السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2021-12-23

أحكام العشرة بين الزوجين



 كم يحز في نفس المسلم أن تتأزم الخلافات الأسرية عند أتفه الأمور! ولذا نوجه هذا النداء الصادق إلى الرجال عامة، والشباب منهم خاصة الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين إلى الذين.. كم يحز في نفس المسلم أن تتأزم الخلافات الأسرية عند أتفه الأمور! ولذا نوجه هذا النداء الصادق إلى الرجال عامة، والشباب منهم خاصة الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين إلى الذين { ... لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37 - 38].

   إلى الذين يشعرون بأن أعراضهم تيجان على رؤسهم يجب المحافظة عليها وفداؤها بالروح؛ لتبقى صافية نقية، بعيدة عن عبث العابثين، وتلاعب المراهقين، وقد شرع الله النكاح؛ لبقاء البشرية وبثها في الأرض؛ لتحقيق عمارتها، فانتشرت به البشرية، وشيدت الحضارات والمدنيات، فليس الزواج في حكم الله - تعالى - مجرد لقاء للذكر بالأنثى ومعاشرتها فحسب، بل شرع الله الزواج لحِكَم عظيمة تشمل صلاح الفرد والمجتمع، وهذه المصالح والحِكَم إنما تتحقق إذا وجد الانسجام بين الزوجين، وسار كل منهما مع شريكه مُراعيًا حدود الله، فيُعطي كل زوج ما عليه من الحقوق، ويطلب مثله من الآخر بأدب الزوج المسلم، وفي إطار من الوداد والشفقة واللطف والمحبة.   {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:228].  

 فالرابطة الزوجية متصلة بالعروة الوثقى، لا تنفصم ولا تضعف ما دامت مستظلة بفيء التوجيه الإلهي، وما دام كل واحد من الزوجين يؤدي ما عليه، فستكون هذه العلاقة أوثق العُرى وأقواها، وذلك هو سبيل السعادة الزوجية، وهي مطمح الأزواج في العالم أجمع.   عباد الله: ولكن الأمور قد لا تجري على هوى الإنسان ورغبته، وقلَّما يتفق الزوجان ويتطابقان من جميع الوجوه، فما من بشر يوافق هوى الآخر في كل صغيرة في الخُلق والخِلْقة، وفي دقائق التفكير والسلوك، وخبايا الروح والعاطفة، وليس ذلك التفاوت بضار إذا ما تعاشر الزوجان بالمعروف، وطرحا الهوى جانبًا وأكرم كل واحد منهما صاحبه، وحَكَّما العقل وتركا نزعات النفس والهوى والشيطان وجليس السوء.  

 إنما الذي يهدد الرابطة الزوجية تتبع كل واحد للهفوات من الآخر، يستشفها من وراء الحجب أو يستنبطها من فلتات اللسان، فيغريهما ذلك بالتنازع، وكثيرًا ما يفضي إلى التقاطع والتدابر. 

  وقد عالج الإسلام ذريعة إفساد الزوجية هذه فوجه الأزواج إلى توسيع مداركهم والتمسُّك بعناصر الخير في زوجاتهم، فكثيرًا ما تسيطر الكراهة على زوج لخُلِّة في زوجته لا تعجبه، من حيث شكلها الجسمي أو عملها البيتي مثلاً، وينسى الخير الكثير فيها ويُحرم الفضل الذي تنطوي عليه، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. 

  و صدق الحبيب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا، رضي منها آخر» (رواه مسلم).   وكم شاهدنا وعايشنا أزواجًا مَلُّوا زوجاتهم وكرهوهن في البداية، فلما رزقهما الله الذرية ووقفوا على أخلاق الزوجات، استقامت أحوالهم وعاشوا في سعادة كبيرة، لكن متى استحكمت الأمور وساءت العِشرة، واتسعت دائرة الخلاف، وجب الإنصاف والعدل.   وهنا نوصي أحبابنا الرجال، فنقول: على كل رجل أن يتدبر أمره، ويتروَّى كثيرًا قبل أن يخضع لعوامل الكراهية، وليتذكر وصية القرآن وإشادة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليخشى الله في معاملة زوجته، فهل درى أنه لا يخلو هو من عيب تصبر عليه امرأته وتتحمله؟ وما أكثر ما تتحمل النساء وتصبر؛ لأنهن بنات الرجال الكرام، ربَّوهُنَّ على الحشمة والفضيلة وطاعة الزوج والصبر عليه.  

 أيها المؤمنون والمؤمنات: وبلدنا هذا - ولله الحمد - من خِيرة المناطق التي تتمتع فيه المرأة والفتاة بالأخلاق العالية والتربية الإيمانية الصادقة، ولهذا قَلَّ أن تتزوج فتاة من هذا البلد شابًّا من غيره، إلا وتكون حديث المجالس بالطاعة والأخلاق، وعمل البيت وصلة الأقارب، وإكرام أهل الزوج، وهذا من باب التحدُّث بنعمة الله، ومن باب تذكير الأزواج بأهمية الرابطة الوثيقة التي سمَّاها الله في محكم التنزيل ميثاقًا غليظًا، وحسبنا أن نعلم أن الله أنزل سورة كاملة فسر فيها أحكام الزواج والعشرة بين الزوجين، وسُمِّيت سورة النساء.  

 ألا فليتقِ الله الأزواج رجالاً ونساءً، وليصونوا علاقتهم ببعضهم عن المهاترات والخلافات، إن كانوا يريدون سعادتهم في دنياهم ورضوان ربهم في آخرهم.   

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].  

 أما بعد: إخوة الإيمان، استمعوا إلى هذه الوصايا من سلف الأمة؛ ففيها توجيه وذكرى؛ قال عبدالله بن جعفر لابنته: "يا بنيَّة، إياكِ والغيرة؛ فإنها مفتاح الطلاق، وإياكِ والمعاتبة؛ فإنها تورث الضغينة، وعليكِ بالزينة والطِّيبِ". 

  وقيل: "وإياكِ وكثرة المعاتبة؛ فهي مقطعة للمودة، وإيَّاكِ والغيرة في غير موضعها؛ فهي مفتاح الطلاق".  

 وقال عمر لرجل همَّ بطلاق امرأته، وزعم أنه لا يحبها: "أو كلُّ البيوت بُني على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم؟". 

  وقال المغيرة بن شعبة: "النساء أربع، والرجال أربع؛ رجل مذكر، وامرأة مؤنثة، فهو قوَّام عليها، ورجل مؤنَّث وامرأة مذكرة، فهي قوَّامة عليه، ورجل مذكر وامرأته مذكرة، فهما كالوعْلَين ينطحان، ورجل مؤنث وامرأة مؤنثة، فهما لا يأتيان بخير ولا يَغْلَمَان".  

 إخواني، لو بحثنا عن أسباب الطلاق في مجتمعنا الصغير، لوجدناها في الأعم الأغلب أسبابًا تافهة لا تستحق أن تهدم كيان الأسرة وتمزق شملها، ولكن غيبة العقل وبعد المصلحين وتدخُّل الحَمْقَى والجهلاء - يؤزِّم الأمور، ويوسِّع دائرة الخلاف؛ مما يجعل لَمَّ الشمل صعبًا.   

ولقد تأملت في حال بلدنا هذا، وبعد تدخلي في بعض المشكلات لمعالجتها، ونظرًا لأسباب تبين لي ما يأتي: 

1- أن ظاهرة الطلاق عند الشباب أكثر منها عند غيرهم.   

2- أن الطلاق في الشهور الأولى من الزواج أكثر منه بعد الإنجاب.  

 3- أن الطلاق بعد الإنجاب يكون بسبب الزواج على المرأة أو مرضها، أو تمرُّدها على زوجها أو تدخل أحد في حياة الزوجين.   4- أن السكوت على المشكلات في بدايتها يجعلها تكبر وتتأزم، ولو أن الزوجين عالجا المشكلات أولاً بأول أو أدخلا معهما من أهل الرأي والعقل والعلم مَن يحسن إليهما بإصلاحهما، لكان أولى وأجدر بحسم هذه المشكلات.  

 5- تدخُّل الأم والأب في حياة الزوجين؛ فكثيرًا من البيوت يكون هدمها بسبب تدخل الأبوين في بعض القضايا الخاصة بين الزوجين، ولقد تدخلتُ في مشكلة بين زوجين تأزمت، ولما قابلت الزوجين وتحدثت معهما مباشرة وعن طريق الهاتف، تبيَّن لي أن أم المرأة تضغط عليها وتلح بألا تسافر مع زوجها، وحين سألت الفتاة: هل ترغبين السفر؟ قالت: أرغب أن أكون مع زوجي في البر والبحر، لكني لا أستطيع أن أعصي أمي؛ فهي التي تأمرني ألا أسافر معه، ثم توجَّهت إلى الأم وخوَّفتها ووعظتها، وذكرت لها أن صنيعها قد يفرق بين ابنتها وزوجها، وبيَّنت لها حكم ذلك وخطورته، فندمت ورجعت وطلبت من بنتها السفر مع زوجها.   6- حديث الزوج عن زوجته والعكس، فكثير من الأزواج والزوجات لا يتورَّع بذكر المثالب في الآخر كل مجلس، وأحيانًا ينقل الكلام إلى الطرف الآخر، ويكثر الخلاف ويتسع، فيكون سبب للفراق.  

 7- كثير من حالات الطلاق عند الشباب التي وقفت عليها يشيرون إلى أنهم كانوا يظنون أن البنت كذا وكذا، فلما دخلوا عليها وجدوها خلاف ما يتوقعون، وهنا أهمس في أذن الآباء والشباب، وأقول: إن هدي الإسلام أكمل الهدي، فاحرصوا على نظر الخاطب لمخطوبته بأي طريق؛ ليكون الزوجان على بيِّنة، فو الله إن نظره إليها وعدم الرغبة فيها أفضل مئات المرات من دخوله عليها ثم طلاقها، وما علينا إلا أن نفكرَ قليلاً في مصلحة الزوجين ويتبيَّن لنا الأمر.   8- معظم حالات الطلاق تأتي من إجبار الشاب على فتاة لا يرغبها، أو إجبار البنت على شاب لا ترغبه، وكأن الرغبة والزواج للأب أو الأم، وإذا ناقشت بعض الآباء، قال: الحب والمودة تأتي بعد الزواج، وهنا الضحية الشاب والفتاة، فلْنَتَّقي الله في الأمانة، ولْنَكُن عند المسؤولين، والأب المتصرف يختار الشاب المناسب الذي ترضاه ابنته، فيحقق لها السعادة في الدنيا، وينعم الأجر في الآخرة.   9- بعض الشباب قبل الزواج يرتسم في ذهنه صورة مثالية للزوجة، من حيث الشكل واللونُ والجسم، والخدمة والتعامل والعلاقة، بل والصوت والنظرة والحركة، إلى غير ذلك ثم إذا دخل على زوجته، وجد خلاف ما رسم في ذهنه، ونسي أن هذا من باب المثالية الذي يعسر تحقيقه، بل وتناسى أن له أخوات وخالات وعمَّات، فهل هُنَّ بالصورة التي تخيَّلَها؟  

10- بعض الأصدقاء والصديقات بحُسن نيَّة يتحدثون في مجالسهم: هذه تتحدث عن زوجها طالب العلم، صاحب الأخلاق العالية، الذي يتعامل معها معاملة رائعة، ويوفيها ويربي أطفالها تربية جيدة، وهذه تتحدث عن زوجها صاحب التجارة، الذي يلبي طلبتها وينتقل بها هنا وهناك، وثالثة تتحدث عن زوجها صاحب الذوق الرفيع، يتبع كل جديد حتى في دقات الذهب، ورابعة عن زوجها الذي تأمره وتنهاه، وهكذا بالمقابل يتحدث الأزواج عن زوجاتهم، ويبالغون في وصفهِنَّ حتى فيما ليس لهنَّ من صفات، ولكن من باب إظهار الفضل، وتجد هذا المسكين، أو تلك المسكينة الذين لم يَفْهَما هذا اللغْزَ يحترقان؛ لأنه لا يجد زوجةً بهذه المواصفات، وهي لا تجد زوجًا بهذه المواصفات، فيبدأ الخلاف وتصدر الكلمات: لو أنك مثل فلان، أو لو أنكِ مثل فلانة. 

  11- بعض الشباب يصطدم بعقبات في الأيام الأولى من الزواج، فتكبُر وتتسع، وتؤدي إلى الفراق، ولو أن هذا الشاب وغيره استشار أهل الخبرة والتجربة، لوجد - بإذن الله - حلاًّ لمشكلته، وكم من البيوت التي استقام حالها بعد أن كادت تتفرق، لو لا لطف الله، ثم تدخُّل بعض أهل الخير للَمِّ الشمل وجمع الصف. 

  12- تدخُّل بعض أعداء الزوج والزوجة، ونسج شيء مكذوب؛ لإيغار الصدور، وبثِّ الخلاف، والإلحاح بطريق غير مباشر على الفرقة والطلاق، وكم وقع في شراك هؤلاء من شاب بريء، وفتاة عفيفة شريفة، والموعد يوم القصاص بين الخلائق يوم يختم على أفواه فتنطق الجوارح بما عملت. 

  13- كثيرًا ما كان الهاتف سببًا للفرقة، وذلك أن بعض ضعاف النفوس ممن لا يردعهم حياء ولا دين يتجرَّؤون على البيوت العفيفة، ويتعرضون للآمنين في غيبة من الرقيب، ونَسوا أن الله مطَّلِع عليهم، وأن لهم عورات، وأن القاعدة الأصيلة في الإسلام: "عِفُّوا، تعفّ نساؤكم"، فاحرصوا - بارك الله فيكم - على تجنب أسباب الطلاق؛ لعل الله - سبحانه وتعالى - أن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير مغاليق للشر.   هذا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ فقد أمركم الله بذلك في محكم التنزيل، فقال - جل من قائل عليمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].  



المرأة المسلمة وفن صناعة الرجال

 يُرجِع كثيرٌ من العلماء السببَ في تماسُك المجتمع الإسلامي، وانتصاره على الغزاة في مراحل الضعف التاريخي التي مر بها العالم الإسلامي - إلى المرأة المسلمة، وتمسُّكها بدينها وعقيدتها الإسلامية. 

يُرجِع كثيرٌ من العلماء السببَ في تماسُك المجتمع الإسلامي، وانتصاره على الغزاة في مراحل الضعف التاريخي التي مر بها العالم الإسلامي - إلى المرأة المسلمة، وتمسُّكها بدينها وعقيدتها الإسلامية. بل إن كثيرًا من كبار رجال الإسلام والحاملين دعوتَه إنما هم من غرس أمهاتهم. 

ولقد أدرك ذلك أعداءُ الإسلام؛ ومن ثَم فقد حرَصوا على تغيير توجُّهات المرأة المسلمة، وإفساد هُويتها الإسلامية. يذكر العلماء أن الاستعمار الفرنسي لما دخل الجزائر، وجد مقاومةً شديدة من الشعب الجزائري، ووقفوا في حيرة ماذا يفعلون؟ فهداهم تفكيرُهم إلى الاستعانة بأحد أساتذة الاجتماع في فرنسا، ويدعى روجيه مونييه، وطلبوا منه أن يجد لهم حلاًّ وطريقةً يتمُّ من خلالها القضاءُ على المقاومة الجزائرية، فغاب الرجل فترة متنقلاً بين شرائح المجتمع الجزائري، ثم قال لهم: المرأة الجزائرية، فقالوا له: سألناك عن طريقة تجدها للقضاء على المقاومة، ولم نسألك عن النساء، فقال لهم روجيه مونييه: المرأة الجزائرية هي السبب الرئيس في المقاومة التي تجدونها؛ فهي ترضع طفلها مع لبن ثديها حبَّ الإسلام، والتضحية من أجله، والجهاد في سبيل الله، فإذا أردتم أن تقضوا على هؤلاء الناس، فعليكم إفساد هذه الأم، اجعلوها تفكر في أشياء أخرى، اخلقوا التناقض بينها وبين الرجل.

 وهذا ما فعله أعداء الإسلام، ولعل ما نراه من ابتعاد أكثر شباب المسلمين عن التطلُّع إلى معالي الأمور، هو نتيجة انصراف الأم عن مهمتها الإسلامية في بيتها.

فأين المرأة المسلمة المعاصرة من أم سفيان الثوري التي تقول لابنها: يا بني، اطلب العلم، وأنا أعولك بمغزلي؟! أو أين هذه الأم المعاصرة التي ربما توجِّه أبناءها إلى اتخاذ طرق الشهرة الزائفة من غناء، وتمثيل، وغيره، من أم الإمام مالك التي يقول عنها الإمام مالك: "نشأتُ وأنا غلام فأعجبني الأخذ عن المغنين، فقالتْ أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدَعِ الغناء واطلب الفقه، فتركتُ المغنين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي ما ترى"؟! يا لها من أم فاضلة صرفتِ ابنَها بأسلوب مهذب من التوجُّه إلى سفاسف الأمور، وجعلته يتوجَّه إلى معاليها! ثم لا تدعه عند هذا الحد؛ بل تختار له المعلم، فتقول له: "اذهب إلى ربيعة بن أبي عبدالرحمن فتعلم من أدبه قبل علمه"، فكم من الأمهات تجد ولدَها يتَّجه إلى هذا المجالِ الفاسد، فتدَعه ولا تبالي بنصحه؛ بل ربما شجعتْه على سلوك هذا الطريق! إن كثيرًا من الأمهات المسلمات كنَّ بأخلاقهن الفاضلة بمثابة الموجِّه الأول لأبنائهن؛ كي يكون لهم بعد ذلك أعظم الدور في تاريخ الإسلام.

 وانظر إلى هذه الكلمات للشيخ بديع الزمان النورسي، الذي يوصف بأنه مجدد الإسلام في بلاد الأناضول في العصر الحديث، يقول بعد أن يذكر عن والدته أنها لم تكن ترضع أولادها إلا على وضوء، يقول "أقسم بالله إن أرسخ درس أخذتُه وكأنه يتجدد عليَّ، إنما هو تلقينات أمي - رحمها الله - ودروسها المعنوية، حتى استقرتْ في أعماق فطرتي، وأصبحتْ كالبذور في جسدي في غضون عمري الذي يناهز الثمانين، رغم أني قد أخذت دروسًا من ثمانين ألف شخص؛ بل أرى يقينًا أن سائر الدروس إنما تبنى على تلك البذور". 

وهذا أيضًا الشيخ سيد قطب - رحمه الله - يقول في رثاء والدته، وهو يصور أسلوبها في غرس التطلع إلى المعالي في نفسه منذ صغره، فيقول: "لقد كنتِ تصورينني لنفسي كأنما أنا نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبيًّا، وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة". 

وبالفعل آتى غرسُها ثمرته، وأصبح ابنها أحدَ أبرز رجال الإسلام ومفكِّريه في العصر الحديث، وأدَّى بكل صدق ما تمليه عليه تكاليفُ العظمة والرجولة التي غرستْها في نفسه أمُّه - رحمها الله - حتى قال قبل موته: "إن أصبع السبابة الذي يشهد بالوحدانية لله في الصلاة، لا يكتب كلمة اعتذار لطاغية". 

ومما لا شك فيه أن أمثال هذه الأمهات المعاصرات قد اقتدين بالخنساء، هذه الأم الفاضلة الشجاعة التي يروي المؤرخون عنها أنها: شهدت حرب القادسية بين المسلمين والفرس تحت راية سعد بن أبي وقاص، وكان معها بنوها الأربعة، فجلستْ إليهم في ليلة من الليالي الحاسمة تعظُهم وتحثُّهم على القتال والثبات، وكان من قولها لهم: أيْ بَنِيَّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنتُ أباكم، ولا فضحتُ خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيَّرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعدَّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله - تعالى – يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، فإذا أصبحتم غدًا - إن شاء الله - سالمين، فاغدوا إلى قتال في سبيل الله مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، فتيمَّموا وطيسَها، وجالِدوا رئيسَها، تظفروا بالغنم في دار الخلد، فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية، حتى استشهدوا واحدًا بعد واحد، وبلغ الأم نعي الأربعة في يوم واحد، فلم تلطم خدًّا، ولم تشق جيبًا، ولكنها استقبلت النبأ بإيمان الصابرين، وصبر المؤمنين، وقالت: "الحمد لله، الذي شرَّفني بقتْلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".

 فهذه هي المرأة المسلمة صانعة الأبطال، وهذه هي التي يرجى من ورائها الخيرُ للإسلام والمسلمين، وليس هؤلاء اللاتي يخرجن ليس لهن همٌّ إلا أن يكنَّ بضاعةً ينظر إليها في سوق الرجال.


 والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.



اللـغـة الخـالـدة

  تعد اللغة العربية من أغنى لغات العالم القديم بالمفردات والمترادفات، وقد انقرضت كلها، على وجه التقريب، ولم يعد منها إلا آثار تاريخية في النقوش والمخطوطات، وهي الكنعانية والفينيقية والعبرية، والآرامية، والنبطية، والبابلية، والكلدانية، والسريانية، والهيروغلوفية، والحبشية. 

تعد اللغة العربية من أغنى لغات العالم القديم بالمفردات والمترادفات، وقد انقرضت كلها، على وجه التقريب، ولم يعد منها إلا آثار تاريخية في النقوش والمخطوطات، وهي الكنعانية والفينيقية والعبرية، والآرامية، والنبطية، والبابلية، والكلدانية، والسريانية، والهيروغلوفية، والحبشية. 

ولا يدل على مرونة اللغة العربية، واتساعها وشموليتها كثرة مفرادتها؛ التي تعد بمئات الألوف فحسب، ولكن يدل على ذلك أيضًا كثرة الروافد، والطرائق التي تغذي اللغة العربية، وتسمح لها بالتوليد والإضافات، كالقياس، والاشتقاق، والنحت، والتعريب، وغيرها. 

وهذا يعني أنها لغة مفتوحة للتواصل الدائم على مدى العصور، وأن باب الاجتهاد فيها لم يغلق، ولن يغلق.

 وقد تحدث اللغويون عن خصائص اللغة العربية وتفردها في جوانب كثيرة، وتفوقها على كثير من اللغات الأخرى في هذه الجوانب، وذلك في دراسات مقارنة متعددة، مما لا يتسع له مقالنا هذا. ولكننا نجد من اللازم أن نتحدث في إيجاز عن مظهرين من مظاهر القدرة الذاتية في اللغة العربية وهما: 

1- دقة الفروق بين كثير من كلمات العربية مما يعتقد كثيرون أنها مترادفة، أي متساوية تمامًا في المعنى.

 2- الدقة في الاستيعاب، وتعريف المسمى بكل أنواعه التعريف الجامع المانع، الذي لا يترك زيادة لمستزيد، وفي السطور الآتية نلقي الضوء على هذين المظهرين اللذين يمثلان سمتين أساسيتين من سمات اللغة العربية. أولاً: دقة التفريق: ومن أشهر الكتب التي تناولت هذه الظاهرة: كتاب :"الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري،ونقدم في السطور التالية قطوفًا منه تبين عن هذه القدرة في اللغة العربية: 

الفرق بين الصفة والنعت: النعت: لما يتغير من الصفات. والصفة: لما يتغير، وما لا يتغير، فالصفة أعم من النعت. 

الفرق بين الحقيقة والحق: الحقيقة ما وضع من القول موضعه في أصل اللغة، حسنًا كان أو قبيحًا. والحق: ما وضع موضعه من الحكمة، فلا يكون إلا حسنًا. 

الفرق بين الإعادة والتكرار: التكرار: يقع على إعادة الشيء مرة، وعلى إعادته مرات. أما الإعادة: فهي للمرة الواحدة.

 4ـ الفرق بين الهجْو والذم: الذم: نقيض الحمد، وهما يدلان على الفعل، والهجو: نقيض المدح، وهما يدلان على الفعل والصفة كهجوك الإنسان بالبخل، وقبح الوجه. 

وفرق آخر: أن الذم يستعمل في الفعل والفاعل، فتقول: ذممته بفعله، وذممت فعله، والهجو يتناول الفاعل والموصوف دون الفعل والصفة، فتقول: هجوته بالبخل وقبح الوجه، ولا تقول هجوت قبحه وبخله. 

الفرق بين العلم والمعرفة: المعرفة أخص من العلم؛ لأنها علم بعين الشيء مفصلاً عما سواه، والعلم: يكون مجملاً ومفصلاً. 

الفرق بين القريحة والطبيعة: الطبيعة: ما طبع عليه الإنسان أي خلق، والقريحة فيما قال المبرد :ما خرج من الطبيعة من غير تكلف. 

الفرق بين الإهلاك والإعدام: الإهلاك: أعم من الإعدام؛ لأنه قد يكون بنقض البنية، وإبطال الحاسة، وما يجوز أن يصل معه اللذة والمنفعة، والإعدام: نقيض الإيجاد، فهو أخص، فكل إعدام إهلاك، وليس كل إهلاك إعدامًا. 

الفرق بين الجَعْل والعمل: العمل: هو إيجاد الأثر في الشيء، والجعل: تغيير صورته بإيجاد الأثر فيه.

 9ـ الفرق بين البعض والجزء: البعض ينقسم، والجزء لا ينقسم، والجزء يقتضي جمعا، والبعض يقتضي كلا.

 10ـ الفرق بين النصيب والحظ، النصيب يكون في المحبوب والمكروه، والحظ ما يكون في الخير. 

11ـ

الفرق بين الوَلاية (بفتح الواو) والنصرة (بضم النون): الولاية: النصرة لمحبة المنصور، لا للرياء والسمعة؛ لأنها تضاد العداوة، والنصرة: تكون على الوجهين. 

12ـ الفرق بين الإيجاب والإلزام: الإلزام: يكون في الحق والباطل، يقال: ألزمته الحق، وألزمته الباطل. والإيجاب لا يستعمل إلا فيما هو حق، فإن استعمل في غيره فهو مجاز، والمراد به الإلزام. 

13ـ الفرق بين الأبناء والذرية: الأبناء: يختص به أولاد الرجل، وأولاد بناته، والذرية تنتظم الأولاد، والذكور والإناث. 

ويرى بعض الباحثين أن أبا هلال العسكري قد أسرف في إبراز هذه الفروق، وحتى لو صحّ ذلك، فإن ما قدمه يبقى صحيحًا في غالبيته. ثانيًا: الدقة في الاستيعاب: فاللغة العربية وضعت للشيءالحسي بصفة خاصة التسمية الجامعة المانعة، بحيث لا يدخل معها غيرها، ونسوق هنا سطورًا من كتاب: "الفرق" لابن فارس اللغوي، وأغلبه في تحديد أسماء أعضاء الإنسان والحيوان، وما يتعلق بها: 

باب الشفة: الشفة من الإنسان، وهو من الإبل المشفر، ومن ذوات الحافر: الجحفلة، ، ومن الطائر غير الجارح: المنقار، ومن الجارح: المنسر، ومن الذباب: النقط.

 
باب الأصوات: صاح الإنسان، وصوت، وعزف الجني، وخارت البقرة، وبغم الظبي بغاما، وصهل الفرس، وحمحم عند الشعير، ونهق الحمار… إلخ. ويرى الأستاذ العقاد ـ رحمه الله ـ في كتابه: "اللغة الشاعرة" أن اللغة العربية فاقت غيرها من اللغات، بما اشتملت عليه من تحديد دقيق لكل ساعة من ساعات الليل، والنهار، والشهور، والفصول، والمواسم وغيرها.

 ولا مبالغة فيما ذكره العقاد؛ ففي “فقه اللغة” للثعالبي ، وهو يتحدث عن "أوائل الأشياء". الصبح أول النهار، الغسق: أول الليل، الوسمى: أول المطر، البارض: أول النبت، اللعاع: أول الزرع، اللباء: أول اللبن. السلاف: أول العصير، الباكورة: أولى الفاكهة، البكر: أول الولد، الطليعة: أول الجيش، النهل: أول الشرب، النشوة: أول السُّكر، الوخْط: أول الشيب. النعاس: أول النوم، الزُّلف: أول ساعات الليل. وفي ساعات النهار: الشروق، ثم البكور، ثم الغدوة، ثم الضحى، ثم الهاجرة، ثم الظهيرة، ثم الرواح، ثم العصر، ثم القصْر، ثم الأصيل، ثم العشى، ثم الغروب. وساعات الليل: الشفق، ثم الغَسَق، ثم العَتَمة، ثم السُّدْفة، ثم الجهمة، ثم الزُّلة، ثم الزلفة، ثم البُهْرة، ثم السَّحَر، ثم الفجر، ثم الصبح، ثم الصباح. 

وأغلب هذه الكلمات لا تدور حاليًا على أقلام الكتاب، وألسنة المتكلمين من الخطباء والمحاضرين، ولكن هذا لا يقلل من قيمتها، ولا ينال من دلالتها على مرونة اللغة العربية واتساعها وشموليتها، وقدرتها الذاتية؛ فقلة توظيف الكلمة لا يقلل من قيمتها، كما أن كثرة دورانها على الألسنة والأقلام لا يكسبها من القيمة ما لا تستحقه. وما ذكرناه من سمات تكاد العربية تنفرد بها وغيرها كثير، تقطع بأن العربية لغة غنية خالدة؛ لأنها مهما تكالب عليها من محن يبقى لها هذا الرصيد الضخم من القوة الذاتية التي تجعلها لغة قادرة البقاء في كل الظروف والأزمنة والأحوال.



كيف تكون مؤثرا إيجابيا في أسرتك ؟



 


 إن الإيجابية هي مطلب ومطمح كبير، فالكل يريدها والجميع يتطلبها، لأنها صفة الجادين، وسمة العاملين الفاعلين، إذ إن مخرجات الإيجابية متعدية للآخرين، وهي من أسباب كسب مودتهم وقربهم، ومن أسباب تحصيل الأجور العظيمة من خلال التعامل معهم، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد. 

إن الإيجابية هي مطلب ومطمح كبير، فالكل يريدها والجميع يتطلبها، لأنها صفة الجادين، وسمة العاملين الفاعلين، إذ إن مخرجات الإيجابية متعدية للآخرين، وهي من أسباب كسب مودتهم وقربهم، ومن أسباب تحصيل الأجور العظيمة من خلال التعامل معهم، وإن كان هذا مع جميع الناس إلا أنه مع الأقربين أشد حاجة وأدعى للقبول، وفيه تقريب للنفوس وتأليف للقلوب وتعزيز للعطاء واجتماع للكلمة والرأي.   

وحول هذا الموضوع "كيف تكون مؤثرًا إيجابيًا في أسرتك" سأطرحه من خلال هذه النقاط التالية:

 النقطة الأولى: التعرف على أهمية الموضوع، وأنه وقاية وعلاج وتحصيل للأجور وكسب للخير وشهادة لك بالإحسان، وأيضًا هو تعويد للنفس على العطاء ودربة لها على النماء ونقل الخير للغير، ودلالة على معالي الأمور، وهو بحد ذاته أيضًا نبذ للكسل والتكاسل وطرحٌ ومجانبة الأنانية، فحقًا إن هذا الموضوع غاية في الأهمية، فلو كان في كل أسرة فرد فعال لكان خيرًا عظيمًا، غير أننا نملك أكثر من ذلك بحمد الله تبارك وتعالى وفي أسرنا خير وبركة، لكنها تحتاج إلى نوع من التفعيل والتعزيز. 

  النقطة الثانية: لا بد من إحياء الهمة العالية في تحصيل هذا الموضوع، وهو التأثير الإيجابي بشتى السبل والأسباب واحتساب الأجر في ذلك لأنه باب عظيم من الصدقة الجارية، حيث إن أقاربك سيكتسبون عن طريقك أفعالًا وأفكارًا جميلة إيجابية قد ينفذها غيرك، لكنك أنت صاحب الفكرة، فكل فائدة يعرفها قريبك فهي إحسان منك وصدقة جارية لك، فاجتماعهم والتأليف بينهم واستحداث المسابقة النافعة لهم واستثمار وسائل التواصل فيما بينهم، كل هذا وأمثاله عمل صالح تؤجر عليه. 

  النقطة الثالثة: استثمر عقول الآخرين وذلك باستشارتهم في مشاريعك مع أقاربك وآلية تفعيلها ومناقشتها ليطلعوك على مرئياتهم وملاحظاتهم لتلافيها، وتستفيد أيضًا من تجاربهم، كما أنك بطرحك هذا عليهم تفيدهم لاستثمار ذلك مع أسرهم وأقاربهم.   النقطة الرابعة: إن ما تطرحه على أسرتك وأقاربك هو غرس لك، فعليك بتعاهده بالسقي حتى ينمو ويُزهر لأنك أنت منغرس وأنت المستثمر وأنت أيضًا المأجور، فهنيئا لك ذلك كله.  

 النقطة الخامسة: لا تكتف بنفسك، ولكن اجعل لك مساعدين من الأسرة لدراسة الأفكار الإيجابية وآلية تنفيذها ومناقشتها، فالعمل الجماعي وبروح الفريق الواحد هو عمل مبارك، وهذا من التعاون على البر والتقوى، وعليك باختيار أصحاب الرأي السديد والرشيد وذوي الهمة والاهتمام بهذا الجانب الكبير الفعال. 

  النقطة السادسة: من الممكن أن يبدأ التأثير الأسري بشيء يسير ثم يرتفع شيئًا فشيئًا، فإن التدرج في التأثير التربوي والاجتماعي مطلب كبير في القبول والتقبل فالمسابقات القرآنية مثلًا اليسيرة ولو لأطفال الأسرة، وأيضا عن طريق وسائل التواصل، كل هذا مفتاح لهذا المشروع الكبير سيتطور بعد ذلك حسب الوضع الأسري، وكل مرحلة ترسم المرحلة التي تليها.  

   النقطة السابعة: عندما تنجح فكرة أسرية يجب أن تدرس أسباب النجاح، وتتكرر الفكرة بوجه آخر أو تستحدث فكرة أخرى مشابهة، وكذلك عندما تفشل فكرة ما فيجب أن تدرس أسباب الفشل حتى لا تتكرر في فكرة أخرى مماثلة أو قريبة منها، وهذا كله يدخل تحت مسمى مراجعة المشاريع التربوية، ويمكن أن يكون لجنة خاصة في الأسرة يكون هذا من اهتمامها وشأنها. 

  النقطة الثامنة: حاول في تأثيرك الإيجابي على أسرتك أن تستثمر وسائل التواصل فيهم في تصحيح المفاهيم والدلالة على الخير، ونبذ الصفات السيئة والمخالفة للنواحي الشرعية والاجتماعية، فإن هذه الوسائل يطّلع عليها أصحابها متى شاءوا وكيف شاءوا، وهي دخول شرعي للبيوت من غير إذن فلا تستهن بها، فتأثيرها الإيجابي والسلبي كبير وعظيم، فاجعل لك مشروعًا ترعاه من خلالها، وأقترح عليك أن لو جعلت لك فيكل يوم حديثًا ترسله في فضائل الأعمال القولية والفعلية الثابتة في السنة النبوية الصحيحة، فهم سيطرحون هذه على أقاربهم وزملائهم ويعملون بها وينشرونها وأجرها، وخيرها مستمر لك لأنك أنت من بدأ وأنت من فكر فيها وشجع عليها، فهنيئًا لك الأجور المتتابعة من خلال عملهم وعمل غيرهم بها.  

 النقطة التاسعة: حتى تكون مؤثرًا ومقبولًا لدى الجميع، فتابع إنجازاتهم على المستوى الشخصي أو الجماعي، وشجعهم عليها وحفزهم وشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، واجعلهم يشعرون بك فيما يمر عليهم من تلك الأحوال قدر الإمكان، وليست تلك بمكلفة إنما هي برسالة جوال أو مكالمة خفيفة أو لفظاتٍ محدودة في مقابلة يسيرة ونحو ذلك. فما أيسرها، وما أعظم تأثيرها على الآخرين وفتحًا لنفوسهم وقلوبهم، وبهذا يتقبلون ما تطرحه عليهم حيث انفتحت لك نفوسهم.  

 النقطة العاشرة: قد تجد أحيانًا ردود فعل سلبية سواء صارت ناطقة أو صامتة، فلا تتأثر بها سلبًا، واجعلها عقبة تركتها خلفك وسرت على وجهتك المباركة مستعينًا بالله تبارك وتعالى، واعلم أن النجاح لا يلزم أن يكون مائة في المائة، لكن التسعين بالمائة هي في دائرة الممتاز، وما دونها بقليل هو في دائرة النجاح المتميز، فلا تتأثر بعقبات صغيرة وأنت صاحب الهمة العالية.  

 أخي الكريم إن تلك النقاط العشر هي توصيات لمن يسأل عن آلية التأثير الإيجابي في الأسرة سواء كانت الأسرة بمسماها العام من الأقارب كلهم جميعًا أو كانت بمسماها الخاص وهم أبناء الجد الواحد، أو كانت بمسماها الأخص وهم أصحاب البيت الواحد، فالكل العمل معه مثمر وصاحبه مأجور بإذن الله تبارك وتعالى، وكلها مجالات للتأثير الإيجابي، وما أحوجنا إلى ذلك ليكون مجتمعنا الصغير والكبير من أفضل المجتمعات خلقًا وسلوكًا وتفكيرًا وأمنًا وإيمانًا، واستعن بالله تعالى في مشاريعك تلك كلها، فإذا أعانك الله تعالى أنجزت كل ما تريد وتشجعت وتحفزت، فأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فهي حقيقة الاستعانة، وعليك أيضًا بدعاء الله تبارك وتعالى وسؤاله أن يبارك في جهودك ويعينك.   أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



رحمة النبي في التعامل مع المخطئ



 الأخلاق الإسلامية عبارة عن المبادئ والقواعد المنظِّمة للسلوك الإنساني، والتي يحدِّدها الوحي لتنظيم حياة الإنسان على نحوٍ يحقِّق الغاية من وجوده في هذا العالم على الوجه الأكمل والأتمِّ. الأخلاق الإسلامية عبارة عن المبادئ والقواعد المنظِّمة للسلوك الإنساني، والتي يحدِّدها الوحي لتنظيم حياة الإنسان على نحوٍ يحقِّق الغاية من وجوده في هذا العالم على الوجه الأكمل والأتمِّ.

 ويتميَّز هذا النظام الإسلامي في الأخلاق بميزتين: 

الأوَّل: أنه ذو طابع إلهي، بمعنى أنه مراد الله - سبحانه وتعالى. 

الثاني: أنه ذو طابع إنساني؛ أي: للإنسان مجهود ودخل في تحديد هذا النظام من الناحية العملية، وهذا النظام هو نظام العمل من أجل الحياة الخيِّرة، وهو طراز السلوك وطريقة التعامل مع النفس والله والمجتمع. وهو نظام يتكامَل فيه الجانب النظري مع الجانب العملي منه، وهو ليس جزءًا من النظام الإسلامي العام، بل هو جوهر الإسلام ولبُّه وروحه السارية في جميع نواحيه؛ إذ النظام الإسلامي - على وجه العموم - مبنيٌّ على مبادئه الخُلُقية في الأساس، بل إن الأخلاق هي جوهر الرسالات السماوية على الإطلاق؛ فالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «إنما بُعِثت لأتمِّم مكارم الأخلاق»، فالغرض من بعثته - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو إتمام الأخلاق، والعمل على تقويمها، وإشاعة مكارمها، بل الهدف من كلِّ الرسالات هدف أخلاقي، والدين نفسه هو حسن الخلق.

 ولِمَا للأخلاق من أهمية نجدها في جانب العقيدة؛ حيث يربط الله - سبحانه وتعالى - ورسوله بين الإيمان وحسن الخلق؛ ففي الحديث لما سُئِل الرسول: أي المؤمنين أفضل إيمانًا؟ قال: «أحسنهم أخلاقًا». وعلى الرغم من أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُعرَف بين قومه من قبل الرسالة بالصادق الأمين، فكان اصطفاء الله - عز وجل - له زيادة على هذه الأخلاق، فكان موصِّلاً أمينًا لصورة الأخلاق المطلوبة على وجه الأرض من قبل السماء، ولأن الأخلاق لا تظهر على حقيقتها إلا بالاختلاط بالناس والاحتكاك بهم، كانت الأمثلة الواقعة في حياته الشريفة - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعظم مثل وقدوة على قضية الأخلاق وحسن المعاملة من الجانب العملي إلى البشرية. 

قد وضحت عشرات المصادر أخلاقه وتعاملاته مع غير المسلمين في الدعوة، ومع كل المستويات الثقافية والعلمية والأدبية المختلفة: 1- مؤامرة لاغتيال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضبًا، وجعلت مكة تغلي ضد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى تآمَر بطلان من أبطالها أن يقضيا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق والذل والهوان - في زعمهم - وهو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 كان عمير بن وهب من شياطين قريش، وكان ممَّن يؤذي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه بمكة، فلمَّا أُصِيب أصحاب بدر جلس مع صفوان بن أمية في الحِجْر بعد وقعة بدر بيسير، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القَلِيب ومصابهم، فقال صفوان: والله إنْ في العيش بعدهم خيرًا، قال له عمير: صدقت والله، أمَا والله لولا دَيْن عليَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشي عليهم الضَّيْعةَ بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإنَّ لي قِبَلَهم عِلَّةً؛ ابني أسير في أيديهم. 

فاغتَنَمَها صفوان وقال: عليَّ دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم عنِّي شأني وشأنك، قال: أفعل، ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم به المدينة، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب - وهو في نفرٍ من المسلمين يتحدَّثون ما أكرمهم الله به يوم بدر - فقال عمر: هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر.

 ثم دخل على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحًا سيفه، قال: «فأدخِله عليَّ»، فأقبل إلى عمير فلَبَّبَه بحَمَالة سيفه، وقال لرجالٍ من الأنصار: ادخلوا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلمَّا رآه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعمر آخِذ بحَمَالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادنُ يا عمير»، فدنا وقال: أنْعِمُوا صباحًا، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «قد أكرمنا الله بتحية خيرٍ من تحيتك يا عمير، بالسلام؛ تحيَّة أهل الجنة». ثم قال: «ما جاء بك يا عمير»؟، قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه، قال: «فما بال السيف في عنقك»؟، قال: قبَّحها الله من سيوف، وهل أغنَتْ عنَّا شيئًا؟! قال: «اصدقني، ما الذي جئت له»؟، قال: ما جئت إلا لذلك، قال: «بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القَلِيب من قريش، ثم قلت: لولا دَين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمَّل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائلٌ بينك وبين ذلك». قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنَّا يا رسول الله نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمرٌ لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهَّد شهادة الحق، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرِئُوه القرآن، وأطلقوا له أسيره». وأمَّا صفوان فكان يقول: أبشروا بوقعةٍ تأتيكم الآن في أيامٍ تُنسِيكم وقعة بدر، وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكبٌ عن إسلامه، فحلف صفوان ألاَّ يكلِّمه أبدًا، ولا ينفعه بنَفْعٍ أبدًا، ورجع عمير إلى مكة وأقام بها يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه ناس كثير. 

2- رفق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالشاب الذي يريد أن يزني: وذاتَ يومٍ دخَل شابٌّ على نبي الطُّهْرِ والفضيلة يستأذنه في أمرٍ جلل، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. أمر عجب، يستأذن أطهرَ البشر في صنع أرذل الخطايا، أمَا يستحي؟! أمَا يرعوي؟! لقد نالَه من الصحابة - رضوان الله عليهم - ما يتوقَّع لمثله من التقريع والتأنيب، يقول أبو أُمَامَة: فأقبَل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، وأمَّا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد أدرك أن مشكلة الشاب وانحرافه لن يُقَوَّم بالزجر والوعيد والتقريع، فقال له: «ادنه»، فدنا منه الشابُّ قريبًا فقال له: «أتحبُّه لأمِّك»؟، فانتفض الشاب غَيْرَةً على أمِّه وقال: لا والله، جعلني الله فداءك، فقال له: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، ومضى النبيُّ يستثير كوامن الغَيْرَةِ الممدوحة في صدر الشاب: «أفتحبُّه لابنتك»؟، فأجاب الشاب: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، فأجابه النبي بمنطقية المربي: «ولا الناس يحبونه لبناتهم». 

ثم جعل رسول الله يستلُّ بحكمته ومنطقه دخَن قلبه، ويُطفِئ نار شهوته بتعداد محارمه: أتحبُّه لأختك... أتحبُّه لعمتك... أتحبُّه لخالتك؟، هل تحب أن تراهُنَّ وقد تعرَّضن لمثل ما تريده من محارم الآخرين؟! فالناس يكرهون هذه الفعلة في محارمهم، كما كرهها هو في أهله. فلمَّا استبشع الشاب فِعلة الزنا طلب - صلَّى الله عليه وسلَّم - له سببًا آخر من أسباب الهداية يغفل عنه الآباء والمربُّون، ألاَ وهو دعاء الله الذي يملك أزِمَّة القلوب ومفاتيحها، فقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه»، واستجاب الله له، يقول أبو أمامة: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء. قصة بليغة تضمَّنت دروسًا متعدِّدة في التعامل مع المخطئ، أولها الدعاء له والحنوُّ عليه، والسماح له بالتعبير عن كوامنه، واستجاشة الخير الذي لا يخلو منه قلب خاطئ أبدًا، وفيها دعوةٌ لنا لنُراجِع أنفسنا، ونغيِّر من طريقتنا في التعبير عن ضجرنا من أخطاء أبنائنا وأصدقائنا، فالسبُّ والشتم الذي نكيله للمخطئين لن يكون سببًا في إصلاحهم وتهذيب سلوكهم وتعريفهم بأخطائهم. 

3- رفقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع مَن تكلم في الصلاة: ولنتدبَّر موقفًا آخَر يقصُّه علينا معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - فقد دخل المسجد يومًا يصلي مع الصحابة خلف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعطس رجلٌ أمامَه، فشمَّته معاوية وهو يصلي، ولما كانت الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس استنكر الصحابة فعله، وهم في صلاتهم، يقول معاوية: "فحدقني القوم بأبصارهم"؛ لاستغرابهم من رجلٍ يتحدث وهو في الصلاة. لكن الموقف ازداد تعقيدًا حين استنكر معاوية أنظارهم، وجعل يقول لهم وهو في صلاته: "وا ثكل أمياه! ما لكم تنظرون إليَّ؟!"، فزاد استنكار الصحابة لكلامه في الصلاة، "فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم"، وأخيرًا فَهِم معاوية مرادهم: "فلمَّا رأيتهم يسكتونني سكتُّ". وحين انتهت الصلاة لنا أن نتخيَّل الأنظار وهي تتوجَّه إلى معاوية تلومه، ومثل هذا يتمنَّى - كما يقولون - لو تنشقُّ الأرض وتبتلعه قبل أن تلتهمه العيون بنظراتها العاتبة القاسية، الجميع يرقُب فعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع هذا الرجل الذي جهل ما يعرفه أطفال المسلمين عن حرمة الصلاة وبطلانها بكلام الناس فيها. يقول معاوية: فلمَّا انصرف رسول الله دعاني، بأبي هو وأمي، ما ضربني ولا كهرني ولا سبَّني، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن». 

4- رفق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِمَن بال في المسجد: وبينما النبي جالسٌ ذات يوم بين أصحابه في مسجده، إذ دخل أعرابي فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال رسول الله: «لقد تحجَّرت واسعًا»، ثم ما لبث أن عرضت له حاجته، فتنحَّى وتبوَّل في ناحيةٍ من المسجد، فثار إليه الصحابة ليقعوا به بسبب هذه الفعلة الشنيعة، وهو الذي دعا عليهم قبل قليل بالحرمان من رحمة الله، ثم هو لا يدرك حرمة المساجد! أمَا يدري أن طهارة المكان شرطٌ من شروط صحَّة الصلاة؟ كيف يجعل من ميدان الطُّهْرِ محلاًّ لقضاء حاجته؟! رأى النبي هبَّة الصحابة في وجه الأعرابي، وأدرك أن مثل هذا الأعرابي جاهِلٌ بأحكام المساجد، غير قاصد هتك حرمتها، فقال: «لا تُزرِموه، دعوه» ؛ وذلك حتى لا يتأذَّى بحبس بوله وانقطاعه، وأرشدهم إلى حلٍّ بسيطٍ تصغر بمثله كلُّ مشكلة مهما كبرت في عيون أصحابها، فقال: «هريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذَنوبًا من ماء؛ فإنما بُعِثتم ميسِّرين ولم تُبعَثوا معسِّرين»، ثم لما أتَمَّ الرجل حاجته دعاه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال له موجِّهًا وناصحًا: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القَذَر، إنما هي لذكر الله - عزَّ وجلَّ - والصلاة وقراءة القرآن...». 

وفي هذا الحديث: "الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافًا أو عنادًا، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفِّهما لقوله: دعوه. 

5- رفق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِمَن قال له: اعدل يا محمد: عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقبض للناس في ثوب بلال يوم حنين يعطيهم، فقال إنسان من الناس: اعدل يا محمد، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ويلك، إذا لم أعدل فمَن يعدل؟! لقد خبت وخسرت إن لم أعدل»، قال: فقال عمر - رضوان الله عليه -: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - «معاذَ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابًا له يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإن له أصحابًا يحقِر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يخرجون على حين فرقة من الناس، يقتلهم أَوْلَى الطائفتين بالحق، آيتهم المخدج» - يعني: ذا الثديَّة، فكان الأمر كما أخبر؛ فإن الرجل المذكور وأصحابه خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد حرب صفين. 

6- رفق النبي بالأعرابي الذي جذبه من ملابسه: في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجَبَذه جَبْذَة، حتى رأيت صفح أو صفحة عنق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدَّة جَبْذَته، فقال: يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضَحِك ثم أمر له بعطاء. وفى "مسند البزار" وأبو الشيخ بسندٍ فيه ضعف: أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - جاءه أعرابي يومًا يطلب منه شيئًا فأعطاه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال له: «أحسنتُ إليك»؟، قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفُّوا، ثم قام ودخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئًا، ثم قال: «أحسنتُ إليك»؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنك قلتَ ما قلتَ وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت فقُلْ بين أيديهم ما قلتَ بين يدي؛ حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك»، قال: نعم، فلمَّا كان الغد أو العشي جاء فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك»؟، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إن مثَلي ومثَل هذا الأعرابي كمثَل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فاتَّبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحب الناقة: خلُّوا بيني وبين ناقتي؛ فإني أرفَق بها وأعلَم، فتوجَّه لها صاحب الناقة بين يديه، فأخَذ لها من قُمام الأرض، فردَّها هونًا حتى جاءت واستناخت، وشدَّ عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار».


الأسرة المسلمة .. تغيُّر الزمان وانقلابُ المعايير


  ولابد أن نَعِيَ جميعًا أن دورَنا في رعاية الأسرة دينيًّا لا يتوقفُ فقط عند حدِّ توجيه الأوامر والتعليمات الصارمة فقط لأفراد الأسرة بالالتزام بهذا أو ذاك من تعاليم الدين أو سلوكياته كلُّنا يتذكر ذكرياته مع العمل الإسلاميِّ، في المسجد وفي الجامعة، قبل الزواج، أيام كان شابًا أو شابة في مُقْتَبَلِ العمر، لم يكوِّن أسرته الخاصة بعد... وكان الشاب منا (أو الفتاة) في تلك الأزمان الأولى يَفْرَحُ لمجرد هِدَايَةِ زميل له (أو هداية زميلة لها) لطريق الالتزام بتعاليم الإسلام والحفاظ على الصلاة في المسجد،  والاهتمام بأمر الدعوة الإسلامية وهمومِها. 

وتمرُّ الأيام والسنون، ونجد أننا تخرَّجنا من الجامعة وانخرطنا في الحياة العملية، وشدتنا الدنيا بهمومها وآمالها، ودخلنا في خِضَمِّ تكوين أسرة جديدة، فتزوج الواحد منا (أو الواحدة)، وصار الرجل ربَّ أسرة، يكدح ليلَ نهارٍ، لا ليُنْفِقَ على أسرته الجديدة فقط، ولكن أيضًا ليرتقيَ بشأنها الاقتصاديِّ فيُبَاهِيَ بمستواها الزملاءَ والأقارب والجيران. أما المرأة المسلمة التي تزوجت، والتي كانت داعيةً في رَيْعَانِ شبابها، فقد صارت ربَّة أسرة، مهمومةً باحتياجات زوجها وأبنائها، تكدح في البيت ليل نهار،  وفي بعض بُلْدَانِنَا الإسلامية تعمل بجانب ذلك خارج البيت كموظفة، في هيئةٍ ما، أو شركةٍ ما؛ لتساعد في نفقات الأسرة المتزايدة تحت ضغط ظروف الحياة، التي تزداد صعوبة مع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة. 

وكلُّ هذه التطورات أمورٌ لا غُبَارَ عليها، ولا مفرَّ منها، ولكن هناك ما يَشُوبُهَا من تصرُّفات خاطئة تُضْفِي قدْرًا من القصور والتقصير على هذه التطورات،  فكثيرًا ما نجدُ نموذج الأَبِ الذي يكِدُّ ويتعبُ لتَتَطَوَّرَ زوجتُه وأولادُه في المجال المادي، من مأكل وملبس ومسكن ومستوًى تعليمي وغير ذلك من الشئون المادية، ونجده قلِقًا مؤرَّقًا؛ بسبب تأخرهم أو حتى شُبْهة تأخرهم في أي من هذه المجالات المادية الدنيوية الزائلة، بينما يغضُّ الطرفَ عن تأخر أيٍّ منهم في المجال الديني؛ فلا يهتم بمدى التزامهم بتعاليم الإسلام الحنيف، بل ربما لا يغضب ولا يصبه همٌ ولا كَدَرٌ لو أخَّر أحدهم الصلاة عن موعدها، أو خالف بعضَ تعاليم الإسلام في بعض سلوكياته، بينما قد لا ينام الليلَ لو أخَّر هذا الولد مذاكرة دروسه عن موعدها،  أو تدهور مستوى درجاته الدراسية عن المستوى الذي تأمُله الأسرة. ونفسُ الشيء نجده عند الأم ـ تلك التي كانت من فتيات الدعوة الإسلامية قبل زواجها ـ فهي في هذا النموذج الذي نتحدث عنه لا تبالي بسلوك أبنائها وبناتها من حيث مدى التزامهم بتعاليم الإسلام، فكل ما يهمها:

- هل أكل الأولاد جيدًا وناموا جيدًا وذاكروا جيدًا؟ هل يلبسون ملابس تليق بهم لئلا يظهروا بمظهرٍ أقلَّ من أقرانهم في المدرسة أو الجامعة أوفي الحي؟ والعجيب أننا نرى هؤلاء الآباء والأمهات يلتزمون بكثير من تعاليم الإسلام في أنفسهم، فهم يؤدُّون الصلوات في أوقاتها، بل ويقومون بالعديد من النوافل؛ من صلاة وصيام وصدقة وعمرة وغيرها،  ومع ذلك هم يهملون فريضة من أهم الفرائض؛ وهي رعاية مسئوليتهم الأسريَّة،  هذا رغم أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ « «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُو مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» »، قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: « «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» » (صحيح البخاري جـ 3 ص 414). >

ولا شك أن من هذه الرعاية الرعاية الدينية، لاسيما وأن ذلك مأمور به صريحًا في القرآن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] 

فالرعاية الدينية لا تَكْمُنُ أهميَّتُها فقط في كونها واجبًا شرعيًّا؛ بل لأن فيها أيضًا صلاحَ الدنيا والآخرة. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نبَّه على ذلك بقوله: « «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ همَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا همَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بينَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» ». [(رواه الترمذي عن أنس وصححه الألباني حديث رقم : 6510 في صحيح الجامع الصغير)]

والمقصود أن الأدلة تشير إلى وجوب وأهمية رعاية ربِّ الأسرة لأسرته رعايةً دينية، بالتَّوازي مع رعايته لهم ماليًّا ودنيويًّا،  وهذا يشمل الزوج والزوجة، كلُّ في حدود مجال تأثيره في الأسرة؛ لأن الزوجة أحيانًا ما تقف عاجزةً في بعض المواقف، وتحتاج أن تتوسل بشخصية الزوج وتأثيره لحل هذه المواقف على الوجه الأمثل. ولابد أن نَعِيَ جميعًا أن دورَنا في رعاية الأسرة دينيًّا لا يتوقفُ فقط عند حدِّ توجيه الأوامر والتعليمات الصارمة فقط لأفراد الأسرة بالالتزام بهذا أو ذاك من تعاليم الدين أو سلوكياته،  بل بالعكس، ربما تتسبَّبُ هذه التعليمات في تحقيق عكس المقصود. وإذا رجعنا بذاكرتنا إلى الوراء سنتذكر كيف كان أصدقاؤنا الذين كنَّا ندعوهم للالتزام بتعاليم الإسلام يطيعوننا ويسلكون سلوكًا في عكس الاتجاه الذي كانت تريده لهم أُسَرُهُم .. 

ترى لماذا كان يحدث هذا؟ لقد كان يحدث هذا لأننا كنا ندخل لهم من مدخلَيْ الصداقة والإقناع العقلي أو العاطفي الذي يعطي مساحة من تفعيل دور الفعل الشخصي لذلك الشخص المدعو وإشعاره بوجوده وشخصيته وكيانه المستقلِّ، أما أسرته فكانت تسلك معه مسالك الضغط والتعليمات والإرغام،  ومن هنا علينا ألا نكرِّرَ نفس الخطأ مع أبنائنا، بل وزوجاتنا، بل علينا أن نسلك معهم مسالك الصداقة والإقناع بالعقل، وأيضًا بالعواطف والوجدان،  ومن هنا يأتي النجاح إن شاء الله في تحقيق واجبنا الشرعي الوارد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}  [التحريم:6].



2021-12-02

من علاج الهموم


الدنيا دارُ ابتلاءٍ وامتحان، ومن طبيعتها الهمومُ والغمومُ التي تصيبُ الإنسانَ بسبب الأمراض والشدائد والمصائب والمُنغِّصات، ولهذا كان مما تميَّزت به الجنةُ عن الدنيا أن الجنة ليس فيها همٌّ ولا غم أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، ولنعلم أن الدنيا دارُ ابتلاءٍ وامتحان، ومن طبيعتها الهمومُ والغمومُ التي تصيبُ الإنسانَ بسبب الأمراض والشدائد والمصائب والمُنغِّصات، ولهذا كان مما تميَّزت به الجنةُ عن الدنيا أن الجنة ليس فيها همٌّ ولا غم؛ كما قال سبحانه: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وأن أهلها لا تتكدرُ خواطرُهم ولا بكلمة: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25، 26]، وطبيعة الحياة الدنيا المعاناةُ والمقاساةُ التي يواجهها الإنسانُ في ظروفه المختلفة وأحواله المُتنوعة؛ كما قال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، فهو حزينٌ على ما مضى، مهمومٌ بما يُستقبَل مغمومٌ في الحال؛ لأن المكروهَ الواردَ على القلب إنْ كان من أمرٍ ماضٍ، أحدثَ الحُزْنَ وإن كان من مُستقبَلٍ أحدثَ الهمَّ، وإن كان من أمرٍ حاضرٍ أحدث الغَمَّ، وقد جعل اللهُ تعالى للهموم والغموم والأحزان علاجاتٍ وأدويةً ربانيةً، على المؤمن أن يأخذَ بها ويستفيدَ منها، ومن أهم علاجات الأحزان والهموم والغموم:   1- التسلحُ بالإيمان المقرونِ بالعمل الصالح؛ كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابته سراءُ شكرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له» . 

  2- النظر إلى غُموم الدنيا وهُمومها على أنها للمسلم تُكَـفِّرُ ذُنوبَهُ وتُمحِّصُ قلبَه وترفعُ درجاتِه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يُصيبُ المُسلِمَ، مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوْكَةِ يُشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بِها مِن خَطاياهُ» .   3- ومن علاج الهموم: معرفةُ حقيقة الدنيا وأنها فانية ومتاعَها قليل وما فيها من لذة فهي مُكدَّرة ولا تصفو لأحد، وهي كذلك نَصَبٌ وعناء، ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها كما جاء عن أبي قتادة رِبْعيِّ الأنصاري أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجنازةٍ، فقال: «مُستريحٌ ومُستراحٌ منه»، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، مَن المستريحُ والمستراحُ منه؟ فقال: «العبدُ المؤمنُ يستريحُ مِن نصَبِ الدُّنيا وأذاها إلى رحمةِ اللهِ والمستراحُ منه العبدُ الفاجرُ، يستريحُ منه العبادُ والبلادُ والشَّجرُ والدَّوابُّ» . 

  4- ومن علاج الهموم: التأسي بالرُّسل والصالحين واتخاذُهم مثلًا وقدوةً: وهم أشدُّ الناس بلاءً في الدنيا والمرءُ يُبتلى على قدر دينه، والله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه، عن سعدٍ قال: قلتُ: يا رسولَ الله أيُّ النَّاس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثلُ، فيُبتلَى الرَّجلُ على حَسْبِ دينهِ فإنْ كان دينُهُ صَلبًا اشتدَّ بلاؤهُ، وإن كان في دينِهِ رِقَّةٌ ابتُليَ على حسْبِ دينهِ، فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يتركَهُ يمشي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ.    

 5- ومن أنفع علاج الهم والغم الصلاة، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة 45]، عن حذيفةَ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صَلَّى، وكذلك الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.   6- ومن علاج الهموم التوكلُ على الله - عز وجل - وتفويضُ الأمر إليه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، فالمتوكل على الله قويُّ القلب بالله، يعلمُ أن اللهَ قد تكفَّلَ لمن توكَّلَ عليه بالكفاية التامة، ويثقُ بالله ويطمئنُ لِوَعْدِه فيزولَ - بأمر الله - همُّهُ وقلقُه ويتبدلَ عُسرُهُ يُسرًا وترَحُهُ مرَحًا وخوفُه أمنًا.

   7- من علاج الهموم: أن يجعل العبدُ الآخرةَ همَّه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ، جعل اللهُ غِنَاهُ في قلبِه وجَمَع له شَمْلَه، وأَتَتْه الدنيا وهي راغمةٌ، ومَن كانت الدنيا هَمَّه، جعل اللهُ فقرَه بين عَيْنَيْهِ، وفَرَّق عليه شَمْلَه، ولم يَأْتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له» . 

    8- ومن علاج الهموم أن يعلم المهمومُ والمغمومُ أنَّ بَعْدَ العُسر يُسرًا وأن بعد الضيق فَرَجًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: «واعْلمْ أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرب وأن مع العُسر يُسرًا»

  أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6].   

فعباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، ولنعلم أن من علاج الهموم: دُعاءُ اللهِ سبحانَه وتعالى الذي بيده كُلُّ شيء، ومن الدعاء ما هو وقاية، ومنه ما هو علاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويدعوَه مُتضرِّعًا إليه بأن يعيذَه من الهُموم ويباعدَ بينه وبينها، كما كان يفعلُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ والحَزَنِ، والعَجزِ والكسَلِ، والجُبنِ والبُخلِ، وضَلَعِ الدَّينِ، وغَلبةِ الرِّجالِ» ، وهذا الدعاء مفيدٌ بأمر الله لدفع الهم قبل وقوعه، ومن أنفع ما يكونُ في ملاحظة مستقبل الأمور استعمالُ هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به، فعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمَّ أَصلِحْ لي دِيني الذي هو عصمةُ أمري، وأَصلِحْ لي دنياي التي فيها معاشي، وأَصلِحْ لي آخرَتي التي فيها مَعادي، واجعلِ الحياةَ زيادةً لي في كل خيرٍ، واجعلِ الموتَ راحةً لي من كلِّ شرٍّ» . 

فإذا وقع الهمُّ وألَمَّ بالمرء، فبابُ الدعاء مفتوحٌ غيرُ مُغلَق، والكريمُ عز وجل إن طُرِق بابُه وسُئِل، أُعطيَ وأجاب، يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمِّ والغمِّ، ذلك الدعاءُ العظيمُ المشهورُ الذي حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ منْ سمِعَه أن يتعلَّمَه ويحفظَه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهمَّ إني عبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذَهابَ همِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ وحزنَه، وأبدلَه مكانَه فرجًا، قال: فقيل: يا رسولَ اللهِ ألا نتعلَّمُها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعَها أن يتعلَّمَها» . 

  وقد وردت في السنة النبوية أدعيةٌ أخرى بشأن الغم والهم والكرب ومنها: - أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ عند الكربِ: "لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيمُ، لا إله إلا اللهُ ربُّ السماواتِ وربُّ الأرضِ وربُّ العرشِ الكريمُ"، وعن أنس رضي الله عنه قال: كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا كربَهُ أمرٌ قالَ: يا حيُّ يا قيُّومُ برَحمتِكَ أستغيثُ، وعن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب؟! اللَّهُ اللَّهُ ربِّي لا أشرِك بهِ شيئًا» ، ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضًا ما علَّمناه رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم بقوله: «دعواتُ المكروبِ: اللَّهمَّ رحمتَك أَرجو فلا تَكِلني إلى نَفسِي طرفةَ عينٍ، وأصلِح لي شَأني كلَّه لا إلَه إلَّا أنتَ» .  

 فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على من بعثه الله رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد.



كن برداً وسلاماً



 والمؤمن الفطن هو الذي يعرف كيف يعين صاحبه على البلاء ،وأكثر شكاوي الناس من مواقف يتعرض لها في حياته من القريب والبعيد ،وهنا يظهر معدنك الطيب عندما تعين صاحبك يتصل بك أحدهم ليشكو همه؛ وبدايةً نقول حتى لو كان والعياذ بالله يشكو الخالق إلى الخلق؛ فلك رسالة كذلك لو استطعت لا تعرض عنه وتهملها، فهو نوع من أنواع المعصية وكل ما عليك أن تحاول أن ترفع الدرجة الإيمانية للمشتكي وتلفت انتباهه إلى نعم الله التي لا تعد ولاتحصى ،وأن الدنيا دار ابتلاء وأن الصبر هو قمة العبادة التي خلقنا الله لها، فعليك أن تُصدر إليه قناعاتك وإيمانياتك وروحانياتك قدر المستطاع وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى:  {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ ‎﴿٩﴾} (الأعلى:9) فلربما حُرم المشتكي الصحبة الصالحة التي تدفعه وتوجهه إلى طريق خالقه ووجد فيك ضالته ،فتكون ممن فاز بالوعد في قوله صلى الله عليه وسلم : «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ» [(الراوي:سهل بن سعد الساعدي| (المصدر: صحيح البخاري رقم [15479])] فإن لم يكن كذلك فتذكر قول الله تعالى :" {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‎﴿٥٦﴾} ‏ " (القصص:56) أما إذا كان الأمر مجرد لحظة ضعف يفضي إليك أخوك المسلم بهمومه لأجل أن يجد لديك الدعم المعنوي والنفسي فالأمر أكثر يسرًا لأن الأرض الخصبة بقليل من الماء تهتز و تربو وتثمر ،وفي كل الأحوال رسالتك هامة ودقيقة ويترتب عليها أمور ،وهموم الدنيا وابتلاءاتها كثيرة ومتنوعة ،والمؤمن الفطن هو الذي يعرف كيف يعين صاحبه على البلاء ،وأكثر شكاوي الناس من مواقف يتعرض لها في حياته من القريب والبعيد ،وهنا يظهر معدنك الطيب عندما تعين صاحبك على قهر الشيطان وعدم ترك المجال ليفسد علاقته بمن حوله وذلك بحسن الظن بالآخرين والتماس الأعذار لهم وتطهير قلبه من الحقد والغل . واذكر إحدى الأخوات كان لديها قدرة فائقة على تهدئة ثورة الغاضب حتى يصير مشفقًا على من أغضبه . 

وأخص بالذكر هذه النوعية من المشكلات لأنها تمثل الدمار بعينه حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :(ألا أُخبرُكَ بأفضلَ مِنْ درجةِ الصيامِ و الصلاةِ و الصدقةِ ؟ إصلاحُ  ذاتِ البينِ ؛ فإِنَّ فسادَ ذاتِ البينِ هيَ الحالِقَةُ) (الراوي:أبو الدرداء | (المصدر: صحيح الجامع رقم [68306])) فإذا خصك المرء بسره ليجد عندك النصح الشافي فهذه ثقة وضعها الله فيك بالنسبة لهذا المرء وعليك أن تكون نعم المستشار الذي تنزل كلماته بردًا و سلامًا على قلب المستشير؛لا أن تسلك مسلك أهل الغيبة والنميمة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ،وأعلى درجات الحساسية عند الاستشارة هو ما يخص العلاقات الأسرية ففيها يكون عمارة البيوت واستمرارها قوية سعيدة أو يكون فيها تداعيها وانهيارها ،وهذا لا يعني الدرجات التالية للعلاقات لا أهمية لها ولا تحتاج الحفاظ عليها ،فديننا الحنيف لم يترك علاقة إنسانية حتى وضع لها ضوابط لتستمر مصدر خير ونماء لكل أطرافها فيسعد المجتمع البشري بأسره. سهام علي



الشدائد التي يتعرض لها المؤمن



 عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «المؤمنُ بيْن خمسِ شدائدَ؛ مؤمنٍ يحسُده، ومنافقٍ يُبغِضه، وكافرٍ يُقاتِله، ونفسٍ تُنازِعه، وشيطانٍ يُضِلُّه»؛ أخرجه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاقِ من حديث أنس. فالمؤمنُ معرَّض في هذه الحياة للمَخاطر حتى مِن أخيه المؤمنِ، وأثَر الحسدِ لا يَخْفَى على أحد، فرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (( «إنَّ العَيْن لتُدْخِل الرجلَ القبرَ» )). 

وللحسد أسباب كثيرة؛ منها: 

1 - العداوة والبغضاء: وهما مِن أهمِّ الأسباب التي تدفع للحسد، وتجعل الإنسان يحقد على غيره، ويتمنَّى زوالَ نعمته. 

2 - الكِبْر: وهو أن يكون في طبعِه أن يتكبَّر على غيره، فيخشى أن ينال غيرُه نعمةً تجعل هذا الغيرَ يتكبَّر عليه أو يَزْدَرِيه. 

3 - التعجُّب، بقول الله تعالى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47]. فتعجَّبوا أنْ يَفوزوا برتبةِ الرسالةِ والنبوَّة. 4 - خبث النفسِ وشحُّها بالخير للعباد؛ يقول الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]

ونواجِه الحسَدَ بأن لا نُجاوِر الحاسدين مِن أهلِ الغيبة والنميمة، ونُنَقِّي قلوبَنا مِن كلِّ خُلق ذميم، ونتمنَّى الخيرَ للناس جميعًا ابتغاءَ وجه الله؛ كما قال ابن عباس لرجل كان يَشْتمُه: "أَتَسُبُّني وفيَّ ثلاث: ما سمعتُ ببلدٍ نزل فيها مطر إلا فرحتُ لأهلها، وربما لم يكن لي فيها زرع ينبت، وما سمعتُ بحاكم عادل إلا دعوتُ له، وربما لم أقاضِه، وما علمتُ بآيةٍ مِن القرآنِ، إلا تمنيتُ أنْ يَعْلمَها المسلمون جميعًا".  

 فهكذا يجب أن يكون المسلم كابن عباس رضي الله عنهما؛ إنه يحبُّ الخيرَ للناس دون أن ينتظر مِن أحدٍ خيرًا، فهو خير في خير. منافق يُبغضه: إنَّ النفاق أشدُّ ضررًا، وأعظم خطرًا على الإسلام مِن الكفر، فالمنافق يُظهر الإسلامَ، ويَنْدسُّ في وسط المؤمنين؛ لِيَعْرف أخبارَهم وأسرارهم، حتى إذا أُتيحَت له الفرصة حاول النيلَ من الإسلام، والإيقاعَ بالمسلمين ما استطاع، فها هو رأسُ المنافقين بالمدينة عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول يَنال مِن عِرض رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم الطاهرِ العفيف، ويَرمي أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها الصدِّيقةَ بنتَ الصدِّيق بالإفكِ والبُهتان، والزورِ والإثمِ، ثم تنْزلُ براءةُ أمِّ المؤمنين عائشة مِن فوق سبع سماواتٍ قرآنًا يُتلَى إلى يوم القيامة؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]

وقد تحدَّث القرآنُ الكريمُ في مَطْلع سورةِ البقرة عن المتَّقين في خمس آيات، وعن الكفار في آيتين، وعن المنافقين في ثلاث عشرة آية، وما ذلك إلا لِعظم ضَرَرِهم، وخبثِ طباعهم، وسوء أخلاقهم. واللجوء إلى الله تعالى هو أعظَم ما يَتَحَصَّن به المؤمن ضد النفاق والمنافقين، وليس معنى ذلك السكوت عن أعمالهم، وعدم كشف مؤامراتهم ومخططاتهم، والتحذيرِ منها، بل إن ذلك واجب على كل مؤمن، خاصة إذا كان المنافق عليمَ اللسانِ يستطيع أنْ يُحَوِّل الحقَّ إلى باطل، ولما تحدَّث عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول بسوء أدبٍ عن الرسول، وقال: ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ إذا رجعنا إلى المدينة، وقصَد بنفسه العزيزَ، وقصد بالذليلِ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم نزلَت سورةٌ كاملةٌ تَفضَح ابنَ سلول وأتْباعَه وأشياعَه من المنافقين، سمَّاها اللهُ تعالى سورة المنافقون، وكان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه الموقفُ المعروفُ مِن هذه الحادثة. كافر يُقاتله: إنَّ الكفار هُم أهلُ الباطل وأعوانه، وهُم أشياعُ الشيطانِ وأتْباعُه، وهُم يرصدون الحقَّ وأهلَه على طول الطريق، ويتربَّصون بهم الدوائر، ويُنفِقون الأموالَ الطائلةَ لمحاربة الإسلام والمسلمين؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]

وكأنهم قد تَواصَوا بمحاربة أهلِ الحقِّ منذ قديم الأزل، مِن عهد نوح عليه السلام إلى يومنا هذا؛ قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53]. وعلى أهل الحق أن يَعْلموا أنَّ أهل الباطل لن يسلموهم ما داموا يبتغون الحق، وليعلم أهل الحق أيضًا ألَّا بُدَّ مِن الابتلاء والامتحان، والاختبار والمعاناة والمشقة في طريق الله؛ مِن أجْل أن يَمِيزَ اللهُ الخبيثَ من الطيِّب، وأن يَصْفُوَ المؤمنُ مِن كل الشوائب، فلو كان طريقُ الحق مفروشًا بالورود والرَّياحين، لاختلطَت دَعاوَى الباطل بدعوة الحق، ولاستطاع أيُّ إنسان ادِّعاءَ ذلك، وليَكُنْ زادُ أهلِ الحق في هذا الطريقِ الثقةَ بالله، وحُسْن الظنِّ به، واللجوء إليه دائمًا، وسؤاله الفرَج، والاعتصام بالوَحْيَيْن، ولزوم منهج العلماء الثِّقات الأثْبَات، والترفُّع عن المناهج الحزبية، والولاعات البدعية لغير الله ورسوله والمؤمنين. شيطان يُضِلُّه: يقول الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. وسأل رجلٌ الحسَنَ البصري قائلًا: هل ينام الشيطان؟ فقال البصري: لا، لو نام لاسترحْنا. فمهمة الشيطان التي أخَذَها على عاتقه غوايةُ العباد إلى يوم القيامة؛ فعلى المؤمن أن يتحصَّنَ مِن هذا العدوِّ اللدود بذكر الله وطاعته. سأل رجلٌ أحدَ الصالحين: كيف أتغلَّب على مَن يراني ولا أراه؟ فقال له: بالاستعاذة منه بالذي يراك ويراه. ولينتبه المؤمن إلى مداخل الشيطان فيَسُدَّها عليه، ومنها: الغضب، الشهوة، العجلة، البخل، الكبر، الحسد... وغيرها. نفسٌ تُنازِعه: يقول الله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]

وأَعْدَى أعداءِ الإنسانِ نفسُه التي بين جَنْبَيه، فإذا انتصر عليها، فهو على غيرها أقْدَر، وقد قال الشاعر: إني ابتليتُ بأربعٍ ما سُلِّطـــــوا   ***   إلا لشِدة شقوتي وعَنائــــــي  إبليس والدنيا ونفسي والهوى   ***   كيف الخلاصُ وكلُّهم أعدائي    فنفسُك إنْ كنتَ أميرًا عليها، قُدْتها إلى الجَنَّة، وإن كانت أميرة عليك، قادتْك إلى النار؛ فجاهد نفسَك، أخي المؤمن، وراقِبْها وحاسِبْها ما استطعتَ، وخالِفْها فيما تريد؛ لأن غالب حالها الكسَل والفتُور، والميل إلى الشهوات، والركون إلى الدنيا؛ فاحذر مِن ذلك ثم صُلْ عليها بسوط العزم إذا تكاسلَتْ. 

يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: ألزمتُ نفسي أن تذهَب معي إلى ربي، فتكاسلَتْ فتركْتُها وذهبتُ وحدي. ثم اهْتَمَّ أخي المؤمن بقلبِك، فَنَقِّهِ مِن كل خُلُق ذميم، وامْلأه بالإيمان والرحمة؛ فهو وعاءُ جسَدِك، ثم اضبط أحكامَ عقْلِك وتصوُّراتِه ما استطعتَ بما يتلاءم مع نصوص الشرع الحكيم، تكُن دائمًا في حفظ الله ورعايته. وصلِّ اللهُمَّ على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.