السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2014-07-17

القلب الأبيض


نسمع كثيرًا هذه الكلمة:
"الحمد لله أنا قلبي أبيض"، وصاحبُ هذه الكلمة قد لا يُصلي ولا يُزكي، ولا يَمتثِل لأوامر الشرع، ولا يَنتهي عن نواهيه، ورغم ذلك هو مُصمِّم على بياض قلبه؛ لذا يجب أن نُبيِّن لهؤلاء وغيرهم علامات القلب الأبيض من خلال حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تُعرَض الفِتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشربها، نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرَها، نُكت فيه نكتة بيضاء؛ حتى تَصير على قلبَين؛ على أبيض مثل الصفا، فلا تضرُّه فِتنة ما دامت السموات والأرض، والآخَر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكِر مُنكرًا، إلا ما أُشرب من هواه"؛ رواه مسلم.
ومِن أبرز علامات صاحب القلب الأبيض:
1- قلبه مثل الصَّفا لا تضرُّه فتنة:
الصفا هو الحجر الأملَس الشديد الذي لا تؤثِّر فيه عوامل التعرية، ولا يتأثَّر بالاضطرابات المحيطة به، فهو ثابت على حاله، وكذلك القلب الأبيض ثابت على الإيمان، وسليم من الخلل، لم تُلصَق به الفتن ولا تُحرِّكه.
والإنسان يحتاج إلى معونة من الله - سبحانه وتعالى - كي يَثبُت قلبه على هذا البياض، ولا يتلوَّن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر أن يقول في دعائه: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، فقيل له: يا نبيَّ الله، آمنا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟ فقال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله - عز وجل - يُقلِّبها كيف يشاء))؛ أخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه.
2- انشراح الصدر:
وانشراح الصدر هو: سعته وانفِساحه، وتقبُّله للخير، واستمرار النور فيه.
وقيل: شرح الصدر إنما هو توسيعه للمَعرفة والإيمان ومعرفة الحق، وجعل قلبه وعاءً للحِكمة، والذي يشهد له القرآن أن الشرح هو الانشراح والارتياح، وهذه حالة نتيجة استقرار الإيمان والمَعرفة والنور والحكمة، كما في قوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22]؛ أضواء البيان (8: 537).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن هذه الآية الكريمة، فقيل: كيف يُشرَح صدره يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((نور يُقذَف فيه، فيَنشرح له، ويَنفسح))، قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرَف بها؟ قال: ((الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت))؛ انظر: "السلسلة الضعيفة" (2: 383).
3- التأثر:
من علامة القلب الذي يتَّسم بالبياض التأثُّر بكلام الله، والإصغاء إليه بوعي؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، يقول ابن القيم: "إذا أردتَ الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعك، واحضر حضور من يُخاطبه به من تكلم به - سبحانه - منه إليه، فإنه خاطب منه لك على لسان رسوله، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مُقتضٍ، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمَّنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبيَنِه وأدلِّه على المراد، فقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ﴾ أشار إلى ما تقدَّم من أول السورة إلى هنا، وهذا هو المؤثِّر، وقوله: ﴿ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يَعقِل عن الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ﴾ [يس: 69، 70]؛ أي: حي القلب، وقوله: ﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾؛ أي: وجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يُقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام، وقوله: ﴿ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾؛ أي: شاهد القلب، حاضر غير غائب؛ قال ابن قتيبة: استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساهٍ، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عن تعقُّل ما يُقال له، والنظر فيه وتأمله، فإذا حصل المؤثر، وهو القرآن، والمحل القابل، وهو القلب الحي، ووجد الشرط، وهو الإصغاء، وانتَفى المانع، وهو اشتغال القلب وذُهوله عن معنى الخطاب وانصِرافه عنه إلى شيء آخَر، حصَل الأثر، وهو الانتفاع"؛ كتاب الفوائد لابن القيم.
وتَصل درجة التأثُّر بالقرآن الكريم أن الجُلود تتفاعل مع كلام الله وتقشعَر؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].
4- الانكسار:
فئة قليلة مَن تدخل على الله من باب الانكِسار؛ مع أن هناك فئات كثُرًا يدخلون على الله بالعجب، فيفعلون الطاعات ويَفخرون بها ليصل أحدهم إلى المنِّ والأذى، ونسي كثير من العباد أن باب الانكسار من أعظم الأبواب التي تُثقِّل القلب وتثبته على الطريق؛ يقول ابن القيم: "فإن الذل والانكسار روح العبودية ومخُّها ولُبُّها، والله - سبحانه - أقرب ما يكون إلى عبده عند ذلِّه وانكِسار قلبه، كما في الأثر الإسرائيلي: "يا رب أين أجدك؟ قال: عند المُنكسِرة قلوبهم من أجلي"، ولأجل هذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه، وهذا والله أعلم هو السر في استجابة دعوة الثلاثة: المظلوم والمسافر والصائم؛ للكَسرة التي في قلب كل واحد منهم، فإن غربة المسافر وكسرته مما يَجده العبد في نفسه، وكذلك الصوم فإنه يَكسِر سَورة النفس السبعية الحيوانية ويُذلُّها"؛ مدارج السالكين (1: 298).
ومن أراد بياض القلب وسلامته، فليلزم القرآن ويجعله رفيقًا له وواعظًا، ويُطهر قلبه ليتأثَّر بالمواعظ والتذكير، ويُداوم على انشراح الصدر بالإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت، وبالانكِسار التامِّ لرب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق