السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2011-11-30

مملكة الأفكار


مملكة الأفكار



- هذه فصوص من النصوص لأهل الخصوص ممن أراد الخلوص.
  •   - يا من اغتر بالناس ليس كل بيضاء شحمة، ففر من الزحمة، إلى غار الرحمة (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيّئ لكم من أمركم مرفقاً).
  •   - في العزلة استدرار أمطار الأفكار، واستذكار أبكار الأخبار، والاعتبار بآثار الأخيار، واختيار مآثر الأبرار.
  •   - وفيها حجب الجاه، وإلجام اللسان عن السفاه، وحبس الطبع السارق عن الأشباه، وحفظ مكنون النعمة عن الجناة، والبعد عن كيد الجفاة.
  •   - وفيها إقامة مهرجان العبادة وناموسها، وفتح ديوان المعرفة وقاموسها، والتّعرف على نعيم الأيام وبؤسها، والسلامة من غوائل الأشرار ونحوسها، والخلوة بأقمار الرسالة وشموسها.
  •   - وفيها السلامة من صروف الزمان، وضياع الوقت مع الأقران، وصرف الساعات في سوق الخسران، والتعرض للتبذل والهوان، والتحفي بفلان وعلاّن.
  •   - ومن الفوائد: كسر جماح النفس الأمّارة، ودحض الأماني الغرّارة، فإن من لابس الناس حفظوا عثاره، واستنبطوا أسراره، وعرفوا غوره ومعياره.
  •   - ومنها: حفظُ سرّ الحر، والبُعدِ عن شرر أهل الشر؛ فإن من قرّ في قعر بيته واستقر، أمِنَ مِنْ حرِّ الباطل والقر، ومِن تجرُّع الحق المر، ومن فرّ من التبعات فقد أحسن المفرّ، ولكل نبأ مستقرّ.
  •   - ومنها: المتعة برحلة ذهنية بحراً أو برّاً، والارتفاع عن السفلة جاهاً وقدراً، فكم من أحمق على عاقل تجرّا، والأوباش كالكلاب تهرُّ هرّا، وتلوك عرضه جهراً وسراً، ولا تنسَ قول تأبط شرا:
  •   عَوى الذِئبُ فَاستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذ عَوى
  •                 وَصَــــوَّتَ إِنســــانٌ فَكِــــدتُ أَطــــــــيرُ
  •   - ومنها: عدم شهود الحسود، والغياب عن جمود الحقود، وعهود الكنود، ولؤم المرود، ونذالة الجحود.
  •   - خلد مع المقدمة في بيته ابن خلدون، ولما اعتزل الجمهورَ ألّف كتاب الجمهورية أفلاطون، وزاد من الإبداع في وحدته ابن زيدون، ودبّج في الانفراد إلياذته ابن عيذون، وقال موسى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون).
  • فهذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة.
  •   وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فارًا بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما ورد في سورة النحل، وقد نص الله تعالى على ذلك في براءة.
  •   وفي الحديث: "كفّ عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك". ففي العزلة السكوت، ولزوم البيوت، والرضا بالقوت، والحطب مع العز ياقوت؛ لأن الخلطة أسحر للقلب من هاروت وماروت، ومصاولة الناس أشدّ من مصاولة طالوت وجالوت.
  •   - لزوم العزلة بالعز أثمن من كل كنز، ففيها ينشر لقبول البز، وتنبت أرض العبادة بغيث الذكر وتهتز، فلا تتشرف بغير الوحدة مع الله وتعتزْ.
  • كن مع الله على ذكرٍ ووحِّدْه
  •            واعتزل وحدك إن الله وحدهْ
  •   - كم خلوت بالعلم فأتحفني وشجاني، وفي الزوايا خبايا كما قال الأرجاني؛ لأن من خالط الناس هان عندهم كما في شعر الجرجاني، فالحمد لله الذي عصمني من الشرِّ ونجّاني، بعدما لامني دهري في الخلطة وهجاني.
  •   - فكن في الانفراد كالقرني أويس، وبشرف العزلة كالأسدي دبيس، ورتّل وحدك آي الذكر كعبد الله بن قيس، وانظر للناس كأنهم في رؤيا منام نظر أسماء بنت عميس، وأسلم مع سليمان الولاية كبلقيس.
  •   أما ترى الهدهد وحّد وتفرّد، وأنذر وأوعد، وخوّف وهدّد؛ لأنه اعتزل في الطريق وتجرّد، وتخلّى عن الخَلْق وتزهّد، فعرف المقصد فوفق وسدّد، ومدح ومجّد.
  •   - فاشرب في الوحدة رحيق الهناء من سيبويه، وأشعل في ليل العزلة مصباح الأنس من نفط نفطويه، واسحق مسك الإخلاص لإخلاص رهواً من علم إسحاق بن راهويه، وعليك بالخلوة مع بدائع أبي الطيب وابن خالويه.
  •   - إن آنست وحشة فناد نفسك: يا نفس قرّي ولا تفرّي، وجاهدي ولا تغتري، وعلى صراط السلامة مرّي، وفي جنات الأنهار استقري.
  •   - في العزلة ألّف الفارابي المدينة الفاضلة، ودبّج أبو حيان المفاضلة، وبها تدرّب الجاحظ على المناظرة والمناضلة، وأتقن أبو يعلى المجادلة، وبها مهر ابن تيمية على المصاولة.
  •   - والتفرد للزمخشري كاف شاف، ولهذا ألّف الكشّاف، وغاص في البلاغة إلى الشغاف، ونثر تلك الجواهر والألطاف، وكان في أيام تأليفه معتزلاً بين السعي والطواف.
  •   - ومالك بن أنس ملك الأنس بعزّة النفس، وبقائه في بيته كالحلس، وخلوته بالقرطاس والطرس، لما صار الناس كالذئاب الطلس.
  •   - فاجعل العقل رئيسك، والعلم أنيسك، والكتاب جليسك، والقلم والدفتر طمسك وجديسك، واتخذ القناعة كيسك.
  •   - ولما ترك أبو الفرج الهمج، وركب من الأدب الثبج، وهجر من هرج ومرج، أتى في الأغاني بالمطربات والروائع والحجج.
  •   - فاعتزل الفِرق، فمن لابس الفتن احترق، ومن ركب بحر الغوغاء غرق، وإذا رأيت الطبع يسرق من أخلاق الخلق الخرق، فاهتف به: إن ابنك سرق.
  •   - وارشف في العزلة من المزني مزنه، واستفد من ابن المسيب سهله وحزنه، وخذ من الفتح المفتاح، ومن الميزان وزنه.
  •   - واسبك في الوحدة سبائك محمود بن سبكتكين في غرته كما سبك الذهبي الذهب، وأترك من جاء ومن ذهب.
  •   - واجلس مع ابن جرير لتنسى كل جريرة، وفاكه مقامات الحريري فما أجمل حريره، ولا تستكثر ليلة مع ابن كثير فليست كثيرة، وسامر الشعر فرزدقه وجريره.
  •   - وألقم كلب الفراغ حجراً بأخبار كُليبْ، واجعل للفراغ نصيباً من أبيات نصيب، واستغن عن الأحباب بروائع خُبيب، وحادث خاطرك بروايات بلال وصُهيب.
بقلم أ د : عائض القرني 

صناعة‭ ‬الكلمة


صناعة‭ ‬الكلمة



إن من البيان لسحراً يخلب الألباب، ويلوّن الأمزجة، ويغيّر الصور والأحداث والأشياء والمواقف. وإن من الخطابة لسحراً يشجع الجبان، ويرد الجامح، ويعزي المصاب، ويسخّي البخيل، ويقدم الهيّاب.
  • وسحر الخطابة في سموها.. في عمقها.. في تأثيرها.. في معانيها.. في عواطفها.
    وسحر الخطابة في إلقائها، وجاذبيتها، وحلاوتها، وطلاوتها، واللسان الذلق يصنع الأعاجيب، وينتج الأحداث، ويرسم الوقائع.
    قالوا: أرسل (جورج واشنطن) ـ أول رئيس لأمريكا ـ رجلاً واحداً إلى (تكساس)، تلكم الولاية التي تمردت عليه، واستعصت على الفتح، هذا الرجل هو (هوستن) الذي سمت باسمه المدينة هناك، أرسله وحده بلا جيش وإنما كان معه لسان ذلق فصيح هدّار خلاّب فدخل هذه الولاية فقيراً مملقاً وجلس في مكتب محاماة يأتيه المظلوم فيخرجه ظالماً، والظالم مظلوماً، والسارق بريئاً، والبريء سارقاً، فاستحوذ على الناس إلا القليل حتى ضُمت هذه الولاية به إلى بقية الولايات.
    وكان الأحنف بن قيس هزيلاً نحيفاً ضعيفاً تحتقره العين، وينبو عنه الطرف، فإذا تكلم خطف الأضواء، وجلب الأبصار، واستنصت الأسماع، وملَكَ القلوب، وهذه هي البلاغة.
    كان بعض الخطباء كالعاصفة الهوجاء، إذا اندفع في الحديث يغضب ويثور، وينفعل ويمور ولسان حاله يقول: لا مساس، فتراه يفلق هام البيان بسيف الفصاحة البتار، ويقطع حبال الشكوك بمهند الحجة الصارم، فهو وحده رجل الموقف، وأستاذ الحدث، وسلطان المقام.
    الخطابة هي جرأة صادقة، وإقدام فظيع، لا يعرف النكوص والالتواء، ومواجهة للجماهير من غير هيبة، ولا وجوم، ولا خجل.
    والخطابة تحضير مسبق لما يُراد أن يُقال، وامتلاء الذهن بأطراف الموضوع، ورصد تام لحديث المقام، حينها يدلف الخطيب وهو واثق من نفسه تمام الثقة، متماسك القوى، قوي الإرادة لأنه قد أحرز مادته، وخمّر أفكاره، واستعد للمواجهة، ولبس للخطابة لأمة النزال.
    إن أول فشل الخطيب أن لا يُزَوِّر كلاماً في صدره، ولا يهيئ أفكاراً في خاطره، وربما ظن أن وقوفه أمام الناس كفيل بإثراء ذهنه بالمعلومات، وملء عقله بالأفكار، وهذه ليس بصحيح (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة).
    والخطيب القدير يعيش الخطبة بقلبه وجوانحه وعواطفه، فهو يتكلم للناس لكن بعروق دمه، وشرايينه، وحشاياه، يتحدث عن الألم وهو أول المتألمين، يتوجع لما حدث؛ لا بلسانه بل بجنانه، فيظهر ذلك في خلجات صورته، وقسمات وجهه، ونبرات صوته، ولفتاته، وإشارته، ويتكلم عن البشرى فإذا هو سعيد بما حدث جذلان بما صار يسعد الناس بما يحمله هو في نفسه وخفاياه.
    والخطيب المصقع موسوعة علمية لا يضايقه الحديث عن أي جانب، بل هو كالسيل، كلما وجد فراغاً ملأه، وكلما صادف مكاناً مخفضاً أفرغ فيه جموحه، يطالع كثيراً، ويتدبر كثيراً، يسبك العبارات، فيجعل الخطبة كهيكل الذهب، متناسقة، متقاربة، لا نشاز فيها، ولا التواء.
    والخطيب يحتاج إلى تدريب سابق، ومران كثير، ولا يكفيه أن يطالع صفات الخطيب، وأن يقرأ سمات الخطابة، بل يعيشها هو بنفسه مزاولة ودربة ومراناً كالسباحة تماماً، فإن مجلداً ضخماً في طريقه السباحة لا ينفع شيئاً ما لم يتوجه الإنسان إلى النهر ليغمس نفسه فيه ممثلاً ما قرأ وما علم.
بقلم أ د عائض القرني