السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2016-03-04

الإنسان بين الواجب الدنيوي والمصير الأخروي


يأتي الإنسان إلى هذه الحياة الدنيا ، مبتدئا ، إياها بيوم مولده ، ثم ينشأ ويترعرع . وتترعرع في جنبيه آماله وأحلامه ، ويقوى تعلقه بهذه الحياة ، فلا يسعه فراقها ولا يرضى بغيرها بدلا ، فيطوي على هذا الحال سنين طويلة ، ويبلغ من عمره ما يبلغ ، فتأكل الأيام قواه ويثقل الزمان ظهره بحمل من السنين ، فيقعد مرغما عن السعي إلى الآمال والركود خلف الأحلام .
وعندها تحين الالتفاتة ، وهو ما يفتأ يرى أنه قد بلغ النهاية في عراكه مع أحداث الحياة من أجل الوصول إلى ما كان يرجوه من أسفاره .
وها هو الآن يضع عصا الترحال مستسلما لأمر الواقع ، إذا قد حانت أشراط الفراق ، وقد ازدادت الشقة بينه وبين هذه الحياة ، ثم يلفظ آخر أنفاسه خاتما تلك الحياة في لحظة من سكرات الموت .
فهل ينتهي إلى هنا كل شئ ؟ 
وهل تنتهي الحياة بموت الإنسان وتحوله إلى جثة هامدة وعظام نخرة ، ثم لا شئ بعد ذلك ؟ 
فإن كان الأمر كذلك ، فما هو الفرق إذا بين الإنسان والحيوان ، وبين إنسان وآخر من جنسه من حيث المصير ؟ 
ما الفرق بين الناس : الناجح منهم والفاشل في حياته ، وبين الخير والشرير ، وبين العادل والظالم ؟ 
أم أن خالق الكون والإنسان لا يهدف إلى شئ من خلقه إياه ؟ 
أم أن وجود الإنسان محدود بهذه الحياة الدنيا فحسب ، فلماذا الموت والفناء إذا ، ولم لا يترك الإنسان مخلدا باقيا في حياته ، ما دام لا شئ بعد الموت ، أم أن الخالق عاجز عن إبقائه فيها أبدا ؟ 
الكل يعلم - سواء استمد علمه هذا من عقيدة دينية أو من الفطرة - أنه ميت وماض إلى حياة أخرى ، وحتى أولئك الماديون فإنهم إنما ينفون هذا لفظا وجدلا لا يقوى على إقناع أو حجة بل يقرون بذلك فطرة أخفوها من خلف مكابراتهم ومرائهم .
إن الحياة لا تنتهي بالموت ، وإنما الموت انتقال إلى الحياة الثانية التي تبدأ بما يسمى بالحياة البرزخية .
وفي الواقع أنه بالموت يبدأ كل شئ ، فالحياة الدنيا ليست سوى تلك الأعمال التي يتصدى لها الإنسان فيها منذ ولادته إلى يوم ارتحاله ، والحياة الأخرى ليست سوى حضور تلك الأعمال التي تصدى لها الإنسان في حياته الدنيا بذواتها منذ بلوغه التكليف ثم حصحصتها بلا تجاوز لصغيرة ولا كبيرة .
وعلى هذا الأساس - فالناس - وهم في حياتهم الدنيا - سواسية من حيث إن لهم اكتساب هذه الفرصة للتحصيل والتزود كل على قدر ارتباطه بخالقه والتزامه بتكاليفه . وهم بذلك على قدر وافر من الاختيار ، بل دون جبر يحول بينهم وبين اكتساب هذه الفرصة السانحة التي لا تتكرر .
وطبقا لذلك فهم سواسية أيضا من حيث الثواب والعقاب في الحياة الأخرى ، كل طبقا لما اكتسبه في حياته الأولى وما انتخبه من نهج فيها . إذا فالحياة الأولى مرحلة الاكتساب والتزود ، والموت هو لحظة الانتقال إلى الحياة الثانية التي هي حياة الاستقرار الأبدي لما اكتسبه وتزود به سابقا ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ) .
إن الحياة التي يحرزها الإنسان في آخرته بلا شك هي حياة أبدية ويمكن للفرد أن يتصور ويمعن الفكر بعمق في معنى تلك الحياة الأبدية ، مع العلم بأن الأبدية تعني إلى جانب عدم الانقطاع والانصرام اللاعودة واللارجعة لترتيب الأمور وإصلاح ما فسد منها ، إذا أن ذلك أمر ممنوع ولا مجال له قط .
فليتصور الإنسان ذلك ، وليضع نفسه مرة في موضع من حالفه التوفيق في تلك الحياة الأبدية ، ومرة في موضع الذي جانبه التوفيق وحدث على أقل تقدير تقصير في أعماله فأصابه نوع من الشقاء فيها ، وليذوق طعم الحياتين في الحالتين معا ، حتى يتبين له الفرق الشاسع وخطورة الموقف ، حتى تتبين 
له أهمية الحياة الدنيا من حيث إنها مجال لا حراز المصائر ، وبالتالي يدرك جيدا أن السعي إلى البحث عن سبيل السلام واجب ، يحتمه عليه خطورة ما يؤول إليه مصيره الخاص في تلك الحياة التي لا فرصة فيها لإصلاح ما فسد ، ولا عودة فيها للبدء من جديد .فالحياة الدنيا - وهي مجال لأداء هذا الواجب ومنطلق لذاك المصير - ليست مجالا لاكتساب أعمال قد أحيطت بالظنون وطوقت بالأوهام ، إذا أنها حياة - وهي تؤدي إلى مصير كهذا قطعا - لا تحتمل ذلك لمحدوديتها وقصرها ، فلا بد إذا أن يكون
كل فعل يكتسب فيها مؤسسا على اليقين والحق ، والفعل الذي يبعث الاطمئنان على النتائج فتأسيس هذه الحياة على الظن والأوهام لا ينتهي إلا إلى هذين .
إن أهمية الحياة الدنيا من هذا الحيث لا تقل شيئا عن أهمية الحياة الأخرى ، إذ لا بد للإنسان أن يبعد عن حياته هذه كل ما من شأنه أن يباعد بينه وبين السعادة الأبدية في تلك الحياة التي تقوم على أساس اليقين ، بل عين اليقين .
وهذا هو أصل السعادة وأساس الفوز في الحياة الآخرة . والسنخية بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة واضحة، فما يفعله الإنسان في هذه الحياة يحضر بعينه وبصورته النوعية الحقة ليجده الفرد هناك أمامه ، بل كل فعل وكل شئ آنذاك يتجلى في صورته
الواقعية التي لا نستطيع ونحن في حياتنا هذه - ما دمنا قد بنيناها على الظن - أن ندركها كما هي في الواقع الحقيقي ، وهذا هو اليقين المطلوب في هذه الحياة ، الذي تكون علائمه التي تشير إليه هي اليقين المطلوب في هذه الحياة في أدنى درجاته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق