السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2014-03-21

الصاخّة




مَن في فِراره الشقي ومن السعيد؟!
ما زال السؤال يضغط على الرجل، فهو يعلم أن قرار الفِرار هو استجابة لأمر الله: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50، 51]، ويؤمن أن الاستجابة لأمر الله هي الخير بعينه؛ فالحق - سبحانه - يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24]، ويبقى ما يؤرِّق الرجل هو هل سيستطيع الفِرار إلى الله - بكل ما يحمله الفِرار من معانٍ - ليُكتَب من السعداء؟ أم سيَركَن إلى حظوظ النَّفْس وشهوات الدنيا، ويكون فراره إلى حيث تكون الراحة والدَّعة والخمول؛ ليُكتَب من الأشقياء؟
تذكَّر الرجلُ قولَ الحق - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37]، وتَدمَع عينا الرجل وهو يتخيَّل الموقفَ الرهيب، والأمر الجلل الخطير، فمِن أحب الناس إليه سيفر فرارًا، وعن أحن الناس عليه سيُغنيه شأنه!
يا ألله! سأرى أغلى الأحباب وأفِر منهم!
سأرى أخي الذي كنت أستقبله فاتحًا ذراعي ليُلامس صدره صدري؛ أخي الذي كنت أُشرِكه في أمري، أخي الذي كنت أرى صورتي في عينه، أخي الذي يراني وأراه سندي وأَشْدد به أمري، أخي الذي قاسمته وقاسمني أحلامي، أخي وأنا لسان حالنا يقول: أزفت الآزفة ووقعت الواقعة! أين ضحكنا ولعبنا؟! ولهونا ومرحنا؟! الخطب جليل والهول عظيم، والعبرات الحارة تَنسكِب على خدود الأماني الضائعة وجدران الدنيا الواهنة، ونحن ساهون غافلون، ونتمنَّى لو نعود؛ لنفر من كل ما سوى الله إلى الله!
يا ألله! سأرى أغلى الأحباب وأَفِر منهم؟!
سأرى أمي التي قال فيها الإمام الشافعي:
واخْضَعْ لأُمِّكَ وارضِها
فَعُقُوقُها إحدى الكِبَرْ
وقال فيها المتنبي:
أَحِنُّ إلى الكأسِ التي شرِبتْ بها
وأهوى لِمَثْواها التُّرابَ وما ضمَّا
وقال فيها أبو العلاء المعري:
العيشُ مَاضٍ فأَكرِم والديك به
والأمُّ أَوْلى بإكرَام وإحسانِ
وحَسْبُها الحَمْل والإرضَاع تُدمِنُهُ
أمران بالفَضْل نالا كُلَّ إنسانِ
وقال فيها حافظ إبراهيم:
الأُمُّ أُستَاذُ الأساتذة الأُلَى
شَغَلَتْ مآثرهم مدى الآفاقِ
سأراها وأَفِر منها؛ فالخطبُ جليل والهول عظيم!
يا ألله! سأرى زوجتي وأبنائي وأفِر منهم؟!
قال عكرمة: يلقى الرجلُ زوجتَه فيقول لها: يا هذه، أي بَعْل كنتُ لكِ؟ فتقول: نِعْم البعل كنتَ! وتُثني بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنةً واحدة تهبينَها لي؛ لعلي أنجو مما تَرين، فتقول له: ما أيسر ما طلبتَ! ولكن لا أُطيق أن أعطيك شيئًا أتخوَّف مِثْل الذي تخاف، قال: وإن الرجل ليلقى ابنه فيَتعلق به فيقول: يا بني، أي والد كنتُ لك؟ فيُثني بخير، فيقول له: يا بني، إني احتجتُ إلى مثقال ذرة من حسناتك؛ لعلي أنجو بها مما ترى، فيقول ولده: يا أبتِ، ما أيسر ما طلبت! ولكني أتخوَّف مِثْل الذي تتخوَّف، فلا أستطيع أن أُعطيك شيئًا"[1].
جفَّ الدمع في مقلة الرجل، وهو يتخيَّل الموقف الرهيب، إذا جاءت الصاخَّة! ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴾ [عبس: 33]؛ لما ذكر أمرَ المعاش ذكر أمر المعاد؛ ليتزوَّدوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما امتنَّ به عليهم، والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصُخ الأسماع: أي تُصِمها فلا تسمع إلا ما يُدْعى به للأحياء، قال ابن العربي: الصاخة التي تُورِث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان:
أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أَسْمَعا.
وقال آخر:
أصمني سِرُّهم أيام فُرقتهم
هل كنت تعرف سرًّا يُورِث الصمما
لعمر الله، إن صيحة القيامة لمُسمِعة تُصِم عن الدنيا، وتُسمِع أمور الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴾ [عبس: 34]؛ أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرَّغ لذلك؛ لاشتغاله بنفسه، كما قال بعده: ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 37]؛ أي يَشغَله عن غيره، وقيل: إنما يَفِر حذرًا من مطالبتهم إياه؛ لما بينهم من التَّبِعات، وقيل: لئلا يروا ما هو فيه من الشدة، وقيل: لعِلْمه أنهم لا ينفعونه ولا يُغنون عنه شيئًا؛ كما قال: ﴿ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا ﴾ [الدخان: 41][2].
أغمض الرجلُ عينيه على تلك الصورة الرهيبة، وأيقن أن السعادةَ في الدنيا والآخرة تتوقَّف على مدى نجاحه في الفرار إلى الله، فكانت أُوْلى خطواته على دَرْب الفرار إلى الله النية الصادقة، فكان القرار.
تُرى ماذا سيفعل بعد قرار الفِرار؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق