على عدم التخطيط المبكر،... وغير ذلك..
ولي مع هذا الموقف الوقفات التالية:
أولا: يمكن للأسرة أن تسعى في تحقيق أمنياتها - ولو كانت البداية متأخرة - من خلال: الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه، والتخطيط السليم والواقعي، مع التدرج في التنفيذ، والصبر والمصابرة لتحقيق اﻷمنية، وترك اليأس والانهزامية، وقبل ذلك وبعده صدق اللجوء إلى الله تعالى ودعائه، فبالدعاء تُفتَح أبوابٌ مغلقة، وتُدَكّ جدرٌ مُحْصَنة.. 
ثانياً : إنّ رَسْمَ الأهداف، والسعي لتحقيق الأمنيات هو طريق السعادة، وبداية النجاح، وقطف النتائج متعلق بتوفيق الله تعالى، فقد تَحُول أقدارُ الله تعالى بين العبد وبين إدراك النتائج، وقطف الثمار؛ أو بعضها، فعن خباب رضي اللّه عنه قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله عز وجل، فمنّا من مضى ولم يأكل من أجره شيئا؛ منهم مصعب بن عمير؛ قُتِلَ يوم أحد، فلم نجد له شيئا نكفنه فيه إلا نمرة - كساء - كنا إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا رسول الله أن نغطي بها رأسه، ونجعل على رأسه أذخراً -نوع من النبات-، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها -يجتنيها-" أخرجاه في الصحيحين.
ثالثا: لنعلم يقينًا أن ما لم نتمكن من تحقيقه من اﻷمنيات في الدنيا -مع ما فيها من منغصات – سنحققه ـ بإذن الله تعالى ـ خاليًا من المنغصات في الجنة.. فعلى اﻷسْرة: بجميع أفرادها أن يسعوا لمرضاة الله تعالى وطاعته؛ ليفوزوا بجنته ففيها: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. وصدق الله: ﴿إِنَّ أَصحابَ الجَنَّةِ اليَومَ في شُغُلٍ فاكِهونَ. هُم وَأَزواجُهُم في ظِلالٍ عَلَى الأَرائِكِ مُتَّكِئونَ.لَهُم فيها فاكِهَةٌ وَلَهُم ما يَدَّعونَ. سَلامٌ قَولًا مِن رَبٍّ رَحيمٍ﴾ سورة يس اﻵيات من 58-55
قال المفسرون﴿ وَلَهُم ما يَدَّعونَ﴾: "ولهم كل ما يطلبون من الملاذِّ وأنواع النعيم، فما طلبوه من ذلك حاصل لهم"..
رابعا: إن استشعار المسلم لنعمة الصحة، مقارنةً بحال المرضى.. ونعمة اﻷمن في البلد، مقارنة بحال المُشَرّدين والخائفين والمضطهدين.. ونعمة توفر القوت من مأكل ومشرب، مقارنةً بحال الجوعى.. 
كل ذلك يولد للمسلم قناعة بما لديه.. ولا يمنع من السعي للمزيد مما أحله الله تعالى وأباحه..
أسأل الله أن يكرمنا بفضله، وأن يزيدنا من نعمه، وأن يقنّعنا بما أعطانا، إنه جواد كريم.

2017-04-03

ذرة تفاؤل تبني مجرة إبداع

إن الشخصيةَ المتفائلةَ هي شخصيةٌ سعيدةٌ، لا تستسلم للهزائم النفسية، ولا تعرف الإتكال، فهي تشحذُ كل طاقاتها للتميز والنجاح وصناعة الإبداع؛ وذلك لأن التفاؤلَ يحقِّق لها السلامَ الداخلي الذي يُعينها على العمل والعطاء، فإذا استطاعَ كل متفائل أن يبني إستراتيجيةً لحياته، فسنصلُ لمجتمعات متطورة، وقادرة على العطاء والإنتاج.
إن الشخصية المتفائلة تحبُّ ذاتها وتقدرُها، واهتمامها بذاتها يشجعُها على تنمية ثقتها بنفسها وعلى شعورِها بالرضا والطمأنينة، ويساعدُها في مواجهة مشكلاتها وعلاج عيوبها، ويحفزها على الاهتمامِ بالآخرين؛ حتى لا يتحولَ حبُّها لذاتها إلى أنانية مفرطة.
إن وجودَ التحدياتِ ضروريٌّ في المجتمعات الإنسانية، فكل أمة واجهت تحدياتِها بصلابة وإرادة قوية صنعت المنجزاتِ الكونية، واهتدت للصواب والحكمة، فلا علاج لمشكلاتنا التربوية والتنموية والحضارية إلا بإعداد أجيال متفائلة تؤمن بأن لكل داء دواءً، وأن استنهاضَ الهممِ يحتاج لتحفيزِ الدوافع والأهداف، وشحذِ الطاقات للبذل والعطاء والإنجاز.
إن التفاؤلَ يبني الطموحَ والهممَ العالية التي لا تعرف الكسلَ، أو تأجيلَ عملِ اليوم إلى الغد، فصعود الأمم للفاعلية الحضارية يحدثُ بالانتقال من حياة التشاؤم إلى حياة التفاؤل، الذي يقودُها إلى الكدِّ والسعي والحركة والإبداع، فالأمم المتفائلة تبني حضارتَها بجدارة بما تملك من قدرات حضارية عظيمة، وخبرات بشرية متفائلة تؤهلها للصعود والارتقاء، وقد قالوا: "إذا أردتَ أن تجعلَ العالمَ مكانًا أفضلَ، فانظر إلى نفسِكَ، وافعلِ التغييرَ من داخلِك"، ومن هنا فالتفاؤل لا يبني شخصية متفائلة فحسب، بل ذرة تفاؤل يمكن أن تبني مجرةَ تغيير وإبداع.
انظر إلى كل مبدع وناجح في حياته، فستجد أن روحه المتفائلة مكَّنته من بناء ما بنى، وانظر إلى كل أبٍ متفائلٍ وأم متفائلة ستجد نجاحات بلا حدود في تربيتهم لأولادهم، وإذا كان المتشائم يركز على المواقف التي فشِل فيها؛ بما يبعث في حياته القلقَ والحزن والاكتئاب، فإن المتفائل يحارب الوساوس التحطيمية، ويركز على المواقف الإيجابية؛ بما يرفع همته لأعلى.
فالمتفائل قدوةٌ لزوجته وأولاده، وأبناء مجتمعه ووطنه، في تفاؤله وقوته وسعادته وإيمانه، الذي يقرِّبه من ربه، يحذون حذوه، ويتعلمون منه، ويقتدون به، كما أن النفوس المتفائلة لا ترحل عن هذا العالم قبل أن تضع بصمتها الكونيةَ الإبداعية، التي تخدم التاريخ والحضارة والمجتمع الإنساني.
هناك جوانبُ كثيرة في حياتنا مشرقة، قد لا نلتفتُ إليها وهي تساعدنا - حتمًا - في تحقيقِ طموحاتنا وأحلامنا وبلوغ أهدافنا، والمطلوب من الإنسان أن يعيدَ اكتشافَ هذه الجوانبِ، ويسعى لتقييم ذاته؛ ليتمكن من القيام بأدوار إبداعية، وأولويات تنموية، تمكِّنُه من التخطيط والنجاح والتميز في حاضره ومستقبله.




الممارسة التعليمية الصحيحة


إن عملية ربط التعليم بالحياة الواقعية التي يعيشها التلاميذ، من خلال الأمثلة الحية مثلاً، تساعدهم على عملية الإبداع وذلك بتدريبهم على حل مشاكل الواقع، وهذا يعطيهم الثقة اللازمة بأنفسهم، ويساعدهم على الإعداد للمستقبل الذي ينتظرهم .
فالطريقة التعليمية في ظل الفكر التربوي الحديث ليست عملاً احتكارياً أو طريق موحدة تفرض أو تلقن، يتبعها المعلمون وينفذها آلياً، بل هي وسيلة تعتمد على حسن التصرف وفقاً للظروف القائمة، ومعيار نجاحها يتوقف على مدى أثرها في نفوس التلاميذ. وبالإضافة إلى ما تقدم فلكل موقف تعليمي ظروف معينة، وكذلك لكل مجموعة من التلاميذ قدرات خاصة، وبالتالي لكل مدرس خبرته ومهارته وكفايته، مما يؤكد ضرورة العناية باختيار طرق التدريس الملائمة، فالطريقة التدريسية الناجحة في موقف ليس معناه نجاحها في موقف آخر. لأن هناك عوامل مختلفة تؤثر في المواقف التعليمية العديدة .
يستطيع قادة التربية والتعليم أن يهدوا الطريق إلى برنامج اقتصادي أكثر مثالية للمجتمع ككل كما ينبغي للجان الإشراف ألا تسترشد في تخطيطها باعتبارات الميزانية وحدها .
في أثناء التدريس بالمدارس يجب أن تُشجع المناقشة الحرة بشأن القضايا الاقتصادية. ويجب أن يطالب التلاميذ بتحليل الأفكار والأساليب الاقتصادية المعاصرة والماضية تحليلاً ناقداً، وذلك حتى لا يقتصر أمرهم على أن يعكسوا بلا تفكير أوضاع أسرهم الخاصة. وإن الشباب ليفسد إعدادهم لمواجهة التحديات الجسيمة في العالم المعاصر إذا منع الحقوق مدرسيهم من إثارة الأسئلة حول مسوغات المعتقدات والأساليب الاقتصادية المختلفة .
يُوصى بتوضيح القيم كإجراء تعليمي، وبتطوير القيم كإستراتيجية إشرافية، إن الأنماط السلوكية للمعلم يجب أن تكون كلاً متسقاً حتى يكون لها أكبر الأثر على التلاميذ فعندما يفحص المعلمون قيمهم ويوضحونها، فإنهم سيختارون أنواع السلوك التعليمي المناسب، وسيستخدمون الاستراتيجيات الأكثر فعالية. فالموقف القيمي يجلب الاتساق لسلوك المعلم ويضفي عليه الالتزام.
ويجب أن تكون العناصر الأساسية في التربية مدار الإشراف لتطوير القيم مثل التلاميذ والمنهاج والتعليم والتعلُّم كما يجب القيام بنشاطات توضيح القيم في اللقاءات الإشرافية الفردية والجماعية . يجب أن يكون الهدف الأسمى لكل تعلم أو تعليم فهم الحقائق والمفاهيم وليس مجرد الحفظ في الذاكرة. فالفهم يعني أن الأمر قد اجتاز مرحلة الأسلوب الحسي الحركي ومرحلة التفكير وتأثيره في تقدم المجتمعات وتطور الحضارة. وهذا يعني أن الناس في المجتمع يصبحون من سلالة الإنسان الماهر وبذلك يستحق هؤلاء الناس تسميتهم بهذا الاسم العلمي (homo sapins) أي: الإنسان الماهر.
والمعلم الناجح هو الذي يستعمل أسلوباً يفيد من الطلاب في موضوع معين ثم يغير الأسلوب ليفيد فئة أخرى من الطلاب كما أنه يغير أساليب التعليم حسب متطلبات فهم الموضع والمواضع في المواد المختلفة تختلف في الأساليب الناجحة لفهمها .
والمعلم الناجح يستطيع ضرب أمثلة من الواقع لإيصال المعلومة الاقتصادية إلى الطلاب بشكل يماثل حياته الاجتماعية والاقتصادية، فلا يقتصر على الأمثلة الموجودة في الكتاب ويستخدم من قصص الصحابة والتابعين أو القصص الهادفة مدخلاً للدرس، ومن المسائل والتدريبات طرقاً للتنفيذ والتجربة، فيمكن للمعلم أن يُعطي التلاميذ بين أسئلة إضافية عن واجبات الكتاب بين الفينة والأخرى وفي الدروس التي تحمل طابع اقتصادي.

إذا أخطأت اعتذر.. بسيطة!

أيها الأب، إذا كنت تشعرُ بالذنب لتلفُّظِكَ بلفظٍ جارحٍ، أو أنك عنَّفْتَ ابنَك أو ابنتَكَ بطريقة ما، أو اتخذت قرارًا خاطئا في لحظة غضبٍ، فلديَّ الحل المناسب الذي عادةً ما يكون مجديًا: 
الإعتذار!
نعم، إذا أخطأتَ فاعتذر، فالإعتذارُ اعترافٌ بفعل الخطأِ وطلب المسامحةِ، فإن لم تفعل، فاعلم أنك أهدرت فرصةً ثمينة لتعليم ابنك عمليًّا وَصْفَةَ التسامحِ، وأغلقت عليه طريق العودة حينما يُخطِئ؛ لأنه - بعدم اعتذارك - قد بذرت في نفسه بذورَ التكبرِ والتعالي دون أن تشعر.
يعتقد البعضُ بأن اعتذارًا أو تصحيحَ خطأٍ قد ينتج عنه كسرٌ لهيبة الأمّ والأب ، وضعفٌ لنفوذِهما، ولكن هذا اعتقاد خاطئ؛ فالوالدان هما القدوةُ والنموذجُ الذي يَحتذي به الأبناءُ، فعليهما تقديم الصورة المُثلى لهم لطبيعة الإنسان السوي، والاعتذارُ لا ينقص من قدر أحد، فما دمت أخطأت فاعتذر، وما أجملَ أن تكون هذه قاعدةً داخلَ الأسرة تسري على الكبير والصغير!
فوائد الإعتذار:
يرأبُ الصدعَ الذي حدَث.
يعدُّ ترياقًا لذكرى مُؤلمة قد تَعلق بذهن الإبن طَوالَ العمر ولا ينساها.
يجعلك تتحفظ عن الوقوعِ في الخطأ مستقبلًا، ويمنحك القوة لكي تتحكم في أعصابك في المرة القادمة.
يتعلم ابنُك الإعترافَ بالخطأ، والإعتذار  في حال فعله.
يتعلم ابنُك قوَّة المغفرة ومعنى التسامح.
يزيدُ الحبَّ بينك وبين ابنك، ويخلقُ علاقة قوية دائمة.
يعدُّ الاعتذارُ تعبيرًا عن الحبِّ والتقدير للشخصِ؛ وهذا - لا شك - يشبع لديه الحاجة إلى القبول والتقدير.
كيف أعتذر؟
حافظْ على حالة الهدوء، وإذا كنت غاضبًا جدًّا، وبشكل واضح، فلا تُقدم على المحادثة مع ابنك وأنت في هذه الحالة، انتظر حتى تهدأ.
اعتذر ببساطة، عبِّر عن الأسف أو الحزن السريع في الأذى الذي سبَّبته لابنك.
اعتذر من سلوكك، وليس من نفسك، مثلًا قُلْ: "أنا آسف، لقد فقدت أعصابي وقمت بشتمك"، هذا أكثر فعالية من قول: "أنا آسف، أنا أب طائش وغير صبور"، (أو: أم طائشة وغير صبورة).
لا تُبرر سلوكك بلوم ابنك، لا تقل مثلًا: "لو لم تأتِ متأخرًا، لما غضبت منك"، هذه العبارة تحوِّل اللوم إلى ابنك، وتقلِّل من فعالية الإعتذار، فقولك: "أنا آسف... ولكن" يبدو اتِّهَامًا، ولا يعد اعتذارًا!
اسأل نفسَك وابنَكَ: كيف يمكن أن يتحسن الموقف؟ اسأله عن الحل المختلف لتفادي المشكلة، راجع سلوكك وسلوك ابنك وحاوِلا علاج المشكلات المماثلة في المستقبل.
تأكَّد من طلب المغفرة منه؛ قل مثلًا: "أنا كنت مخطئًا، هل بإمكانك أن تغفر لي؟"، هذا يعزِّزُ مشاعرَك بالأسفِ، على حين يعطي طفلك إدراكًا أفضل لقوَّةِ المغفرة والتسامح.
أجِّل مناقشة المشكلة الكامنة لوقت آخر، ربما يومين أو ثلاثة.
نصائح وتحذيرات:
لا تُفْرِط في استعمال الاعتذارات وإلا فستفقد المصداقية، على الرغم من أن كثرة الاعتذار تكون أفضل من أن تترك الأخطاء بلا تسوية، فتصير ندوبًا في نفسية الإبن لا يعالجها الزمن.
قدِّم اعتذاراتِكَ مباشرة .
أبدًا لا تعتذر من الإنضباط الصحيح والقواعد المتفق عليها (لأنك تنام متأخرًا جدًّا) لوقت آخر.. إنما تعتذر من تجاوزِك وأنت تعزز قيم الانضباط.
عندما تعتذر إلى ابنك، أَظْهِرْ رغبتَك في تحمُّل مسؤولية أعمالك.
أدرك بأنَّك قمت بخطأ ما، تحمَّل هذه المسؤولية، يجب أن يكون الاعتذار حقيقيًّا، واعلمْ أن الأبناءَ يتمتعون بملاحظة حادة جدًّا، وسيعرفون أنَّك لست مخلصًا في اعتذارك.
أيها الآباء، أبناؤنا يعانونَ كونَهم غيرَ مثاليين وأنهم يقعون دائما في الخطأِ، وحينما تقترف أنت بوصفك راشدًا خطأ في حقهم، ثم تأتي لتعتذرَ إليهم، فبذلك تصلهم رسالةٌ منك مفادها: (كونُك غيرَ مثاليٍّ، فلا بأسَ في ذلك؛ فكلنا نُخْطِئ، المهم أن نُسَوِّي أخطاءَنا مباشرة، فلا بأسَ من أن أخطِئَ، ولا بأس أيضًا من أن أعتذر، فأعظم الشجاعة الاعترافُ بالخطأ)، وبهذه الرسالة يعيش الابنُ في أمانٍ وسلامٍ، ويزولُ عنه الخوفُ والقلقُ من الإقدامِ والتجريبِ.

من محاسن الأخلاق الإسلامية التواضع

التواضع: هو لين الجانب، وعدم التعالي على الناس.
(والتواضع من الأخلاق المثالية والصفات العالية، فالمسلم متواضع في غير مذلة ولا مهانة، والمتعالون في الأرض يطبع الله على قلوبهم ويعمي أبصارهم، فلا يستشعرون قدرة الله القاهرة فوقهم ولا ينتفعون بآيات الله الباهرة من حولهم يقول تعالى ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35].
وقد توعد الله تعالى هؤلاء المتكبرين في الأرض بالنهاية الذليلة في الدنيا والحساب الأليم في الآخرة)
وقيل: (التواضع سلَّم الشرف)
وقال الشاعر:
تواضع تكن كالبدر لاح لناظر ** على صفحات الماء وهو رفيع
وقال آخر:
تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة ** فإن رفيع القوم من يتواضع
من الناحية العقلية:
التواضع صفة الإنسان الذي يعرف قدر نفسه، صفة الحكيم العاقل..
ومن الناحية البيولوجية العضوية:
المتكبر يحمل صفة الحقارة.. فالإنسان الذي يحمل في جوفه القذر، كيف يتكبر؟ وعلى من يتكبر؟.
ومن الناحية الإيمانية:
التواضع صفة العبد الطائع الرضي الذي يعرف أن الكبر من صفات الله تعالى وحده يقول في الحديث القدسي:
"الكبرياء ردائي".
والمسلم يعرف مقدار نفسه، ويعلم علم اليقين أنه عبد لله ناصيته بيده والخلق كلهم عيال الله، فإذا تكبر لقوة في بدنه فإن بعوضة ترديه، وقد أهلكت النمرود، وإذا تكبر لمال فإن قارون كان أغنى منه فخسف الله به وبداره الأرض، وما تكبر عبد؛ إلا نقص من عقله بمقدار ما تكبر به على الناس.
ولم يذكر القرآن لفظة (التواضع) إنما صورها بهذه الصورة البلاغية المعجزة فقال: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215].
وقال جل من قائل: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23].
اخفض جناحك. أرأيت إلى الطائر الذي يرفرف بجناحيه عندما يقترب من عشه، وفيه فراخه الجائعة وقد اقترب الأب ومعه الطعام والشراب لفراخه، كيف يخفض جناحه حباً ورحمة وحناناً؟
والصورة الثانية ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24] لا نريد أن نحللها تحليلاً بلاغياً، فليس هنا مجال البلاغة المتخصصة فنقول: استعارة مرشحة... وإنما نتذوق هنا الصورة الجمالية بعد استحضار هيئة الطير الحنون الذي يشفق على من يحب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً يعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه".
(وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع.
وقال عروة: أشد العلماء تواضعاً أكثرهم علماً، ومن الأمثال قولهم: كلما ارتفع الشريف تواضع، وكلما ارتفع الوضيع تكبر)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المتواضعين، فالمعروف أن القادة المنتصرين في المعارك، والفاتحين الذين يدخلون المدن المفتوحة كانوا يشمخون بأنوفهم نحو السماء بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحاً قد أحنى رأسه حتى إن لحيته الشريفة لتمس رحل ناقته وكان رحلاً رثاً زيادة في تواضعه صلى الله عليه وسلم، فأين عظمة العظماء من عظمة محمد صلى الله عليه وسلم في تواضعه في كل شأن من شؤون حياته؟
(نلمس التواضع في حياة محمد صلى الله عليه وسلم الشخصية في بيته وفي ملبسه وفي فراشه وفي طعامه..
يروي لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقفاً ترك أثراً في نفسه حتى أبكاه، يقول وهو يصف حاله عند دخوله على محمد صلى الله عليه وسلم.. وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت).
ويتجلى تواضع محمد صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس في اعتنائه بالضعفاء، كان يعني بقضاء حوائجهم ومشكلاتهم، ولا يأبى أن يمشي مع الأرملة أو المسكين فيقضي حاجته.
المؤرخون يشهدون بتواضع محمد صلى الله عليه وسلم:
ولقد شهد عديد من المؤرخين الذين درسوا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم بتواضعه إذ يقول المستشرق الأسكتلندي وليام مونتغمري: إن محمداً اكتسب احترام الناس وثقتهم عن طريق أعماله التي بنيت على أساس ديني، وكذلك خصال تمتع بها كالشجاعة والحزم والنزاهة.. إلى جانب أنه كان يتمتع بأخلاقيات تأخذ بمجامع القلوب منحته محبتهم وأمنت إخلاصهم وقال المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون في كتابه الشهير (انهيار وسقوط الإمبراطورة الرومانية) إن الوعي الأخلاقي الطيب لمحمد نبذ خيلاء السيادة، فقد تعامل مع المهام المنزلية البسيطة التي تكون داخل الأسرة؛ فقد كان يوقد النار ويكنس الأرض ويحلب الشاة ويرتق بيديه حذاءه وجلبابه.
ويحدثنا عن تواضعه القس بوزورث سميث فيقول: لقد كان رئيساً للدولة ولجماعة تدين بنفس العقيدة، لقد كان يجمع سلطة ومقام قيصر والبابا معاً، لكنه بابا بدون خيلاء البابا وغروره وقيصر بلا فيلق أو حشود وبلا جيس عامل ولا حارس شخصي ولا قوة من الشرطة ولا دخل ثابت فقد كانت معه جميع السلطات من غير أن يكون معه ما يدعمها أو يحافظ عليها وقد كانت حياته الخاصة متطابقة ومنسجمة مع حياته العامة.
يشارك أصحابه الأعمال والمهمات:
لم يكن دأب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعايش الواقع مع صحابته أن يكتفي بإصدار أوامره إليهم ن وقد كان قادراً على ذلك، ولكنه كان يعايشهم ويشاركهم بكل أريحية، فحين قدم المدينة كان من أول أعماله أن قام ببناء مسجده بالتعاون مع أصحابه فشاركهم في بناء المسجد.
وفي غزوة الخندق حمل التراب أثناء حفر الخندق وقام بنقله مع صحابته بلا كلل أو تأفف)
لقد علمنا الإسلام كيف يكون الإنسان عظيماً بالتواضع.