السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2014-06-20

هكذا كان العلماء في الرجوع عن الخطأ

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فإنَّ من إكرامِ الله تعالى لهذه الأمة، وحفظهِ كتابَه وسُنَّة نبيه عليها، أنْ هيأ فيها علماء أجلاء. وهبهم عقولاً راجحة، وعلوماً جمة، ورَجعهم إلى ورعٍ مكين، وخوفٍ منه متين، فحملوا هذه الأمانة وقاموا بها خير قيام، حتى وصل إلينا هذا العلمُ - علم الإسلام - صافيًا مصفىً، خاليًا من الشوائب، محفوظًا من الكدورات، سالمًا من الهوى والخطأ المتوارث.
وكان مِنْ رجاحة هذه العقول، وسُموِّ تلك النفوس، وجميلِ ذاك الورع، وعظيمِ ذلك الخوف: منهجٌ علميٌّ رفيعٌ، أسَّسوه على تقوى من الله ورضوانٍ، يقومُ على التزامِ الحقِّ في الأقوال والأفعال، وطلبِ الحق في الصدور والورود، والتنبيه على الحق في الصغر والكبر، والعودة إلى الحق في السر والعلن.
وعلِمَ اللهُ منهم صدقَهم في كل هذا فرفعهم ورفعَ بهم، وأجرى ذكرَهم بالتبجيل والتقدير على مرِّ الزمان واختلاف المكان.
وإنك لتبحثُ عن أمثالهم في الأمم فلا تجد، وتنظرُ في سيرهم وما دُوِّن من أخبارهم ووقائعهم فتعجب، ويهزك منهم مواقفُ رائعة، وتأسرك صورٌ خلابة، وتُدهش لصفاء تلك النفوس، ونقاء هاتيك الصدور، وتشكر الله على دينٍ صنع أناساً كهؤلاء، طلبوا الكمال من بابه، ولم يتخذوا سوى الحق والصدق مأوى لهم.
نعم، كان الحقُّ شعارهم ودثارهم مدى أعمارهم، إنْ أخطأوه عادوا إليه، وإنْ أخطأه بعضهم دلوه عليه، ومِن المفيد أن نقتبس هذه اللمحات الدالة:
 روى سعيد بن منصور في «السُّنن» عن سعد بن إياس عن رجلٍ تزوَّج امرأة من بني شمخ [في الكوفة]، ثم أبصر أمَّها فأعجبته، فذهب إلى ابن مسعود فقال: إني تزوجتُ بامرأة فلم أدخل بها، ثم أعجبتني أمُّها فأطلق المرأة وأتزوج أمها؟
قال: نعم.
فطلقها وتزوَّج أمها.
فأتى عبدُ الله المدينة. فسأل أصحابَ رسول الله [ذُكِر منهم في بعض الطرق: عمر وعلي رضي الله عنهما]. فقالوا: لا يصلح.
ثم قدم فأتى بني شمخ فقال: أين الرجل الذي تزوَّج أمَّ المرأة التي كانت عنده؟
قالوا: ههنا.
قال: فليفارقها.
قالوا: كيف وقد نثرتْ له بطنها؟!
قال: وإن كانتْ فعلتْ فليفارقها، فإنها حرامٌ من الله عز وجل.
وهكذا يعلمنا الصحابيُّ الجليل عبد الله بن مسعود - وهو مَنْ هو في جلالة القدر وسعة العلم - ألا نأنف من الرجوع عن الخطأ إذا تبيَّن لنا، ويعلمنا دوام الاهتمام بالوصول إلى الصواب وإن طال المدى.
 وعن مَخْلَد بن خُفَاف قال: ابتعتُ غلاماً فاستغللته، ثم ظهرتُ منه على عيب، فخاصمتُ فيه إلى عمر بن عبد العزيز [وكان أميرَ المدينة] فقضى لي بردِّه، وقضى عليّ برد غلته، فأتيتُ عروة بن الزبير فأخبرته، فقال: أروحُ إليه العشية فأخبره أنَّ عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان (أي: يأخذ الخراج - الغلة - من يقع عليه الضمان).
فعجلتُ إلى عمر، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي فقال عمر: فما أيسرَ عليَّ من قضاء قضيته، اللهُ يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنةٌ عن رسول الله، فأراد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله. فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به عليّ له.
ومن الضروري أن نتوقف عند عبارة عمر: «فما أيسرَ عليَّ من قضاء قضيته... فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله». بهذا السموِّ في الرجوع عن الخطأ إلى الصواب مازهم اللهُ عزَّ وجلَّ فامتازوا.
ومثل هذا ما جاء عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (ت 127هـ): قال ابنُ أبي ذئب: قضى سعدٌ على رجل بقضيةٍ برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرتُه عن النبي بخلاف ما قضى به. فقال سعدٌ لربيعة: هذا ابن أبي ذئب - وهو عندي ثقة - يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيتُ به؟
فقال له ربيعةُ: قد اجتهدتَ ومضى حكمُك.
فقال سعدٌ: واعجباً! أنفذُ قضاء سعد بن أم سعد وأردُّ قضاء رسول الله؟! بل أردُّ قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله.
فدعا سعد بكتاب القضية فشقَّه، وقضى للمقضي عليه.
ونتقدم مع الزمن لنشهد عجائب في هذا الباب، وقد بلغ الأمرُ ببعضهم إلى طلب بيان الخطأ - إن كان - من عارفه، من غير نظرٍ إلى سنِّه، كما حصل للإمام البخاري مع عدد من شيوخه، ومنهم ابنُ أبي أويس الذي قال له:
انظرْ في كتبي وجميع ما أملك لك، وأنا أشكرُ لك أبداً ما دمتُ حياً.
وهناك مَنْ كان يدفعُ الذهب لمَن يراجعُ عمله كما جاء عن المحدِّث التاجر دَعْلج بن أحمد بن دعلج المعدَّل (ت 351هـ):
قال الخطيبُ البغدادي: بلغني أنه بعث بـ "مُسنده" إلى ابن عقدة لينظرَ فيه، وجعل في الأجزاء بين كل ورقتين ديناراً.
وكان الإمام المفسِّر البقاعي (ت 885هـ) يقول:
«ما تركتُ أحداً ممَّن يلم بي إلا قلتُ له: المراد الوقوفُ على الحق من معاني كتاب الله تعالى، والمساعدةُ على ما ينفع أهل الإسلام، فمَنْ وجد لي خطأ فليخبرني به لأصلحه، ووالله الذي جلتْ قدرته وتعالتْ عظمته لو أنَّ لي سعة تقوم بما أريد لكنتُ أبذل مالاً لمن ينبهني على خطئي، فكلما نبهني أحدٌ على خطأ أعطيته ديناراً. ولقد نبهني غيرُ واحد على أشياءٍ فأصلحتُها، وكنتُ أدعو لهم وأثني عليهم، وأقولُ لهم هذا الكلام ترغيباً في المعاودة إلى الانتقاد، والاجتهاد في الإسعاف بذلك والإسعاد».
وكان للعلماء في إعلان ما أخطؤوا فيه وبيان رجوعهم عنه ما تندهشُ له الألباب:
قال ابنُ الجوزي: «وقد كان في السلف - قدَّس اللهُ أرواحهم - مَنْ إذا عرف أنه قد أخطأ لم يستقرَّ حتى يُظهر خطأه، ويُعلم من أفتاه بذلك».
ثم روى أنَّ الحسن بن زياد اللؤلؤي (ت 204هـ) استُفتي في مسألة فأخطأ، فلم يعرف الذي أفتاه فاكترى منادياً فنادى أن الحسن بن زياد استفتي يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ، فمن كان أفتاه بشيء فليرجع إليه. فمكث أياماً لا يفتي حتى وجد صاحبَ الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ وأن الصواب كذا.
وجاء مثل هذا عن العز عبد السلام (ت 660هـ) فقد أفتى مرة بفتيا، ثم ظهر له أنه أخطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: مَنْ أفتى له فلانٌ بكذا فلا يعمل به فإنه خطأ.
وكانوا يُعلنون عن خطئهم في المحافل العامة:
ومن أجمل الأخبار في ذلك ما فعله واعظُ عصره العلامة أبو الفضل عبد الله بن الحسين الجوهري المصري (ت 480هـ) حين نبَّهه على خطئه وافدٌ غريبٌ حضرَ مجلس وعظه، والخبر ساقه القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه «أحكام القرآن»(1/182-183)، ولولا طولُه لنقلته، فعُدْ إليه واقرأه وتأمله، وقد ختمه أبو بكرٍ بقوله:
«فانظروا - رحمكم الله - إلى هذا الدين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ، مِنْ رجلٍ ظهرت رياسته، واشتهرت نفاسته، لغريبٍ مجهولِ العين، لا يُعرف مَنْ ولا مِنْ أين، فاقتدوا به ترشدوا».
وأعجبُ من هذا فعلُ ابن حزم إذ أبقى على خطئه في كتابه، ورَدَّ على نفسه بنفسه، وبيَّن أنه أخطأ، فانظر - إنْ شئت - «المُحلى» وتعليق الشيخ أحمد شاكر عليه 6/66-74.
وكانوا يَقبلون التصحيحَ ولو كان قاسياً:
روى الإمامُ أحمدُ عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: حدَّث سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي أنه قال: لا تصحب الملائكةُ رفقةً فيها جرس.
فقلتُ له: تعستَ يا أبا عبد الله - أي عثرتَ -.
فقال: كيف هو؟
قلت: حدَّثني عبيدُ الله بن عمر عن نافع عن سالم عن أبي الجراح عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: صدقتَ.
قال السخاوي: «قد اشتمل هذا الخبرُ على عظم دين الثوري، وتواضعه، وإنصافه، وعلى قوة حافظة تلميذه القطان، وجرأتهِ على شيخه حتى خاطبه بذلك، ونبهه على عثوره..».
وجاء في ترجمة إمام النحو أبي الحسن الأخفش: سعيد بن مسعدة (ت بعد 210هـ) قوله: أتيتُ بغداد، فأتيتُ مسجد الكسائي، فإذا بين يديه الفرّاء والأحمر وابن سعدان، فسألتُه عن مئة مسألة، فأجاب، فخطأتُه في جميعها، فهمُّوا بي، فمنعهم، وقال: بالله أنتَ أبو الحسن؟
قلت: نعم.
فقام وعانقني، وأجلسني إلى جنبه، وقال: أحبُّ أن يتأدبَ أولادي بك. فأجبته.
ومثل هذا الحلم والسعة ما جاء عن الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام (ت 223هـ) فقد قيل له: إنَّ فلاناً يقول: أخطأ أبو عبيد في مئتي حرف من «الغريب المُصنَّف».
فحلم أبو عبيد ولم يقع في الرجل بشيء، وقال: في «المُصنَّف» كذا وكذا ألف حرف، فلو لم أخطئ إلا في هذا القدر اليسير ما هذا بكثير، ولعل صاحبنا هذا لو بدا لنا فناظرناه في هذه المئتين بزعمهِ لوجدنا لها مخرجاً.
قال الزبيدي (ت 379هـ): عددتُ ما تضمنه الكتابُ من الألفاظ فألفيتُ فيه سبعة عشر ألف حرف، وسبع مئة، وسبعين حرفاً.
وقد يَقبلون التصحيح حتى من الرجل الأعرابي البعيد:
جاء عن الإمام أبي خارجة عنبسة بن خارجة الغافقي (ت 210هـ) أنه قرأ: إنَّ المشط يذهب الوباء -بالتصحيف–، وحضره رجل أعرابي فقال له: يا أبا خارجة، انظر في هذا الحرف، إنما هو «الوناء» - بالنون - فتفكر أبو خارجة قليلاً ثم قال: نعمْ والله، هو الوناء وهو الضعف والكلل، ودليل ذلك قوله تعالى ﴿ وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾ [طه: 42] - يعني: تضعفا.
أما الذين قبلوا من تلامذتهم فهم كثرٌ، ويُذكرُ منهم:
زيد بن ثابت، وشعبة بن الحجّاج، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، والمُعافى بن عمران، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق الصنعاني، والداخلي - شيخ البخاري -، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر ابن الأنباري، وبكر بن حمّاد، وابن ناصر السلامي، وابن الجوزي، والمزي، والشُّمُنِّي - شيخ السيوطي -....
هذا، ومن المقرَّر في علوم الحديث أنَّ الغلَّاط الذي لا يرجع عن غلطه يُترك، وفي هذا كلامٌ لشعبة بن الحجاج، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل فيما نقله الخطيب البغدادي.
بينما يفوزُ الرجَّاع بالثناءِ الحسن والثقةِ بدينهِ وعقلهِ:
قال الحافظ عبدُ الغني بن سعيد الأزدي (ت 409هـ): لما رددتُ على أبي عبدالله الحاكم «الأوهامَ التي في المدخل» قرأ هذا على الناس، وبعثَ إليَّ يشكرني، ويدعو لي، فعلمتُ أنه رجلٌ عاقلٌ.
وقال الشوكاني عن التاج السبكي (ت 771هـ): «إنه كان في غاية الإنصاف، والرجوع إلى الحق في المباحث، ولو على لسان أحد الطلبة».
والاختلافُ بمسوِّغاته المقبولة، والردودُ بضوابطها المعقولة: منهجٌ مقرَّر، ويقول الشيخُ محمد مولود اليعقوبي الموسوي (ت 1323هـ):
ردُّ الأجلاَّءِ على الأجِلّا
مِن الأبين والشيوخِ دلّا
معَ قبول كلِّ واحدٍ نبهْ
لهُ على جوازهِ أو طلبهْ
ردَّ على مالكٍ ابنُ القاسمْ
وابنُ ابنِ عاصمٍ على ابن عاصمْ
وابنُ ابنِ مالكٍ على ابنِ مالكْ
ولم يَعبْ صاحبُ نقلٍ ذلكْ
كذا الرهونيُّ على رسوخهْ
قد أكثرَ الردَّ على شيوخِهْ
وذاك عندي أنّ حقَّ الحقِّ
مُقدَّمٌ على حُقوقِ الخلقِّ
واستيعابُ هذا الباب يطولُ.
ومَنْ ثقل عليه التصحيح، أو آذى المصحح بقول أو فعل، فله في الحَجَّاج بن يوسف الثقفي أسوةٌ، فقد نفى مَنْ ذَكَرَ له خطأه - مع أنَّه هو الطالب له - مِن أرضه!
والخبرُ في «طبقات فحول الشعراء» (1/13) فانظره.
ولا أحبُّ أن أختمَ هذه الكلمة قبل أنْ أذكر هذا الخبر العميق:
قال الفلاس: رأيتُ يحيى القطّان يومًا حدَّث بحديثٍ فقال له الحافظ عفان بن مسلم الصفّار (ت 220هـ): ليس هو هكذا. فلما كان من الغد أتيتُ يحيى فقال: هو كما قال عفان، ولقد سألتُ الله أن لا يكون عندي على خلاف ما قال عفان.
قال الذهبي:
"هكذا كان العلماءُ، فانظر يا مسكينُ كيف أنتَ عنهم بمعزِل؟".
ونحن نرجو الله أن لا نكون عَن هؤلاء بمعزل، وندعو إلى إعاشة هذا الخلق النبيل وإشاعته، والنفورِ من الإصرار على الخطأ، والإعجاب الزائد بالنفس والعمل، وقد قال الأئمة مجاهد بن جبر، ومالك بن أنس، ويونس بن حبيب:
«ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يُؤخَذُ من قوله ويُتركُ».
والله ولي التوفيق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق