السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2021-09-04

مهام ووظيفة المدرس في ضوء المتغيرات الحالية



 مهام ووظيفة المدرس في ضوء المتغيرات الحالية:

حدَّدَت بعض أدبيات التربية والتعليم ثلاثَ مهام رئيسة للمدرس؛ وهي: التدريس، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع ؛ لهذا حاولَت بعضُ الدراسات رسمَ مَلمح متعدِّد للمدرِّس:
♦
المدرِّس الإنسان: فهو قبل كلِّ شيء كائنٌ له مَخاوف وآمال وهواجِس، تتراكم في بداية وأثناء ونهايةِ مشواره المِهني.
♦
المدرِّس الموظَّف: وهي الصورة الغالِبة عليه بارتباطه بوظيفة في المجتمع، ويتلقَّى عليها أجرًا.
♦
المدرِّس الباحث: باعتباره قناة لتمرِير أو تَسهيل مرور المعرِفة والقِيَم؛ فإنَّه دائم البحث عن المعلومة، وطريقةِ إيصالها، وشكل تقويم أداء التلاميذ.
♦
المدرِّس المتواصل: لعلَّ الوضعيَّات التي يوجد فيها المدرِّس كلها وضعيَّات تواصليَّة، سواء باللَّفظي أو اللالفظي؛ لذا فإنَّ الصورة التي يبثُّها هي صورته وصورة مجتمعٍ برُمَّتِه.
♦
المدرِّس صاحب مشروع: يَنطلق المدرس من عمله؛ من مشروع درسٍ، أو فرض، أو رسالة، أو صنع مشروع إنسان / مواطن، ثمَّ مجتمع بأكمله.
إنَّ إصلاح التعليم - حسب ما ذهب إليه أغلبُ الباحثين والمهتمِّين بالشَّأن التربوي - ليس هو ذاك الإصلاح الذي يَنطبق على الآلات؛ أي: تغيير قطعة مهترئة بأخرى متوافقة معها، كما قد يفكِّر في ذلك التقني بمنطقِه المحدود، فيتم تارة إصلاح مضامين الكتب المدرسيَّة، أو إصلاح مناهِج التعليم، أو إعادة تَكوين هيئة التعليم، من خلال فرض توزيع زمنيٍّ عليه، لا يترك له حتى حريَّةَ التنفُّس، فبالأحرى الإبداع في مجال ممارسته التعليميَّة.
إنَّ الإصلاح المتوخَّى هو الإصلاح الذي يتميَّز برؤيةٍ منظوميَّة وشموليَّة ونسقيَّة، تنطلق من المتعلِّم وتعود إليه، وبينهما تَدقيق المكونات التي تتفاعَل فيما بينها لإيجاد سياقٍ تعليميٍّ منسجم، يَنعكس إيجابًا على المتعلِّم الذي سيصبح رجلَ الغَدِ، ويَأخذ على عاتقه مسؤوليَّة تسيير البلاد والمساهَمَة فيها بإيجابية.

من علاج الخجل والانطواء



هناك فئات يعيقها خجل شديد عن بعض ضروريات الحياة، كالعمل وملاقاة الناس والاجتماع بهم والتحدث بينهم، وهذه سبع نقاط أزعم أنها مفيدة عن تجربة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. هناك فئات يعيقها خجل شديد عن بعض ضروريات الحياة، كالعمل وملاقاة الناس والاجتماع بهم والتحدث بينهم، وهذه سبع نقاط  أنها مفيدة 

 أولًا: الدعاء والذكر: ما دخل الدعاء والذكر في صعب إلا وسهُل، ولا عسير إلا وتيسر، ولا صدق مؤمن في دعاءه ورُد خائبًا، أجمع همومك وأحزانك، وأطفئ ضجيج الناس وقم في ليلة هادئة ادعو ربك.   قال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42]، قال ابن كثير في تفسيره: (والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه، وقوة لهما وسلطانًا كاسرًا له، كما جاء في الحديث: «إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه» اهـ.   وجاء الأمر بالذكر في موقف صعب وهو ملاقاة العدو، وما ثمة إلا موت يلوح؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]

  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قُوة إلا بالله».  

 قال النووي - رحمه الله -: (قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعترافٌ بالإذعان له، وأنه لا صانع غيرُه، ولا راد لأمرِه، وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر، ومعنى الكنز هنا: أنه ثوابٌ مدَّخر في الجنة، وهو ثواب نفيس، كما أن الكنز أنفس أموالكم، قال أهل اللغة: الحول: الحركة والحيلة، أي: لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل: معناه: لا حول في دفع شرٍّ، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعِصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكُلُّه متقارب).   قال ابن تيمية رحمه الله: (ولْيكن هِجِّيراه -أي عادته ودأْبه-: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فإنها بها تُحمَل الأثقال، وتُكابد الأهوال، ويُنال رفيعُ الأحوال). 

  قال ابن القيم رحمه الله: (وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يُخاف، وركوب الأهوال). 

  ثانيًا: قراءة القرآن وهو أفضل الذكر: الخجل من الناس والحديث معهم غالبه وَهْم وأمور نفسية، يحتاج معه إلى قوة نفسية وإيمان، لماذا القرآن؟، لأنه شفاء للسوء الواقع مهما كان عمقه، ووقاية من المرض المتخوف والوهم المتوقع، وبه خصائص لا توجد في غيره كما قالت العلماء، فشفاءه يشمل أسقام البدن وأمراض النفس والقلب، ومما ذكره العلماء أن كثرة قراءته تورث قوة في النفس يجد بها المسلم شجاعة في قول الحق ولا يخشى لومة لائم، فضلًا عن مجرد الكلام مع الناس، فضلًا عن تغيير كثير من معتقداته وأفكاره التي ما ظن يومًا أنها ستزول، فإن زاد وغاص في معاني القرآن وتدبره عرف قيمة الحياة وقيمة الناس، وعرف خالقه والمعنى الحقيقي لكل شيء، فيجد نفسه بعد مدة خلقًا آخر غير الأول.  

 والقرآن يطرد وساوس الشيطان، وما من شر إلا وللشيطان منه نصيب، إما تأسيسًا أو تهويلًا، فعمله الكثير بث الحزن من الماضي، والخوف من المستقبل.  

 ثالثًا: البدء بالسلام عند ملاقاة الناس: أصعب ما يواجه الخجول أن يستهل حديثًا مع أحد غريب، ولن تجد مثل السلام في فضله وأثره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»، فإن اعتاد على السلام بصوت مرتفع وألفاظ واضحة على كل من يلقاه فقد بدأ في نزع الخوف.  

 وقالوا: إنه من الشائع أن يبدأ الناس حديثهم بأخبار الطقس، مثل: اليوم ممطر، أو الطقس حار جدًّا، لكسر الرهبة الأولى بين الغرباء.   رابعًا: العمل في بيئة مواجه للجمهور: ولو اضطررت لأن تدفع لصاحب العمل مالًا فافعل!، لعظم الفائدة التي ستجنيها من ذلك، التعرض اليومي لمعاملة الناس مباشرة والحديث معهم نافع جدًّا، فضلًا عن مكوثك في مكانٍ عامٍ وتكوين علاقات مع زملائك ولو كانت سطحية.   

خامسًا: العيش مؤقتًا في غربة: كثير من الناس كانوا منطويين على أنفسهم قلما يجتمعون وإذا اجتمعوا فعلى مضض، جربوا السفر خارج محيطهم لمدة فعادوا أناس مختلفين، فيجد الرجل أشخاصًا غير ما ألفهم، وأماكن مختلفة، ولو كانت ثقافة مختلفة كان أنفع، فتكون له بداية مهيأة في بيئة جديدة.  

 سادسًا: تهوين أمر الناس: من أسباب الخجل الخوف من أحكام الناس عليه ورؤيتهم له وانتقاصهم منه، فنقصد عدم المبالغة في تقدير فكرهم أو نقدهم أو رؤيتهم له، ليس احتقارهم وازدراءهم بل وضعهم في مواضعهم، والخجول غارق في جلد الذات، فأي كلمة تصدر ضده يسلم أنها صحيحة ويجلد ذاته فيزداد انطواءً.   سابعًا: عدم المقارنة مع الغير وارض بما قسم الله لك: عند بعض الناس القول بالرضا بما قدره الله يأتي غالبًا عند العيوب، وهذا خطأ، بل يُقال في كل حين، عند أي لحظة تشعر بها بالسخط من نفسك وبما قسمه الله ولو لم يكن عيبًا، عند أي مقارنة مع غيرك.   

أنت متفرد حتى بعد خروجك من دائرة الخجل، أنت لديك ميزات ليست لدى غيرك، إحساسك عالٍ ورقيق، تشعر بما لا يشعرون به، أنت مهيأ لاكتشاف أمور لا يكتشفونها، مستمع ممتاز، محلل عبقري، يستطيع فهم وتصور أشياء عميقة، تجده يخشى أذية الناس أو إحراجهم، أقرب لحسن الخلق من سيِّئها.  

 والنبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها كما ورد بالحديث، وعثمان بن عفان كان رجلًا تستحي منه الملائكة، هذا الحياء هو الغاية من الكلام، أن ترتقي من درجة الخجل الشديد الذي يمنعك من أمور ضرورية إلى درجة الحياء النبوي العفيف، فلا تجد حرجًا في أن تصل رحمك وتزور جارك وتقوم بعملك، وتقول: لا، لما تكره وما لا تريد فعله، ولا تُجامل دائمًا وتلوم نفسك. 

  لا تنظر إلى الرجل الجرئ جدًّا وتريد أن تكون مثله تمامًا، فبعضهم وقح ولديه نقص بالعقل، أحيانًا لا يدري ما يقول ولا ما يفعل إلا بعدما يفعل ويقول، لا يفكر بعواقب فعله يتكلم هكذا كيفما جاءت، يحسب أنه على قوة وخير والناس يخشونه وهو خاطئ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره».



قواعد التربية الناجحة



إن الحكيم هو الذي يتعهد ولده بالتربية والرعاية في الصغر، رجاء أن يجني البر والإحسان في الكبر، ومن أفضل النماذج التي ننصح بها الآباء ليستخلصوا منها القواعد المثلى في التربية، هي وصايا لقمان الحكيم لولده إن الحكيم هو الذي يتعهد ولده بالتربية والرعاية في الصغر، رجاء أن يجني البر والإحسان في الكبر. 

وهناك كثير من النماذج التي حقق فيها الآباء نجاحاً ملحوظاً في تربية أبنائهم، ومن أفضل النماذج التي ننصح بها الآباء ليستخلصوا منها القواعد المثلى في التربية، هي وصايا لقمان الحكيم لولده؛ تلك الوصايا التي بلغ من قدرها عند الله - تعالى - أن خلَّد ذكرها في أعظم كتاب تلقَّته البشرية، وزاد من قدرها أن صاحبها لم يكن رجلاً عادياً؛ بل كان رجلاً شهد الله له بالحكمة، وهي شهادة عظيمة كونها من أحكم الحاكمين، وجعل اسم هذا الرجل عنواناً للسورة التي ذكرت فيها هذه الوصايا، والتي يتلوها ملايين الآباء في كل جيل من هذه الأمة لتكون لهم منهجاً في القيام بالمسؤولية التي أوكلتْ إليهم، والمتمثلة في إعداد الأجيال القادمة لتولِّي زمام الخلافة في الأرض. ودراستنا لهذه الوصايا ليست شرحاً لها، فهذا جهد قد كفانا إياه المفسرون أجزل الله ثوابهم؛ وإنما دراستنا هي استخراج للقواعد التي قامت عليه هذه الوصايا، والتي - في رأينا - لا تقل أهمية عن شرح هذه الوصايا بل قد تزيد؛ اعتقاداً منَّا أن التربية الناجحة ليست مجرد وصايا ومواعظ لا تقوم على أساس، يتلقاها الآباء عن أبائهم ثم يلقنونها لأبنائهم؛ بل لا بد أن تكون وصايا قائمة على قواعَد صحيحةٍ ينتهجها الآباء في تنشئة أبنائهم عند الطفولة حتى تؤتي التربية ثمارها، وتتلاءم مع المستجدات والمتغيرات التي طرأت على زماننا وزادت فيها احتياجات أبنائنا إلى وصايا أخرى مناسبة تجعلهم قادرين على العيش في زمانهم بفاعلية، والقيام بواجب الخلافة التي خُلقوا لها.

 لكل ذلك كان لا بد من ذكر هذه القواعد الضابطة والموجِّهة لهذه الوصايا وكشفها؛ ليدرك الآباء الحكمة في وصايا لقمان فيضعوها في موضعها المناسب وفي الوقت المناسب بما يحقق الغاية المنشودة والأهداف المقصودة من التربية، وقد قيل عن الحكمة: إنها (وضع الشيء المناسب في المكان المناسب) ويمكن إجمال هذه القواعد في ما يلي: أولاً: تعهُّد الأبِ ابنَه بالنصح والتوجيه، وهو ما يزال تحت كنفه؛ وبالأخص في المراحل الأولى من العمر التي يتهيأ فيها الأبناء لاكتساب القيم، وتبدأ فيها وضع البصمات الأولى في تكوين الشخصية؛ فالتربية الناجحة ليست نظراتٍ خاطفةً، ولقاءاتٍ عابرةً ينتظر الآباء أن يجنوا من ورائها ثماراً ناضجة؛ بل هي مراحل طويلة، ومجالس متعددة، يلتقي فيها الآباء بالأبناء ليُراجعوا الماضي فيصلحوا ما فسد، ويقوِّموا ما اعوجَّ، وينظروا في الحاضر والمستقبل فيضعوا لَبِنَاتٍ جديدةً من المعارف النافعة، والأخلاق الفاضلة بحسب حاجات أبنائهم، وهذا ما ذكره الله - تعالى - عن لقمان:{وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان: ٣١] فجملة {يَعِظُهُ} جملة فعلية وهي دالة على الحدوث والتجدد؛ فقد كان لقمان يتعهد ابنه بتلك الوصايا بين حين وآخر بحسب الحاجة، وقد ذكر المفسرون في كتبهم بعض هذه المجالس. ثانياً: انطلاق وصايا لقمان من الحكمة: فهي لم تكن اعتباطاً، بل كانت عن معرفة وخبرة. قال - تعالى -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْـحِكْمَةَ} [لقمان: 12]

وترى في الآيات أن الله قد جعل الحكمة هي المقدمة التي ابتدأ بها قبل ذكر وصايا لقمان، وهي المقدمة المطلوبة من الآباء، قبل أن ينزلوا ميدان التربية، فعليهم أولاً أن يرحلوا إلى مصادر المعرفة المتاحة لتلقي أسس التربية الناجحة، وهي مصادر قد صارت في زماننا متعددة ومتنوعة نذكر منها (الدورات - والكتب - وسؤال أهل الاختصاص - والاستفادة من أصحاب التجارب... وغيرها). ثالثاً: أن يستخدم فيها وسائل الإقناع المتنوعة: فلا يجعل توجيهاتِه لأبنائه أوامرَ جافةً غيرَ معللةٍ، بل يقرنها بما يغري بالالتزام بها، ومن هذه الوسائل تعليل الأمر وبيانُ سببه، وتقبيح المنكر وتعظيمُ خطره، وتحسين المعروف وذكرُ فضله، وربط هذه التوجيهات بالآخرة، وبمحبة الله ورضاه، وبرقابة الله وحسابه. 

• تعليل الأمر وبيان سببه: فعندما أوصى لقمان ولده بالإحسان لوالديه علل الوصية فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فَحَمْلُها لولدها تسعة أشهر عانت فيهما ألام الحمل والطلق، وإرضاعُها له عامين، كل ذلك يستوجب منه مكافأة الإحسان بالإحسان: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ} [لقمان: 14]

• تقبيح المنكر وتعظيم خطره: وعندما نهاه عن الشرك بيَّن له خطره فقال: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وذكر له قباحة وشناعة رفع الصوت من غير حاجة فقال: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 19]. 

• تحسين المعروف وذكر فضله: وعندما أمر ولده بالصبر على مشاق الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد والمفسدين، ذكر له محاسن هذا السلوك وأنه من خلق ذوي العزم فقال: {وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17]

• ربط هذه التوجيهات بالآخرة: فعندما أوصى ولده بشكر الله المنعم الأول، وشكر والديه (سبب النعمة) قرن كل ذلك بالآخرة: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ} [لقمان: 14]

• ربط التوجهات برقابة الله وحسابه: فعندما طلب منه صحبة والديه بالمعروف - وإن كانا حريصين على شركهما بل ويجتهدان في رده عن دينه - قرن ذلك برقابة الله - سبحانه - وحسابه: {وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 15 يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 15 - 16]. 

• ربط التوجهات بمحبة الله ورضاه: فعندما نهى ولده عن مظاهر الكبر قرن تَرْك ذلك بمحبة الله ورضاه {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]

ثالثاً: وصايا تسعى إلى بناء الشخصية المتوازنة بين الإفراط والتفريط، فلا تجنح إلى طرف على حساب الطرف الآخر فلا طاعة للوالدين في دعوتهما للشرك، وفي الوقت ذاته لا قطع لهذه العلاقة حفظاً للمعروف الذي كان منهما في صغره: {وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، وإذا مشى فمشيته قصد (بين البطء والإسراع) (بين التبختر والتماوت) {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19]، وإذا تكلم فهو يغض من صوته ولا يرفعه إلا بقدر ما يحتاج إليه السامعين {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِك} و (من) للتبعيض؛ فأحياناً قد يحتاج الإنسان لرفع صوته لبعد السامع أو لثقل سمعه، وإذا فعل الخير فهو يقرن ذلك بالدعوة إليه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ} [لقمان: 17]. 

التربية بالقدوة الحسنة قبل الموعظة الحسنة، وبالحال قبل المقال، وبالسلوك الحسن قبل الكلام الحسن، وبإصلاح النفس قبل إصلاح الأبناء، كما قال أحد الحكماء لمربي أبنائه: (وليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيك إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنتَ والقبيح عندهم ما استقبحتَ) وفي قصة لقمان افتتح تلك الوصايا بأمرين: 

أولهما: وصفه بالحكمة وهي تعني العلمَ كما تعني العملَ بذلك على قدر الاستطاعة.

 وثانيهما: أن الله وعظ لقمانَ قبل أن يعظ لقمانُ ولدَه وأمره ونهاه قبل أن يفعل ذلك مع ولده، ودعاه إلى شكر النعمة قبل أن يدعو إليها ولده {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْـحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، وكل ذلك حتى يكونَ له قدم السبق في العمل بتلك الوصايا فيكون مثالاً للاقتداء فيوافق الحالُ المقالَ، ويكون أدعى للطاعة والامتثال، وكما قيل (حال رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل). رابعاً: توجيهات تراعي الأولويات، وَفْق ميزان الشرع، فتقدم ما هو أَوْلى بالتقديم، وتؤخر ما حقه التأخير: فحق الله في التوحيد الخالص، وإفراده بالعبادة أَوْلى بالتقديم من حق الوالدين في الطاعة ولذلك بدأ بحق الله - تعالى - فقال: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ثم ثنَّى بحق الوالدين فقال: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} ثم أكد هذا المعنى فقال: {وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]

وشُكْر الله لأنه المنعم الأول بتهيئة أسباب الرعاية، أَوْلى بالتقديم من شكر الوالدين الذين هما سبب الرعاية {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]

وإصلاح النفس أَوْلى بالتقديم من إصلاح المجتمع ولذلك أوصى ولده بإقامة الصلاة التي هي وسيلة لإصلاح النفس قبل أن يوصيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي وسيلة إصلاح المجتمع: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17]. خامساً: توجيهات لا تحذِّر من المساوئ إلا بقدر ما تعرِّف بالمحاسن، ولا تنهى عن المنكر إلا بقدر ما تأمر بالمعروف، ولا ترهِّب من الرذيلة إلا بقدر ما ترغِّب في الفضيلة، فهي ليست تربية سلبية تحذِّر من الشر ثم تترك الدلالة على الخير؛ فالتربية هي التنمية ومن يكتفي بالتحذير من المساوئ والنهي عن المنكر والترهيب من الرذيلة والتخويف من الشر، ثم لا نرى منه تعريفاً بالمحاسن ولا أمراً بالمعروف ولا ترغيباً في الفضيلة ولا دلالة على الخير، هو في الحقيقة يقتصر على الهدم دون البناء؛ والتربية الناجحة تقوم على الهدم والبناء، على التخلية والتحلية، على التطهير والتنمية؛ فهي إزالة وهدم للأخلاق السيئة وتنمية وبناء للأخلاق الحسنة، وهنا نرى لقمان يجمع بين الأمرين (فهو يحذِّر من الشرك ومظاهر الكبر وفي هذا هدم للمساوئ، وهو في الوقت ذاته يدعو إلى طاعة الوالدين وإقامة الصلاة وإصلاح المجتمع؛ وفي هذا تنمية للأخلاق الفاضلة). 

سادساً: توجيهات تقوم على اقتراح البدائل وعلى كشف الداء ووصف الدواء؛ فهو يكشف المظاهر السيئة التي هي عنوان ودليل الرذائل، ويصف البديل عنها من المظاهر الحسنة المؤدية إلى اكتساب محاسن الأخلاق، وانظر معي قول لقمان وهو يشخِّص الداء من مظاهره الدالة عليه فيقول: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]

وهذه كلها مظاهر تدل على أن صاحبها مصاب بداء الكبر، ثم انظر إليه وهو يضع الحلول والوسائل والدواء للشفاء من هذا المرض والظفر بنقيضه فيقول: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} [لقمان: 19] فكما أن التبختر في المشيَ، وتصعيرَ الخد، ورفعَ الصوت طلباً للظهور ولفتاً للأنظار كلها دالة على الكبر ووسيلة إليه، فإن القصد في المشي وغضَّ الصوت وسيلة لاكتساب التواضع ودالة عليه. 

سابعاً: استخدام كل الوسائل التوضيحية المتاحة التي تتقرب بها المعاني، وتتضح بها التوجيهات؛ وخاصة للناشئة الذين ما زالوا يحتاجون إلى الصور المشاهدَة المحسوسَة والمألوفة لتلقِّي المعرفة وإدراك المعاني أكثر من حاجتهم إلى المعرفة النظرية، ولقد استخدم لقمان عدة وسائل في تعليم هذه الوصايا، من ضرب الأمثال واستخدام الكنايات والتشبيهات، فكان مما قال: {يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، ومنها: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18]. قال ابن كثير: (وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها فشبه به الرجل المتكبر)، ومنها: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِير} [لقمان: 19]

وهذه الوسائل التي استخدمها لقمان في وعظه لابنه (حبة خردل - صخرة - تصعر - صوت الحمير) كلها وسائل محسوسة ومشاهدَة ومألوفَة في ذلك الزمان، ولا شك أن المدنية الحديثة، والثورة التقنية، والحضـارة المعاصرة جاءتنا بكثير من الوسائل التي يمكن استخدامها في تقريب المفاهيم وتوضيح المعاني إلى عقول الناشئة. ثامناً: وصايا شاملة لكل ما يحتاج إليه الأبناء، في حياتهم الفردية، والأسرية، والاجتماعية، بما يجعل كلاً منهم صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره، فاعلاً للخير وحاضّاً عليه، متمسكاً بالقيم وطريقاً إليها، عارفاً بحق الله وحق نفسه وحقوق الناس عامة، وحق المحسنين إليه خاصة؛ فهي تسعى إلى إصلاح حاله مع الله بالتوحيد الصافي وإقامة الشعائر، وإصلاح حاله مع نفسه بالتزام مكارم الأخلاق واجتناب مساوئها، وإصلاح حاله داخل نطاق الأسرة بالإحسان إلى والديه، وإصلاح حاله داخل نطاق المجتمع بأن يكون فاعلاً فيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

تاسعاً: أن تكـون وصايا نابعـة مـن حـب الآباء لأبنـائهـم وحرصهم على صلاحهم: ولعلك لمست هذا في نداء لقمان لابنه فهو لم يناده باسمه، بل تسمعه يناديه بكلمة (يا بني!) ويكررها في أغلب وصاياه، وهي كلمة تزول عندها المسافات، وتتحاضن القلوب، وتتفجر كلُّ معاني العطف والحنان، ويلمس الأبناء في جرسها دفء الأبوَّة، وتجعلهم أكثر استجابة لوصايا أبآئهم وعملاً بها، وهل هناك أجمل من أن ينادي الأب ولده بأعظم رابطة تجمع بينهما؟ ويشعر الولد بأن حق هذه الرابطة الحميمة هو الذي دفع والده إلى هذه الوصايا التي فيها صلاحه في دينه ودنياه، في حاضره ومستقبله، في عاجل أمره وآجله. 

أخيراً: بعد دراستنا لهذه الوصايا رأينا أن من خصائص التربية الناجحة التي أشاد بها القرآن وخلَّدها إلى آخر الزمان، وجعلها ثمرة الحكمة التي وهبها الله لعبده لقمان وصارت دستوراً للآباء لتربية أبنائهم: هي التربية التي يتعهد فيها الآباء أبناءهم بالنصح والتوجيه، وينطلقون فيها من المعرفة والخبرة، ويقترن بها ما يغري بالالتزام، وتجمع بين التحذير من المساوئ والتعريف بالمحاسن، وتضع البدائل وتكشف الداء وتصف الدواء، وتبدأ بالقدوة الحسنة قبل الموعظة الحسنة، وتضع كل شيء في موضعه وتزنه بميزان الشرع، وتستخدم كل الوسائل المتاحة لتقريب المعاني وتوضيح المفاهيم، وتسعى إلى بناء الشخصية المتوازنة، وتشمل كل ما يحتاج إليه الفرد في حياته العامة والخاصة، وتكون نابعة من حب الآباء وحرصهم على إصلاح أبنائهم. 

وعلى قدر التزام الآباء بالنهج الذي سارت عليه هذه الوصايا يكون نجاحهم في التربية، وتكون فرحتهم وسعادتهم بجني ثمارها في أبنائهم الذين هم أغلى ما يملكون في حياتهم من رجاء البر والإحسان منهم عند الكبر، وأغلى ما يتركون بعد موتهم من بقاء الذكر ودوام العمل؛ ففي الحديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»[1] وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «ما نحل والد ولده نحلاً أفضل من أدب حسن»[2]؛ أي أن أفضل ما يهديه الوالد لولده إحسان أدبه.   



مكارم الأخلاق - (1) قضاء حوائج الناس

 


المسلم الذي يخالط الناس، يجد نفسه بين فئتين منهم تتجاذبانِه: فئةِ الأخيار، تدعوه إلى الخير والصلاح، وفئةِ الأشرار، تجذبه إلى الشر والفساد وسوء الأخلاق عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحبُّ الناسِ إلى الله - تعالى - أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله - عز وجل - سرورٌ تدخِله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا، ومن كفَّ غضبه، ستر الله عورته، ومَن كظم غيظًا، ولو شاء أن يمضيَه أمضاه، ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تزِلُّ الأقدام، وإن سوء الخلق لَيفسدُ العمل كما يفسد الخلُّ العسلَ» (رواه ابن أبي الدنيا)، وهو حديث حسن. 

  ظهر هذا الحديث الشريف محورًا أساسًا، يدور عليه نجاح الأمة الإسلامية، وينبني عليه شرفها، ومجدها، وعزتها، وهو تَمثُّل حُسن الخلق في التعامل مع الآخر، واستحضارُ وصايا مبلِّغ شريعة الإسلام - صلى الله عليه وسلم - في ضبط العلاقة بين الأفراد والجماعات، الذي ما بعثه الله - تعالى - إلا ليتمِّم حسنَ الأخلاق؛ فقد سقطت أكثر من 20 حضارة بسبب فساد أخلاق أهلها، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]

وَإِذَا أُصِيبَ القَوْمُ فِي أَخْلاقِهِمْ ♦♦♦ فَأَقِمْ   عَلَيْهِمْ   مَأْتَمًا   وَعَوِيلا   ولا شكَّ أنَّ المسلم الذي يخالط الناس، يجد نفسه بين فئتين منهم تتجاذبانِه: فئةِ الأخيار، تدعوه إلى الخير والصلاح، وفئةِ الأشرار، تجذبه إلى الشر والفساد وسوء الأخلاق، قال - عليه الصلاة والسلام - من حديث أبي سعيد الخدري: «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانةٌ تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانةٌ تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله» (البخاري).  

 ولهذا كان التزام الفئة الخيرة ضروريًّا لاستقامة الحياة وسعادتها؛ فقد أوصى الله - تعالى - رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].   وفي "صحيح مسلم" عن سعد بن أبي وقَّاص قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستَّة نفر، فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اطرد هؤلاء، لا يجترئون عليْنا، قال: وكنت أنا (أي: سعد بن أبي وقاص) وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجُلان لست أسمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع، فحدَّث نفسه، فأنزل الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]"

هكذا تتغير نظرة الناس إلى الآخر، مركزة على معايير غير حقيقية، يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -:   عَلَيَّ ثِيَابٌ لَوْ يُبَاعُ جَمِيعُهَـــــــا   ***   بِفَلْسٍ لَكَانَ الفَلْسُ مِنْهُنَّ أَكْثَـرَا  وَفِيهِنَّ نَفْسٌ لَوْ يُقَاسُ بِبَعْضِهَـا   ***   نُفُوسُ الوَرَى كَانَتْ أَجَلَّ وَأَكْبَرَا    قال الفضيل بن عياض: "اتبعْ طرق الهدى، ولا يضرك قلَّة السالكين، وإياك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين"، وصدق والله.   كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَمْ يَلِدْهُ أَبُوكَـــــا   ***   وَأَخٍ أَبُوهُ أَبُوكَ قَدْ يَجْفُوكَـــــا  صَافِ الكِرَامَ إِذَا أَرَدْتَ إِخَاءَهُمْ   ***   وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَخَا الحِفَاظِ أَخُوكَا  كَمْ إِخْوَةٍ لَكَ لَمْ يَلِدْكَ أَبُوهُــــمُ   ***   وَكَأَنَّمَا آبَاؤُهُمْ وَلَدُوكَــــــــــــا    ولذلك سمعت في الحديث السابق: (ومَن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام).  

 فمن كمال الخُلق: أن تنبسط في وجه أخيك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة» "ص. الترغيب"، وقال أبو جعفر المنصور: "إن أحببتَ أن يكثر الثناءُ الجميل عليك من الناس بغير نائل، فالْقَهُمْ بِبِشْر حسن"، وتأمل في هذه القصة البديعة الرقراقة، التي يرويها عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِل بوجهه وحديثه على أشرِّ القوم، يتألَّفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليَّ، حتى ظننتُ أني خير القوم، فقلت: يا رسولَ الله، أنا خير أم أبو بكر؟ قال: «أبو بكر»، فقلت: يا رسولَ الله، أنا خير أم عمر؟ قال: «عمر»، فقلت: يا رسول الله، أنا خير أم عثمان؟ قال: «عثمان»، فلمَّا سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَنِي، فلودِدتُ أني لم أسأله"؛ (رواه الطبراني) ، وحسَّنه في "مختصر الشمائل".   ومن كمال الأخلاق: الصبرُ على أذى الجاهلين، ونكايةِ الغافلين، قال – تعالى -: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]

 ومن عجائب أخلاق الأحنف بن قيس - وكان سيِّدًا في قومه، إذا غضب غضب له مائةُ ألف، لا يسألونه فيم غضب - أنَّه كان يسير يومًا إلى منزله، ووراءَه رجل يتبعه منذ مسافة، يسبُّه ويشتمه، فلمَّا قرب الأحنفُ من بيته (أي من حارتِه) وقف، وقال لهذا الرجل: "يا أخي، أعْطِني ما بقي عندك، أكمل السب والشتم"، فاستغرب الرجل وقال: لماذا؟! قال: "أخشى أن يراك سفهاءُ قومِنا فيؤذوك، وأنا لا أريد أن يؤذوك"، فأطرَقَ الرجل حياءً وانصرف. 

  يقول - صلى الله عليه وسلم -:  «أربع إذا كُنَّ فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدقُ الحديث، وحفظُ الأمانة، وحسنُ الخلق، وعفَّةُ مطعم» "ص. الجامع".  

 إِنِّي لَتُطْرِبُنِي الخِلالُ كَرِيمَــــةً   ***   طَرَبَ الغَرِيبِ بِأَوْبَةٍ وَتَــلاقِ  وَيَهُزُّنِي ذِكْرُ المَحَامِدِ وَالنَّــدَى   ***   بَيْنَ الشَّمَائِلِ هِزَّةَ المُشْتَــاقِ  فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيقَةً مَحْمُـــودَةً   ***   فَقَدِ اصْطَفَاكَ مُقَسِّـمُ الأَرْزَاقِ  وَالنَّاسُ هَذَا حَظُّهُ عِلْـــمٌ وَذَا   ***   مَالٌ وَذَاكَ مَكَارِمُ الأَخْــــــلاقِ  وَالمَالُ إِنْ لَمْ تَدَّخِرْهُ مُحَصَّنًا   ***   بِالعِلْمِ كَانَ نِهَايَةَ الإِمْـــــــلاقِ  

  لما غاب كثيرٌ من هذه الأخلاق الرفيعة عن المسلمين، وكَلهم اللهُ إلى أنفسهم، فضَنكت معيشتُهم، وقلَّت حيلتهم، فتفشَّت فيهم الأميَّة، وانتشرت بينهم الأمراض، وعظمت بينهم الصراعات، فضعفت هِمَمهم، وذهبت ريحهم، وسلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فاستباحوا أراضيَهم، وأخذوا بعض ما في أيديهم، وأمامنا نكبة فلسطين، حيث الحرمات مستباحة، والدماء مسفوحة، والمساجد تهدم، والمستشفيات تقصف، متوسط الجرائم أكثر من 60 قتيلاً و230 جريحًا يوميًّا، طيلة ثلاثة وعشرين يومًا، بلا شفقة ولا رحمة، قال – تعالى - {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، ولكن بالأخلاق الفاضلة ينتصِر المسلمون، بالتصرُّفات السديدة يَسُود المسلمون، بتحكيم أوامر كتاب الله وسنَّة رسوله يعزُّ المسلمون، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].  

 وقد أُثر عن عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّه قال: "نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فمَن ابتغى العزة في غيره، أذلَّه الله"، وفي وصيته - رضي الله عنه - لسعد بن أبي وقاص ومن معه من الجنود، قال: "وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوِّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوَّة؛ لأن عددنا   ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعُدَّتهم، فإنِ استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في   القوَّة، وإلاَّ نُنصَر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوَّتنا".   فلنتَّقِ الله في أنفسنا - عباد الله - ولنتخلق بأخلاق الإسلام، ولنقلع عن المعاصي والآثام، قال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -: "إنَّ للسيئة اسودادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق"، فاللهم زينَّا بزينة الإسلام، ومتِّعنا بنعمة الإيمان.


العبرة بالبركة لا بالكثرة


 العبرة بالبركة لا بالكثرة 

 وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من سقطت منه لقمة ، أن يميط عنها ما أصابها من الأذى ، ثم يأكلها ، وعلل صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله " «فإنه لا يدري في أي طعامه البركة » " [ رواه مسلم] من تأمل حاله وحال الناس من حوله أدرك يقينا أن العبرة بالبركة لا بالكثرة ، وأن البركة إن حلت في شيء مادي أو معنوي نفع أعظم النفع ، وإن نزعت منه فلا جدوى منه وإن كثر ، وأن المرء عليه ألا يستهين بخير ، أو يستقلل من رزق ، أو يزهد في باب من أبواب النفع ، فإنه لا يدري أين تكون البركة . 

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من سقطت منه لقمة ، أن يميط عنها ما أصابها من الأذى ، ثم يأكلها ، وعلل صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله " «فإنه لا يدري في أي طعامه البركة » " [ رواه مسلم] - وكذلك الحال في كل أمورك : 

- فأولادك الكثيرون لا تدري من منهم سيكون فيه البركة والنفع لك في الدنيا والآخرة . قال تعالى  { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } 

 - وطعامك وشرابك وساعات نومك وعملك وكل شيء تشتريه أو تبيعه لا تدري في أي منها تكون البركة .

 - والتاجر أو الصانع لا يدري في أي مشروع ، أو صفقة أو عمل تكون البركة. 

- والأستاذ والمعلم لا يدري في أي واحد من تلامذته الكثيرين تكون البركة . 

- والكاتب والمؤلف لا يدري في أي كتاب أو بحث أو مقالة تكون البركة . 

- والداعية والواعظ لا يدري في أي كلمة أو خطبة أو عظة أو نصيحة تكون البركة . 

- وطالب العلم لا يدري أي كتاب يقرأ فيه أو أي درس أو محاضرة يسمعها تكون فيها البركة . 

وهكذا الحال في كل باب من الأبواب ، وكم رأى الناس في حياتهم أشياء يسيرة لم يكونوا يظنون أن تبلغ ما بلغت ، وإذا بها تترتب عليها أمور كبار ، وكذلك العكس صحيح فقد يبذل المرء الجهد في عمل ثم لا يجني من ورائه إلا القليل . ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " « وبارك لي فيما أعطيت» "