السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2014-03-21

التخطيط قطار الناجحين


الحمد لله الملك القدوس السلام، مبدع الأكوان على أساس التخطيط والنظام. نحمده سبحانه وتعالى على بديع صنعه في غاية الدقة والاتقان، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له شهادة دالة على الوحدانية ومعظمة لذاتك العلية، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبدك ورسولك الذي أرسلته هاديا لكل العالمين، اللهم صل وسلم عليه كل آن وحين واجعله شفيعا لنا يوم الدين.
أما بعد:
يُعَدُّ التخطيط ضرورةً من ضرورات الحياة للإنسان، وذلك بسبب خوفه المستمر من المجهول، والأخطار، والكوارث التي تُحدِّق به؛ لذا حتَّمت عليه الظروف توخي الحيطة والحذر لمواجهة ذلك المجهول، فبدأ يُخطط لنشاطاته المختلفة؛ للتغلُّب على ذلك المجهول وما يتعلق به من متغيرات وتقلبات في ظروف البيئة الطبيعية التي يعيش فيها؛ من تعاقب الليل والنَّهار، وتتابع الفصول الأربعة صيفًا وشتاءً، وربيعًا وخريفًا؛ لذا فالإنسانُ يَهدف بالتخطيط إلى تنظيم شؤون حياته، ولتطويع المستقبل المجهول لأهدافه وأغراضه.
يعتبر التخطيط من أهم الوظائف الإدارية بالمقارنة مع بقية الوظائف الأخرى كالتنظيم والتوجيه والرقابة. والتخطيط يسبق أي عمل تنفيذي آخر، فمن خلال التخطيط نستطيع أن ننفذ أي بقية الوظائف الإدارية الأخرى.
لذا تعد عملية التخطيط من أهم وظائف المدير في أي منظمة، من خلال التخطيط يتم تحديد أهداف المنظمة ورسالتها، عن طريق إعداد وتنفيذ ومتابعة وتقييم مجموعة من الخطط والبرامج لتحقيق نتائج معينة باستخدام إمكانيات وموارد محددة في ظل ظروف بيئية قائمة.
والتخطيط عمل فكري؛ حيث يعتمد المخطط على خبراته ومهارته في دراسة الوضع الراهن للمنشأة، ومحاولة معرفة الظروف المحيطة بالمنشأة؛ سواء كانت هذه الظروف خارجية، أو داخلية لبلورة الحقائق والمعلومات المتاحة؛ ليتمكن من وضع الخطة التي تتناسب مع الأنشطة المراد تحقيقها، وقد دعا الإسلام إلى الأخذ به، وجعله نظامًا لحياة المسلم؛ لأنه لا غنى عنه، ولقد جاء الحث عليه أمرًا صريحًا في القرآن؛ قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].
وفي الأثر: "إن قامت القيامة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر".
وهنا ندرك المنزلة الرفيعة التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم التخطيط؛ إذ يفهم من الحديث أن التخطيط للعمل واجب في أشق الظروف، بغض النظر عما إذا كان سيجني فائدة هذا العمل أم لا؛ فالمسلم الحق هو الذي ينجز العمل الذي استعد له من بدايته إلى نهايته طالما وسعه ذلك أي عمل مهما كان صغيرًا ومتواضعًا، لا يمكن أن يكتب له النجاح ما لم يكن منظمًا، وكثير من الطاقات قد تُهدَر وتضيع في غياب التنظيم.
أي عمل مهما بلغت درجة الحماس له لا يصل إلى نهايته إلا إذا قام على ركيزة من الفكر السليم والتقدير الصحيح، وإعداد الوسائل المناسبة للوصول إلى الغاية وعندها يستطيع العمل أن يصل إلى مداه.
ويعتبر التخطيط إحدى النعم والمميزات التي وهبها الله تعالى للبشر، وميَّز بها العقل البشري؛ بعض الدول تعتبره علمًا مبتكرًا لم يعرف إلا في عصرنا هذا؛ وهذا غير صحيح فقد جاء القرآن الكريم منذ قرون مضت داعيًا إليه، وضرب لنا أمثلة على ذلك؛ نجد هذا في التخطيط المحكم الذي أنقذ أمة في سورة سيدنا يوسف؛ وكذلك في سورة الكهف نجد ذي القرنين كيف أنه بدقة تخطيطه حول أمة كانت لا تفقه قولًا إلى أمة عاملة تبني سدًّا، وحثنا الرسول على التفكير العقلي المنطقي المسبق قبل الإقدام على العمل، وهو الدعامة التي يقوم عليها أي عمل جديد يحتاج إلى تخطيط مسبق ومنسق، وخطة محكمة بعد التوكل على الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: (اعقلها وتوكَّل), على العاقل أن يتخذ الأسباب ثم يتوكل على الله وقد قال عمر بن الخطاب: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
ونأمُل من الله أن يكون تخطيطنا جميعًا سليمًا؛ سواء في حياتنا الأسرية، أو غيرها.
إن المسلم يخطط تخطيطًا بعيدًا يتجاوز الحياة الدنيا بالتخطيط لآخرته ومصيره بعد موته، فيتعلم لأجل ذلك التخطيط لحياته الدنيا؛ ليكتمل النظام في جميع جوانب حياته، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن تدع أولادك أغنياءَ، خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون أيدي الناس)، وقوله عليه الصلاة والسلام في ضرورة التخطيط: (خذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لمرضك، ومن غناك لفقرك).
فالمسلم يخطط لاستمرارية الحسنات بعد الموت، ويخطط للنجاة يوم القيامة، ويخطط للحفاظ على ما اكتسب من الحسنات.
إن ديننا الإسلامي جاء بتشريعات وعبادات تعيننا على التخطيط لأنشطتنا، وحفظ أوقاتنا، فعلى سبيل المثال أوقات الصلوات الخمس تقسم لنا اليوم والليلة تقسيمًا يتلاءم مع حياة البشر وأعمالهم، فصلاة الفجر وصلاة المغرب تفصلان النهار عن الليل، وصلاة الظهر والعصر تعطينا تجزيئًا للنهار - (أوله، وسطه، آخره) - وصلاة العشاء تقسم بين أول الليل وبقيته، وإذا جئنا نتأمل في أوسع الأوقات بين صلاتين، وجدنا ما بين الفجر والظهر، وهو وقت للإنتاج والعمل، وكذلك ما بين العشاء والفجر، وهو الراحة والنوم.
تعريف التخطيط:
أمَّا مفهوم التخطيط في الإدارة الإسلامية، فيعرفه الدكتور فرناس عبدالباسط بأنه: "أسلوب عمل جماعي، يأخذ بالأسبابِ لمواجهة توقعات مستقبلية، أو يعتمد على منهج فكري عقدي يؤمن بالقدر ويتوكل على الله، ويسعى لتحقيق هدفٍ شرعي، هو عبادة الله وتعمير الكون"، ويرى الدكتور حزام المطيري أنَّ هذا التعريف يلغي الدورَ الفردي في التخطيط؛ لهذا يورد تعريفًا آخر أكثر شمولية، فيقول: إنَّ التخطيط الإسلامي هو "التفكير والتدبر بشكل فردي وجماعي في أداء عمل مستقبلي مشروع، مع ربط ذلك بمشيئة الله تعالى، ثم بذل الأسباب المشروعة في تَحقيقه، مع كامل التوكل والإيمان بالغيب فيما قضى الله وقدره على النتائج "عُرِّف التخطيط الإسلامي بعِدة تعاريف، إلا أن كلها تدور حول: "إعمال الفكر في رسم أهداف مشروعة، مع تحديد الوسائل المتاحة وفق الموارد المتاحة شرعًا، وبذل الطاقات في استثمارها؛ لتحقيق الأهداف في أقل وقتٍ ممكن، مع تعليق النتائج بقضاء الله وقدره".
معنى التخطيط في الإسلام وقيل: إنه الاستخدام الأمثل للموارد والإمكانيات والظروف في تنمية الفرد المسلم في كل جوانبه؛ مما يجعله قادرًا على أداء دوره في عمارة الأرض، وهو عبادة الله تعالى.
يقول أحد الكتاب: "والمجتمع الإسلامي في جميع عصوره قد شهد صورًا كثيرة من التخطيط، ولم يكن ثمة خلاف بينه وبين التخطيط المعاصر، إلا في الوسائل وحجم الخطة، ولكنه في واقعه كان يشتمل على عناصر الإعداد والتنفيذ، ويدخل في كافة نشاطات الدولة السياسية والدينية، والاجتماعية والاقتصادية والحربية، بل ويتميز عن أي تخطيط آخر بأن السياسات العامة والمبادئ والأسس التي يقوم عليها في الدولة المسلمة هي من صُنع الله سبحانه وتعالى.
أهمية التخطيط:
للتخطيط أهمية بالغة؛ حيث إنه المنهج العلمي لسير العمل في ضوء خطوات متتابعة، وإن سوء التخطيط أو غياب التخطيط، يجعل الأمور تسير في عشوائية وارتجالية؛ مما يؤدي إلى سوء استغلال الأموال، وكذلك ضياع الجهود سُدًى.
ومن أهم فوائد التخطيط:
• المساعدة على التأكد من الهدف الذي يراد تنفيذه ووضوحه.
• المساعدة على التعرف على مواطن الضَّعف والقوة؛ مثل: مستوى الكفاءات، صلاحية الأنظمة, جودة السلعة أو الخدمة مستوى التسويق, كمية الإنتاج.
• تقريب الخيال إلى شبه واقع؛ مما يساعد على حسن اختيار البديل الأكثر مناسبة لتنفيذ الهدف.
• توضيح مراحل العمل وخطوات التنفيذ.
• يستطيع المدراء من خلاله إدراك المزايا التي يمكن الحصول عليها بعد عملية تنفيذ المشروع.
• معرفة المطلوب من المال والأيدي العاملة والمواد ومدة التنفيذ.
التخطيط وتأثيره في حياتنا:
التخطيط هو خير مُعين للنجاح والوصول إلى تحقيق الأهداف، فليس تحديد الهدف هو أهم ما في الأمر، بل الأهم هو خطة للسعي وراء تحقيقه والالتزام بهذه الخطة، والتخطيط هو أساس النجاح، فإذا فشِلت في التخطيط، فقد خطَّطت للفشل.
يقول براين تريسي "كل دقيقة تقضيها في التخطيط توفر لك 10 دقائق في التنفيذ، وهذا يعطيك 1000% من العائد المستثمر من بذل الطاقة ".
فالتخطيط يؤهلك لاستغلال أي مورد في حياتك الاستغلال الأمثل، واستخراج أقصى طاقة منه، كما يجعلك تستغل وقتك الاستغلال الأمثل.
المجتمعات المتقدمة، والدول المتحضرة، ترسم سياستها المستقبلية في التعليم والصحة والعمران وسائر المجالات، على أساس نسبة النمو السكاني، فإذا كانت نسبة النمو مثلًا 2 في المائة أو أقل أو أكثر، فإن ذلك يعني التخطيط لإعداد مدارس تستوعب هذه الزيادة بعد سنوات، وكذلك تهيئة التعليم الجامعي، والخدمات الصحية، وفرص العمل، وحتى تخطيط الشوارع والمدن، وكذلك فإن العوائل المتحضرة المهتمة بمستقبل أبنائها، تضع الخطط والبرامج لضمان نجاح الأبناء وتقدمهم، منذ الأيام الأولى لولادتهم وقدومهم للحياة، هناك إحصائية تقول: إن 80 % مما نقوم به من العمل المثمر إنما ينتج حقيقة من 20% من الوقت المصروف، بمعنى أننا إذا أردنا أن ننجز عملًا يستغرق 10 دقائق نصرف في إنجازه ساعة كاملة! وذلك نتيجة لسوء التخطيط أو عدمه!
حقًّا إنها كارثة!
ورحم الله أمير الشعراء حين قال:
دقات قلب المرء قائلة له:
إن الحياة دقائق وثوانِ
إن غياب التخطيط - سواءً على مستوى الأفراد، أو الجماعات - يؤدي إلى عدم وضوح الأهداف، والخلط في تحديد الأولويات، وفِقدان تحديد الوجهة غياب التخطيط السليم، يعني ضَعف التقويم والمحاسبة، وتطوير المنجزات!
إننا بحاجة أن ننتقل من مرحلة (عمل ما في الإمكان) إلى مرحلة (عمل ما يجب أن يكون)!!
إن أُمتنا بأمَسِّ الحاجة إلى التخطيط الدقيق، الذي يبني مجدها، ويقيها - بإذن الله - مصارع السوء، وكل تخطيط لا يبنى على فَهمٍ عميق لمجريات الأحداث، وتصور متكامل للواقع من جميع جوانبه، سيدخله خلل إن لم ينقلب تخبطًا لا تخطيطًا.
أهم عناصر التخطيط من المنظور الإسلامي النبوي:
1- تحديد الأهداف: في قوله عز وجل: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22].
2- تحديد الأولويات: ويتجلَّى ذلك في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث بدأ بأهله قبل غيرهم: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214].
ويتَّضح من خلال وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما بعثه إلى اليمن فبدأ بالأهم فالأهم: (التوحيد - الصلاة - الزكاة).
3- استثمار جميع الموارد المتاحة: يتضح في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
4- بذل الأسباب والوسائل المشروعة: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60].
"المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خيرٌ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعجِز".
5- تعليق النتائج بمشيئة الله تعالى: وذلك بعد تفريغ الجهد في الأخذ بالأسباب والتوكل على الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23 - 24].
6- التوفيق الإلهي: (وإن أصابك شيءٌ، فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قُل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان)؛ مما يدعو إلى التفاؤل والمثابرة والانطلاق بجد وعزيمة لا تعرف اليأس والإحباط.
التخطيط في القران الكريم:
يزخر القرآنُ الكريم بالعديد من الآيات التي تُمثل التخطيطَ، والتي لا يُمكن حصرها هنا، وسنذكر بعضَ الآيات، التي اتَّفق عليها كتَّاب الإدارة الإسلامية، ومن أهمها الآيات التي نزلت في سورة يوسف - عليه السَّلام - والتي تُمثل التخطيطَ الاقتصادي الربَّاني؛ حيث يقول تعالى:
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 43 - 49].
وقد جاء في كتب التفاسير لهذه الآيات أنَّ المطر والخصب سيأتي لمدةِ سبع سنوات متواليات، وأنَّ البقرَ هي السنين؛ وذلك لأَنَّها تثير الأرضَ التي تستغلُّ فيها الزروع والثمرات، وهن السنبلات الخضر، ثُمَّ قام يوسف بتوجيههم إلى ما يفعلونه في تلك السنين، وذلك بادخار ما استغلوه في السنوات السبع في سنبله؛ ليكونَ أبقى له، وأبعد من إسراع الفساد إليه، إلاَّ القدر أو المقدار الذي يَحتاجونه للأكل؛ بحيث يكون قليلًا، ونَهاهم عن الإسراف؛ لكي يستفيدوا في السبع الشداد، وهن السبع المحل التي تعقب السنوات السبع المتواليات، وقد بشَّرهم يوسف بأنه سيأتي عام غيث بعد عام الجدب؛ حيث تغل البلاد ويعصر الناس الزيت وغيره، كما كانت عليه عادتهم في السابق، كما اعتُبرت من قِبَلِ بعضِ الكُتَّاب بأنها موازنة تخطيطية عامة؛ حيث قام يوسف - عليه السَّلام - بعملية الموازنة بين إنتاج ادِّخار واستهلاك القمح في مصر؛ كما وضح لنا القرآن اضطلاع يوسف بدَوره الإداري المالي الفَعَّال في إدارة أموال الدولة؛ ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55].
لم يفسر سيدنا يوسف الرؤيا فقط، ولكنه أرشدهم إلى خطة مستقبلية لمواجهة ما سيمر بهم من شدائد ومجاعات متوقعة؛ وقد أشار إلى طريقة المواجهة الإيجابية وأرشد إلى ما يفيدهم في تفادي السنين؛ ونصح بمواجهة عواقبها ووضع الخطة الملائمة ووضحها، وهي تتلخص في الآتي:
1- ضرورة العمل المتاح وتحديد المدة المطلوبة.
2- ضرورة العمل الزراعي الجاد المتاح في هذا الوقت.
3- ضرورة زيادة الإنتاج.
4- ضرورة الجد والكفاح والدأب وتحديد المدة.
﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ﴾؛ أي: متوالية متتابعة؛ وهي السنوات السبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان في الرؤيا.
﴿ فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ﴾؛ أي: اتركوه في سنابله؛ لأن هذا يحفظه من السوس، ومن المؤثرات الجوية؛ كالرطوبة، والحرارة، وهنا يبرز أهمية التخزين السليم لحماية الثمار، وضرورة الادخار والاقتصاد، وترْك التبزير والإسراف، فالإسلام دين متوازن يكره ويمقت الشح والبخل، ويُحرِّم الإسراف والتبذير.
﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾: إلا في دائرة الضرورات التي لا يستطيع الإنسان أن يدفعها، وبعد ذلك يرشد إلى وجوب حُسن التصرف فيما ادخروه، ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ﴾ [يوسف: 48].
وقد كان من ثمار هذا التدبير والتخطيط من سيدنا يوسف عليه السلام - الذي هداه الله إليه - أن حفظ الأمة من الهلاك، وخلَّصها من الجوع، ونجاها من الشدائد، وعاد الرخاء.
﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾: يغاث الناس بالزرع والماء وتنمو الكروم والحدائق بفضل الله عز وجل للإنسان، حين يأخذ بالأسباب الصحيحة من تخطيط وادخار وعمل وكفاح.
هذه إشارات إلى واقع تخطيطي حفظه لنا القرآن؛ لكي ندرك أن الإسلام لا يقوم على التخمين أو التواكل، ولكنه دين يعتمد على أدق الأساليب وأعمقها في جوانب الإنتاج والاستهلاك والوسائل المادية والبشرية.
ومن صور التخطيط في القرآن الكريم قولُ الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1 - 5]؛ حيث يطلب الله - سبحانه وتعالى - من رسولِه القيام بتبليغ الدعوة، وترك عبادة الأصنام، كما نجد الله - سبحانه وتعالى - يأمر نَبِيَّه بالجهر بالدعوة؛ حيث كانت في أولِ مَراحلها سرية؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾، ويأمر رسوله بأنْ يبدأ في تبليغ الرسالة بأقربائه وأبناء عشيرته؛ لأَنَّهم الأقرب إليه، والأولى بتصديقه؛ وذلك ليكونَ بِهم قوة يعتمد عليها بعدَ الله في دخول الناس في الدعوة الإسلامية؛ قال تعالى ﴿ وأنذر عشيرتك الاقربين ﴾ الشعراء 214- 215، كما يقول الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الانفال 60]، وهذه الآية تَحتوي على التخطيط للحرب، والاستعداد له من تَجهيز للجيوش وغيره للقتال في سَبيلِ الله، ومن صور التخطيط للحرب، والثَّبات وعدم التراجُع في ميدان القتال قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الانفال: 45]، كما ورد في القرآن الكريم طريقة التخطيط للحرب في حالة إقامة الصلاة؛ حيث أراد الكفار في إحدى الغزوات أنْ يَفدوا على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -أثناء تأدية الصلاة، فأوضح - سبحانه وتعالى - كيفيةَ الصلاة أثناءَ الحرب؛ حيث قال: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [النساء: 102].
التخطيط في السنة النبوية:
التخطيط في السنة النبوية هو امتداد للتخطيط في القرآن الكريم، ومُستمد منه، وقد اشتملت السنةُ النبوية على عددٍ كبير من صُور التخطيط القائمة على مَبدأ التوكُّل والاعتماد على الله - سبحانه وتعالى - أولًا، والأخذ بالأسباب بعد ذلك، وحادثة الرسول - صلى الله عليه وسلم- مع الأعرابي مَعروفة؛ حيث جاء ذلك الأعرابي وأخبره بأنه ترك ناقته عند باب المسجد دونَ أن يعقلها بعد أن توكل على الله، ولكنَّها هربت، فأخبره النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأنه كان عليه أن يتوكل على الله ويعقل الناقة؛ حتى لا تهرب، ومن صور التخطيط في السنةِ النبوية قولُ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((لا يُلدَغ المؤمنُ من جحر واحد مَرَّتين))؛ رواه البخاري ومسلم.
والدروس المستفادة من هذا الحديث في مجال التخطيط هو الاتِّعاظ، وأخذ العبرة من الماضي، وعدم تَكرار الأخطاء، وأنْ يأخذَ المسلم الحذر والحيطة في الأعمال التي يقدم عليها.
قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ حجة الوداع من مرضٍ أشرفت فيه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ مني من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((لا))، قال: أفأتصدق بشطره؟ (أي: نصفه) قال: ((لا))، قال: أفأتصدق بثلثه، قال: ((فالثلث يا سعد، والثلث كثير، فإنَّك إنْ تدَع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)؛ أخرجه البخاري، ويوضح هذا الحديث أنَّ الاحتياطَ واجب، وأنَّ الإنسانَ يَجب أنْ يعتمد على نفسه بعد الله - عزَّ وجَلَّ - مع الأخذ بالأسباب؛ لكي يعيشَ عيشة كريمة تقيه من ذُلِّ السؤال، أو الاعتماد على الغير.
نموذج من نماذج التخطيط النبوي:
لما قرر النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة، خطط لها تخطيطًا دقيقًا محكمًا، ويتجلى ذلك في الآتي:
1- اختيار الصديق المناسب، القادر على إنجاح العملية، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو دور الكبار.
2- تجهيز الوسائل الضرورية قبل الموعد بزمن كاف، لتفادي السرعة والارتباك، الذين قد يحصلا لحظة الهجرة؛ ولذلك جهزت الراحلة قبل الموعد بأربعة أشهر، وبسرية تامة.
3- إتقان دور المخادعة والمخاتلة الحربية، لضمان تحقيق المهمة بغير مفاجآت، كتكليف علي بن أبي طالب بالنوم في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - تمويهًا على المشركين وتخذيلاً لهم، وهذا دور الفتيان الأقوياء.
4- إشراك النساء في إنجاح الهجرة بما يناسب دورهن؛ تقول عائشة - رضي الله عنها - متحدثة عن نفسها وأختها أسماء فجهَّزناهما - أي: الراحلتين - أحث الجهاز - أي: أسرعه -والجهاز ما يحتاج اليه في السفر، وصنعنا لهما سفرة - أي: الزاد الذى يصنع للمسافر - في جراب، فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سُميت ذات النطاقين"؛ البخاري.
5- تخصيص حيز للأطفال لإبراز دورهم في هذا الحدث العظيم، ويمثله دور عبدالله بن أبي بكر، الذي كان يتقصى أخبار قريش، وينقلها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وصاحبه وهما في غار ثور.
6- ومن جميل التخطيط، تكليف الراعي عامر بن فهيرة أن يسلك بقطيعه طريق الغار؛ ليزيل آثار الأقدام المؤدية إليه، ثم يسقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه من لبن غنمه.
7- ومن كمال التخطيط أن اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن أريقط دليلاً عارفًا بالطريق، ولو كان مشركًا، ما دام مؤتمنًا، متقنًا لعمله، ولذلك أرشدهم - بمهارته - إلى اتخاذ طريق غير الطريق المعهودة.
8- وتبقى أعظم محطة في هذا التخطيط البارع، تهيئ التربة الصالحة في المدينة النبوية، لاستقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فكان لا بد من اختيار عنصر يجمع بين الكفاءة العلمية، والشجاعة النفسية، والجرأة الدعوية، والفطانة التواصلية، بحيث يستطيع أن يدخل الإسلام إلى كل بيت من بيوت المدينة، على أن تتم هذه العملية في غضون سنة، فاختار النبي -صلى الله عليه وسلم - لهذه المهمة الجريئة مصعب بن عمير، الذي يعتبر نموذجًا لتربية الإسلام للشباب المترفين المنعمين من أبناء الطبقات الغنية.
وعلى رأس السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية، سيرجع مصعب بن عمير إلى مكة، ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان؛ ليبايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان، وليتهلل وجه رسول الله بهذا الإنجاز البديع، وهذا التخطيط الدقيق، الذي جعل من المدينة النبوية أرض الدين والدولة، منها سيشع نور الإسلام على الكون كله.
نموذج آخر من نماذج التخطيط النبوي:
(تأسيس الدولة بالمدينة):
قام صلى الله عليه وسلم في سبيل ذلك بالخطوات الآتية:
• بناء المسجد النبوي.
• المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
• الإصلاح بين قبيلتي الأوس والخزرج.
• عقد معاهدات ومواثيق مع غير المسلمين.
• تنظيم الشؤون الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية بما يتطلبه أي مجتمع منظم.
• اتخاذ مركز للقضاء وإدارة الأمور وهو المسجد.
• تحديد المسؤوليات الإدارية والتكليفات والمهام.
• قتال المشركين في عدة غزوات.
• توجيه رسائل وإرسال السفراء والمندوبين إلى الملوك والزعماء في الجزيرة العربية وخارجها.
• عقاب اليهود وإجلائهم عن المدينة جزاء خيانتهم ونقضهم العهود.
• تجهيز وتسيير الجيوش والسرايا لنشر دين الله وتبليغ رسالته إلى العالم كله.
• تنصيب القضاة وتعيين الولاة، وتعليمهم (أساليب الإدارة والسياسة - الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام - منهج تعليم القرآن الكريم - جباية الزكاة والصدقات والضرائب الإسلامية، وإنفاقها على الفقراء والمعوزين- وتحقيق المصالح العامة - وفصل الخصومات بين الناس، وحل مشاكلهم - والقضاء على الظلم والطغيان)، وغير ذلك من المهام والصلاحيات والمسؤوليات الإدارية والاجتماعية.
وهكذا نجد أن الرسولَ والقائد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد خطط لكل الأمور سابقًا ولم يتعجل، بل جاهَد وصبر، واحتسب حتى تَحققت الأهداف بطريقة تدريجية، ودون عشوائية.
منقول للفائدة العامة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق