السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2015-10-31

الشعر الملحمي بين النشأة والتأصيل"





صورة ‏قلم يكتب‏.






مداخلتي في الملتقى الأدبي الرابع شعراء في رحاب ولايتنا تحت شعار: " الشعر الملحمي بين النشأة والتأصيل" أيام : 10 / 11/ 12 اكتوبر 2015. بعنوان : الشعر الملحمي رؤية نظرية .
مقدمة:
الفنون الأدبية أنواع منها ما هو نثري ومنها ما هو شعري فالفنون النثرية ترجع إلى القصة والوصف والتاريخ والخطابة فالرسالة والنقد الأدبي, أما الفنون الشعرية فهي لؤلؤة في تاج العرب طوروها وتفننوا في تشكيلها وأبدعوا في تلوينها بما يناسب كل عصر من العصور وانصب اهتمامهم في أول الأمر على الشعر الغنائي الذي يضم المدح والهجاء والفخر والوصف والرثاء والغزل..ثم ارتقى إلى.الشعرالموضوعي الذي يضم الشعر القصصي والشعر المسرحي والشعر الملحمي. والذي هو موضوعنا في هذا الملتقى من خلال المحاور الثلاث : الشعر الملحمي في الأدب الجزائري ـ التجربة والتقييم ـ الشعر الملحمي وعلاقته بالتاريخ والتدوين، جدلية الشعر الملحمي والمسرح ... المنطلق والآفاق .
تعريف الملحمة:
الملـحمة *
رواية شعرية طويلة تدور حول البطولات والمواقف الجليلة في جو من الخوارق ’تهدف إلى غاية قومية أو إنسانية ’فالملحمة إذن من الفنون القصصية وما الشاعر إلا شاهد لما يروي ومن ثمة فهي موضوعية لا ذاتية. وهي شعرية لأنها تروي خوارق من صنع الخيال. وهذا العالم الخيالي لا يشاد إلا بالشعر. وهي رواية طويلة لان أحداثها ممتدة عبر التاريخ تتناول الحروب بين الشعوب والأمم ’ فهي خلاصة تراث الشعوب وأمجادها القومية وهي صلة الماضي بالحاضر ورباط الروح الوطنية بين أفراد الأمة. حتى قال بعضهم:
" إن امة خالية من الملاحم هي امة بلا روح ولا مثل عليا ولا تاريخ" .
فهي سجل لعقائد الأمة ونزعاتها وأخلاقها وهي روح الشعب وفكر الأمة. وهي ذات نزعة إنسانية لأنها تغن بالشرف والجلال والتفوق في عالم الحرية والإباء والتعالي. 
الشعر الملحمي:
وسر تسمية الشعر الملحمي بهذه التسمية: أنه يدور غالبًا حول معارك حربية، وهو ذلك الشعر الذي لا يعبر عن ذات صاحبه، ولكنه يدور حول أحداث أو بطولات وأبطال في فترة محددة من تاريخ الأمة.
كما يمزج الحقائق التاريخية بروح الأسطورة والخيال، وتتوارى ذات الشعر في هذا المقام حين يتناول مادته تناولًا موضوعيًّا وليس وجدانيًّا، وهو يصور حياة الجماعة بانفعالاتها وعواطفها، بعيدًا عن عواطفه وانفعالاته، ولا تظهر شخصيته إلا في أضيق الحدود كما تعنيه عواطف الأبطال وانفعالاتهم أكثر من عواطفه وانفعالاته الخاصة.
وتطول قصائد هذا اللون من الشعر؛ حتى تصل آلاف الأبيات، ولكنها على طولها لا بد لها من وحدة، هي حدثها الرئيسي، وشخصيتها الرئيسية التي تمضي بالأحداث إلى نهايتها، ثم تتفرع أحداث ثانوية وشخصيات مساعدة.
ومن أقدم ما عرفه تاريخ الأدب العالمي من هذا الجنس الشعري "ملحمة "الإلياذة" و"الأوديسا" لشاعر اليونان "هومر".
وموضوع "الإلياذة": تلك الحرب القاسية بين اليونان ومملكة طروادة.
وأما "الأوديسا": فتصور عودةَ اليونانيين إلى بلادهم عقب المعركة.
والملحمتان تحكيان ألوانًا من المشاعر المتباينة من الغدر والوفاء والحب والبغض، كما تصور أحداثًا دامية عنيفة، وتحكي أسطورة فتح طروادة بهيكل الجواد الخشبي، وتحكي عن شخصيات الأمراء والقواد مثل: أخيل وأجمنون وأجاكس وهيكتور وغيرهم، وبلغت "الإلياذة" ستة عشر ألف بيت من الشعر على وزن واحد.
وقد عرف الرومان الملاحم على يد شاعرهم جرجيل حين كتب "الإنيادة" مستلهمًا ملحمة "هوميروس" وموضوعها مغامرات البطل "إنياس".
وكذلك عرفت الأمم الأوربية عددًا من مطولات الشعر القصصي، جعلته سجلًّا لأحداثها ومواقفَ أبطالها، فأنشودة رونان عند الفرنسيين تصوير لعودة الملك "شارلمان" منهزمًا في إحدى غزواته، ولكنه بالرغم من هزيمته كان مثالًا للبطولة والنبل.
كما عرف الفرس ملحمة "الشاهنامه"، التي تحكي أحداث مملكة الفرس.
وكذلك كتب الهنود ملحمة "المهابهاراتا" في مائة ألف بيت، حول صراع أبناء أسرة واحدة على المُلك، مما أدى إلى فنائهم جميعًا.
وقد قل شأن هذا اللون من الشعر في العصر الحديث؛ إذ لم يعد الإنسان تطربه خوارق الأساطير الممعنة بالخيال، بقدر اهتمامه بأحداث الحاضر المعبر عن واقعه وهمومه، وآماله وآلامه، وقد بدأ الشعر الملحمي الغربي بـ"الإلياذة" و"الأوديسا"، ويعتقد الباحثون أن هذين العملين قد كتبهما "هوميروس"، وهو شاعر يوناني أعمى عاش في القرن السابع قبل الميلاد، وبنا جزء من كل منهما على التاريخ، والجزء الآخر على الأسطورة المتصلة بحرب طروادة.
ووضع النقاد الأدب من الإغريق والرومان قواعد للملاحم الشعرية، مبنية على أسلوب "هوميروس" وأسلوب "فرجيل" أهم تابعيه، وقد نصت هذه القواعد على وجوب بدء الملحمة في منتصف الأحداث، أي: أن تبدأ القصة بعد أن يكون جزء كبير من أحداثها قد وقع، وكان على الشعراء أيضًا أن يكتبوا بأسلوب رفيع، وأن يبدأوا بالابتهال إلى آلهة الإلهام، يطلبون منها الوحي الشعري.
ومع مرور الزمن أُهمِلت قواعد الملاحم الشعرية اليونانية والرومانية، وقام الشعراء خلال العصور الوسطى بكتابة الملاحم الشعرية بأسلوب طبيعي، ومن الملاحم المهمة في العصور الوسطى "الملحمة الإنجليزية" "بيولف" في القرن الثامن الميلادي، والفرنسية "أغنية رولان" في القرن الثاني عشر الميلادي، والأسبانية "قصيدة السِّيد" حوالي عام ألف ومائة وأربعين للميلاد، وفي القرن السابع عشر قام الشاعر الإنجليزي "جون ملتون" بتقليد "هومر" و"فرجيل" في ملحمته الشعرية "الفردوس المفقود"، ومع بداية القرن الثامن عشر أسهم رواج الأدب النثري الواقعي، وخصوصًا الروايات في تراجع الشعر الملحمي.
الشعر الملحمي في الأدب العربي:
الشّعر العربي في معظمه شعرٌ وجدانيٌّ بالدرجة الأولى، فمنذ العصر الجاهلي والشعراء العرب يتناولون أغراضًا شعرية ذاتية في الغالب إلى يومنا هذا، كالفخر والحماسة، والمدح والهجاء والغزل والعتاب، بالإضافة إلى تصوير المجتمع وأحواله من خلال الشّعر السّياسي والشعر الثوري التحرّيري، والشّعر الوطني والاجتماعي، ونحو ذلك، وقلما نجد شاعرًا تناول أغراضًا في الشّعر الموضوعي وخاصة الشّعر المسرحي والملحمي، ذلك أنّ العرب لم يعرفوا هذه الأغراض منذ القدم.فالعرب لم يعرفوا فن المسرح بالرغم من وجود المسارح قبل البعثة الإسلامية في كثير من أصقاع العالم، فالمسرح الروماني نجده في كل مكان من العالم العربي والإسلامي، ورغم ذلك لم يتأثر الشّعراء والكتاب والأدباء بذلك، ولم يؤلفوا ويبدعوا في فن المسرح، بل ابتعدوا عنه كثيرا شأنهم في ذلك شأن فن الملاحم، فلا نجد في الشعر العربي منذ القديم ما يدلّ على أنّ العرب حاولوا الاقتراب من هذا الفن أو ذلك لاعتبارات عقائدية بالدرجة الأولى !!.
فالشّعر الملحمي و المسرحي خاصة فنٌ ترعرع ونما وتطوّر وازدهر لدى كبار شعراء اليونان منذ القديم من أمثال : "إسخيلس"و"سُوفوكْليس" و"يُوريديس" وغيرهم كثير، وعنهم أخذ من جاء بعدهم من الغرب والعرب على حدّ سواء، غير أنّ الغربيين سبقوا العرب في ذلك بقرون طويلة، لأنّهم لم يجدوا ما يتعارض مع عقيدتهم لما تحتوي عليه تلك الفنون الموضوعية من أساطير وخوارق، وآلهة وأنصاف الآلهة ونحو ذلك.
والعرب في العصر العبّاسي، عصر التأليف والإبداع، بالإضافة إلى الترجمة، لم ينقلوا شيئا من آداب اليونان كالملحمة والمسرح، لأنها ـ حسب تقديرهم ـ ذات طابع وثني، فهي تتعارض مع العقيدة الإسلاميّة، ما عدا كتابي: فن الخطابة والشعر للفيلسوف اليوناني أرسطو. فالملحمة والمسرح عند اليونان يسردان أحداثَ الأمّة، ويشترك فيها الآلهة، وأنصاف الآلهة ونحو ذلك من مخلوقات غريبة تتحول من إنسان إلى حيوان. والشّعر الملحمي الذي عرفه اليونان منذ القديم كالمسرح، فقد عرفه شعراء اليونان، وخاصة عند الشاعر"هوميروس" في ملحمتيه المشهورتين :" الإلياذة "و" الأوديسا ".
فالشّعر الملحمي كشعر المسرح من الفنون الشعرية المستحدثة في الأدب العربي الحديث. ومن شعراء العرب الذين أبدعوا وألفوا في هذا الشأن نذكر على سبيل المثال: شفيق معلوف في ملحمته "عبقر" ومحمد محمد توفيق في ملحمته "المعلقة الإسلاميّة"، وجميل صدقي الزهاوي في ملحمته "ثورة في الجحيم"، وفوزي المعلوف في ملحمته "بساط الريح"، وشاعر الثورة الجزائريّة مفدي زكرياء في ملحمته "إلياذة الجزائر"، تناول فيها تاريخ الجزائر عن طريق ذكر أمجادها من قبل الفتح الإسلامي إلى استقــلال الجزائــر .
في العصر الحديث. وشعر الملاحم عرفه الغرب منذ زمن طويل من خلال الأدب اليوناني القديم، فكان مرجعًا أساسيًا لهم في جميع مجالات الإبداع ، والمعرفة ، والفلسفة والمنطق، والمذاهب ، والمدارس ، والنظريات، فألفوا وأبدعوا في هذا اللون الأدبي أو ذاك وخاصة في فن المسرح والملحمة شأنهم في ذلك شأن الفرس قبل البعثة، فقد شاركوا مشاركة فعّالة في هذا اللون الأدبي المتمثل في فن الملاحم، وهذا ما يتجلى خاصة في ملحمتهم المشهورة "الشاهِنامة" للفردوسي، أمّا العرب فلم يكن لهم حظ في هذا اللون الأدبي أو ذاك، ولم يعرفوا فن المسرح والملحمة إلا في العصر الحديث.
فالشّعر الملحمي يتناول عادة ًبطولات أمّة من الأمم، فيروي أخبار شعب من الشّعوب عبر تاريخه الطويل، فيصف ويصوّر الأحداث التي حلت بها، أو المعارك التي شهدتها، ويتحدث الشّاعر ويروي عن خوارق هذه الأمّة ومعجزاتها. فهو يعنى بسرد الأحداث والبطولات لهذه الأمّة أو تلك، حيث يسجّل الوقائع التاريخيّة التي مرّت بها، والخوارق المحتملة أو الخياليّة.
خصائص الشعر الملحمي:
قبل أن نتطرق للخصائص يجدر بنا أن نميز بين نوعين من الملاحم 
1- الملاحم اليونانية والغربية القديمة. 2- الملاحم العربية المستحدثة. 
الملاحم اليونانية والغربية القديمة تمتزج فيها الأسطورة مع الحقيقة ويقوم بصناعة أحداثها أبطال خرافيون يتصفون بقدرات لا يتوفر عليها البشر وبأمزجة بدائية سريعة التحول والتلون. 
أما الملاحم العربية المستحدثة تتناول صفحات من تاريخ الأمة العربية الإسلامية أو جانب من حياة شعوبها. فهي متقيدة بالأحداث التاريخية. وشخصياتها حقيقية صنعت فعلا هذه الأحداث. فمفدي زكرياء لم يتناول في إلياذته سوى حقائق تاريخية معروفة ليس فيها خوارق ولا مخلوقات خرافية. 
إذا كان الجانب الموضوعي هو الغالب على الملاحم اليونانية إذ لا نكاد نحس بشخصية الشاعر فيها. فنحن عندما نقرا الملاحم العربية نحس بذاتية الشاعر فهو الذي يتحدث إلينا ويعبر عن أحاسيسه ومشاعره وآرائه. يقول مفدي:
ويأبى الحديد استماع الحديث....... إذا لم يكن من روائع شعري 
كيف يتم بناء الملحمة ؟...
يتم بناء الملحمة كما يتم بناء القصة من سياق مترابط الأجزاء وهو ما يسمى بالوحدة التاليفية محورها حادث هام يدور في فلكه الأبطال تتخللها بعض المواقف الغنائية التي تعد محطات للاستراحة من تتبع سرد الأعمال والبطولات.’لاسيما أن الشعوب البدائية ميالة إلى استماع الحديث الطويل ومزج الفنون بعضها ببعض وهكذا تسير الملحمة بسردها القصصي بهدف واحد تتعدد فيه المفاجآت . كما تبدوا الملحمة بحرا واسعا تتدافع فيه الأمواج إلى حد تكاد تتكافأ فيه القوى المتصادمة فتتأزم الأمور وتتعقد ثم تنفرج بحادث مفاجئ يقود إلى الحل فيكون الختام. 
أنواع الملاحم:
الملحمة نوعان:1 طبيعية 2 مصطنعة. 
- الطبيــــــعية *
تنشا في مخيلة شعب بدائي فردد ت أحداثها الالسنة وتغنت بها القلوب ثم جاءت عبقرية الشاعر فجمعت الأحداث وربطت الأناشيد وأخرجت بذلك أثرا فنيا ضخما كما هو الحال في إلياذة هوميروس واديسته. 
- المصطنعة *
أما الملحمة المصطنعة أو العلمية فهي من فيض قريحة شاعر نشا في عصر تقدم وتفكير وحضارة فتناول موضوعا تاريخيا وأرسل فيه خياله مضخما فاخرج منه قصة شعرية طويلة حافلة بالخوارق وعظيم الأعمال. وهكذا فالملحمة الطبيعية مثل الملحمة المصطنعة موضوعا وبناء وعبارة وان اختلفت عنها في العهد التاريخي لظهورها وناحية طريقة ظهورها. من الملاحم المصطنعة انياذة فرجيل أو فرجيليوس الشاعر اللاتيني و فولتير الفرنسي.
اختلاف الملحمة الحديثة عن القديمة:
تختلف ملاحمنا العربية عن الملاحم الكلاسيكية القديمة في ما يلي:
1- الملاحم القديمة قصصية وملاحمنا يعوزها الجانب القصصي.
2- ملاحمهم طويلة جدا وملاحمنا قصيرة.
-3 ملاحمهم شعر موضوعي وملاحمنا تظهر فيها ذاتية الشاعر.
تعتمد ملاحمهم على الأساطير والخرافات وتعدد الآلهة والكائنات العجيبة.تعتمد ملاحمنا على الحقائق التاريخية الكبيرة.
ملاحم العصر الحديث:
في العصر الحديث فقد ظهرت بعض الأعمال الشعرية العربية التي أطلق عليها: "ملاحم"؛ لأن فيها بعضَ السمات التي تصلها على نحو ما بذلك الجنس الأدبي: فهي أعمال قصصية طويلة يقع بعضها في عدة آلاف من الأبيات كـ"ملحمة الغدير" لبولس سلامة اللبناني الذي لم تمنعه نصرانيته من الإعجاب ببطولة ختن الرسول الكريم -صلوات الله عليه- والعكوف على سيرته وشخصيته يدرسهما ويستوحيهما حتى أخرج لنا في نهاية الأمر عملًا ملحميًّا يصور بطولاته -صلوات الله عليه- وإنجازاته الخارقة، على حين يكتفي البعض الآخر بعدة مئات من الأبيات كما هو الحال في "ترجمة شيطان"، التي صور بها العقاد ما حاق بنفسه عقب الحرب العالمية الأولى من شكوك في قدرة البشرية على مصارعة عوامل الشر والتغلب عليها، ويأس من انتصار الخير في دنيانا هذه بسبب الأهوال وألوان الدمار والتقتيل التي أنزلتها تلك الحرب بجنس الإنسان.
الأولى تتناول سيرة بطل عربي مسلم مشهور بالشجاعة غير الاعتيادية، وله إنجازاته الحربية التي أسهمت في تغيير مجرى التاريخ، وهو الصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أما الثانية فتحكي قصة الشيطان في تمرده المستمر على رب العباد، وعمله على بث الغواية في كل مكان رغم معرفته بما ينتظره من عقاب رهيب في نهاية المطاف. فهي إذن تدور حول قضية فلسفية ودينية خطيرة، هي قضية الخير والشر والصراع بينهما ووقوع الإنسان بين شقي الرحى. 
وقد أثارت قصيدة العقاد إعجابَ ناقدٍ كالدكتور زكي نجيب محمود إلى أبعد مدى، حتى إنه ترجمها إلى الإنجليزية ترجمةً مرموقةً في تقدير مَن اطلعوا عليها. كما لفت النظر إلى أن العقاد بقصيدته هذه قد فتح في الشعر العربي فتحًا سبق به قصيدة الأرض الخراب لإليوت تلك القصيدة التي كان لوقعها من الدوي ما جعلها معلمًا من معالم القرن العشرين الأدبية. 
وكما يرى القارئ فإن في هاتين الملحمتين العنصرَ الخارق.
وهناك أيضًا "ملحمة عبقر" لشفيق المعلوف، و"محمد" لعلي شلق، و"الإلياذة الإسلامية" لأحمد محرم الذي جاء عمله أقرب إلى السرد التاريخي منه إلى الملحمة، رغم أن الأسلوب الذي كتب به ذلك العمل أسلوب شعري، إذ ينقص تلك الإلياذة الوحدة العضوية التي يتطلبها البناء القصصي. 
ولا مانعَ أن تعد تلك الأعمال الحديثة بوجه عام من الملاحم، ولا ريبَ أن من الصعب استمرار ملامح جنس أدبي ما دون تغيير أو تعديل أو تطور طوال كل هاتيك القرون الشاسعة. وهناك مقال لماتيا كافانيا Mattia cavagna يتناول بعض الأعمال الأدبية الفرنسية المعاصرة، فيعدها من الملاحم رغم أنها لا تتوفر فيها كل العناصر الملحمية. ذلك أن هذه الأعمال قد ساهمت في إحداث ذلك التغيير الذي كان من جرائه، أن أصبحت الملاحم تكتب نثرًا بعد أن كانت على الدوام تصب في قالب الشعر، علاوةً على غلبة الطابع العاطفي عليها. 
وقد كانت ترجمة سليمان البستاني الشعرية لـ"إلياذة هوميروس" إلى لسان العرب ونشره إياها في أول القرن العشرين، خيرَ دافعٍ لشعرائنا المحدثين إلى دخول هذا الميدان الذي كان الشعر العربي يخلو منه قبلًا. وكان د. يعقوب صروف قد شجع البستاني على ترجمة الإلياذة" أثناء زيارة الأخيرة لمجلة "المقتطف" بالقاهرة سنة 1887م، وكان البستاني من جانبه مشغوفًا بالشعر القصصي هائمًا بأساطيره وخرافاته، وكان ينظم المقطوعات الشعرية، فاختمرت الفكرة من يومها في ذهنه، وأخذ يطلع على ترجمة "الإلياذة" باللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، فضلًا عن قيامه بتعلم اليونانية، التي كتب ذلك العمل بها، ثم قام بتعريبها شعرًا مع آلاف الهوامش التي يشرح فيها كل ما يحتاج إلى توضيح. وصدرت الترجمة بالقاهرة سنة 1904م، فأقام له المفكرون والأدباء في مصر حفلةً تكريميةً بفندق "شبرد" ذلك العام. 
ولم يكتفِ البستاني بترجمة "الإلياذة" وشرح ما يحتاج فيها إلى شرح، بل زاد فوضع معجمًا ملحقًا بها، كما كتب مقدمة مطولة عرف فيها بفن الملاحم، وقام ببعض المقارنات بين الشعر العربي وأشعار الأمم الغربية، وغير ذلك من الموضوعات الشديدة الأهمية. وهذه المقدمة هي في واقع الأمر بمثابة كتاب قائم بذاته. ومع هذا كله لا ينبغي أن يفوتنا النص على أن ترجمة البستاني لملحمة "نوميروس" قد غلب فيها النظم على النفس الشعري. 
ويجدر بنا في هذا السياق أيضًا أن نبرز الدور الذي نهض به محب الدين الخطيب صاحب مجلة "الفتح" القاهرية في حث الشعراء المسلمين على أن يجتهدوا في إبداع ماسماه: "إلياذة إسلامية"، إذ بعث إلى الشاعر أحمد محرم برسالة في 5/3/1353هـ يقول فيها: "سيدي الأستاذ الجليل مفخرة البيان العربي، شاعر مصر الكبير، الأستاذ أحمد محرم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فكنت هممت أكثر من مرة أن أكتب إليكم أقترح عليكم مشروعًا، كنا نحاول إقناع شوقي بك -رحمه الله- به، ولكن خشيت أن يصرفكم ذلك عن معاني الجهاد الأخرى. 
وهذا المشروع هو إرسال نظركم الكريم بين حين وآخر إلى مفاخر التاريخ الإسلامي الخلقية والعمرانية والسياسية والإصلاحية والحربية... إلخ، ونَظْم كل مفخرة منها في قطعة خالدة تنقش في أفئدة الشباب، فإذا زخر أدبنا بكثير من هذه القطع على اختلاف أوزانها وقوافيها، أمكن بعد ذلك ترتيبها بحسب تاريخ الوقائع وتأليف إلياذة إسلامية من مجموعها. 
أليس من العار أن يكون للفرس الذين حفل تاريخهم زمن جاهليتهم بالشنائع ديوان مفاخر يغطي فيه البيان على العيوب -يشير إلى "شاه نامة" الفردوسي- وأن يكون اليونان زمن وثنيتهم وأوهامهم الصبيانية ديوانَ مفاخرَ كـ"الإلياذة" تغني بها الإنسانية إلى يوم الناس هذا؟".
وكان هذا الخطاب هو الشرارة التي أججت شُعلةَ التحمس في نفس الشاعر أحمد محرم، فكان أن نظم "الإلياذة الإسلامية"، التي عرض فيها خلاصة التاريخ الإسلامي في قالب شعري قوي التعبير؛ كي يلفت شباب الإسلام إلى مفاخر تاريخهم، ويدفع عنهم الشعور بالضالة تجاه آداب الأمم الأخرى وما تشتمل عليه من ملاحم. 
وكان محب الدين الخطيب قد ذهب قبل هذا إلى أحمد شوقي، عارضًا عليه فكرة نظم ملحمة إسلامية، إلا أن شوقي صمت ولم يعلن قبوله أو رفضه، فقصد عندئذٍ أحمد محرم، وأعاد عرض الاقتراح، فقبله على الفور، وبدأ في نظم "الإلياذة الإسلامية" أو "مجد الإسلام"، ناشرًا إياها على أجزاء في مجلة "الفتح"؛ ليكون بذلك أول مَن راد هذا الطريق وعبَّدَه لغيره من الشعراء العرب المحدثين رغم ما تفتقر إليه إلياذته من الوحدة العضوية القصصية. 
ثم فاجأ شوقي الناس بعد ظهور إلياذة محرم بنشر مطولته "دول العرب وعظماء الإسلام"، التي يرصد فيها تاريخ الإسلام منذ فجر الدعوة حتى أيامه. 
فكما نرى: كان الشعور بأن أدبنا ينقصه هذا الفن هو السبب الرئيسُ في التحمس لإدخاله عندنا؛ كيلا يكون أدبنا أقلَّ من الآداب الأخرى. ومن ناحية ثانية فإن هذا الأمر دليلٌ على ما يمكن أن يؤدي إليه التفاعل بين الآداب وتعاونها فيما بينها واستعارة بعضها من بعض من نتائج طيبة
الخاتمة:
إن الملحمة من فنون الشعر التي تتعرض للانقراض فقد اختفت نهائيا من الأدب الغربي لأسباب موضوعية أهمها انتهاء الحروب بين الدول الغربية واتجاهها إلى التعاون الاقتصادي أما في الأدب العربي فقد انصرف الشعراء المعاصرون عنها بسبب ما لحق القصيدة الحديثة من تغيرات جوهرية.
شكرا لكم على حسن الاستماع والإنصات.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق