السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2013-11-18

لغتي ... الجميلة



كان العربُ قبل الإسلام أمَّةً مُمزَّقةَ الإهاب، مُفترسَة الجَناب، تعيشُ في يَبابٍ وتَبابٍ، ولكن جمعَتهم أواصِرُ الفصاحةِ الهُمامة، وألبَسَتهم أثوابَ المُروءةِ والشهامة، فعلى بِساط اللغةِ يجتمعون، وفي وَريفِ ظلِّها يُبدِعون، ويُبدِي كلٌّ ما في وِطابِه، ويكشِفُ عما حوَى في جِرابه؛ من نثرشها وشِعرها، ونحوِها وصَرفِها، وبلاغتها واشتِقاقِها؛ فبَين فخرٍ وهِجاءٍ، ومدحٍ ووصفٍ ورِثاءٍ، يُمتِعون أسماعَ الزمان، ويُبهِجون مُقَل الأكوان، بسَلسَالٍ من بديع الألحان، وعَذبِ الكلماتِ الحِسان. فاللغةُ كانت نبعًا ثَرًّا يُؤلِّفُ بين قبائل العربِ في مجالسِهم ومُنتدياتهم.
سرَت كالمُزنِ يُحيِي كلَّ أرضٍ ويُبهِجُها سُهولاً أو وِهادًا
وما للهجةِ الفُصحَى فَخارٌ إذا لـم تملأِ الدُّنيا رشــــادًا
إاللغةَ العربيةَ الشريفةَ لها حقٌّ علينا حقيقٌ؛ فمن بعضِ حقِّها أن نبُلَّها ببِلالِها، وأن نرعَى قدرَها في كلِّ منسوبٍ إليها، وأن نسعَى لنجدَتها كلَّما مسَّها ضُرٌّ، أو حَزَبَها أمرٌ؛ فلُغتُنا العربيةُ اليوم وفي عصر أنماط العَولَمة، وغلبَة عامِّيِّ اللهَجات، وثورة التِّقَنات، وانفجار المعلومات، وفضائيِّ القنوات والشبكات رِباعُها مجفُوَّة، وقِصاعُها مكفُوَّة، ورِقاعُها غيرُ مُلتامةٍ ولا مرفُوَّة، بعدما كانت عذبَة التغاريد، حسنةَ الألفاظِ والمفاريد، رضِيَ بها الأسلافُ في المفاخِر والمنافِحِ، وصَقَلُوا بها الأذهانَ والقرائحَ، وكانت تُرجمانًا صادقًا لكثيرٍ من الحضارات المُتعاقِبة، وكانت سببًا لتقارُب الأمم التي دخلَت في دين الله أفواجًا، فتمازَجَت أذواقُهم، وتوحَّدت مشارِبُهم، وأعلَى الدينُ شأوَها ورفعَ شأنَها.
فما أهوَى سِوَى لغةٍ سَقَتْها قريشٌ من براعتِها شِهَادًا
وطوَّقَها كتــــابُ الله مجــــــــــدًا وزادَ سَنَا بلاغتها اتِّقــــادًا
لقد أضحَت اللغةُ العربيةُ لدى كثيرٍ من المُسلمين اليوم في خُفُوت، ورياحُها الشذِيَّةُ العبِقةُ في هُفُوت، بما يُلِحُّ أن نُدندِنَ حول ذَيَّاك المَعينِ السَّلسَال، ونلِجَ هذا النَّميرَ المِنهالَ، لنُحيِيَ شقاشِقَ اللغةِ الهادِرة، ونعبُر دياجيرَ العُجمةِ الغامِرة، فلقد حرَبْنا العربيةَ معانِيَها اللِّطافَ، وألبسناها ثوبَ السنينَ العِجاف.
ولقد كان سلفُنا الصالحُ -رحمهم الله- يُعنَون بالعربية، ويُعاقِبون صِبيانَهم على اللَّحنِ، ويُثِيبونَهم على الفصاحَة والبيان. يقول الفاروقُ عمرُ بن الخطاب : (تعلَّموا العربيةَ؛ فإنها تُنبِتُ العقلَ وتزيدُ المُروءةَ)، وكبَ كاتبٌ لأبي موسى الأشعريِّ خطابًا لعُمر فبدأَه بقوله: (من أبو موسى)، فكتبَ إليه عُمرُ أن اضرِبه سَوطًا، واستبدِله بغيره. الله أكبر! ويا لله! ما أعظمَ غيرتهم على لُغة القرآن! فلله درُّهُم!
سمِعَ الأعمشُ رجلاً يلحَنُ في كلامِه فقال: من الذي يتكلَّم وقلبي منه يتألَّم؟ وكان الحسنُ البصريُّ رحمه الله يقول: "ربما دعوتُ فلَحَنتُ فأخافُ أن لا يُستجابَ لي". وكان أيوبُ السِّختيانيُّ رحمه الله إذا لحَنَ استغفرَ اللهَ. وسِعَ الخليفةُ المأمونُ بعضَ ولده يلحَنُ، فقال: "ما على أحدِكم أن يتعلَّم العربيةَ؟ يُصلِحُ بها لسانَه، ويفُوقُ أقرانَه، ويُقيمُ أوَدَه، ويُزيِّنُ مشهَدَه، ويُقِلُّ حُجَجَ خصمِه بمُسكِتات حِكَمه".
الله أكبر! إن اللغةَ العربيةَ -يا رعاكم الله- هي كما قالَ الإمام الشافعيُّ رحمه الله : "أوسعُ الألسِنة مذهبًا، وأكثرُها ألفاظًا، ولها مكانتُها العُظمى في هذا الدين".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اللغةُ العربيةُ من الدين، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ؛ فإنّ فهمَ الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ". ويقول أيضًا رحمه الله: "ومعلومٌ أن تعلُّمَ العربية وتعليمَها فرضٌ على الكفاية".
فنحنُ مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استِحبابٍ أن نحفظَ القانونَ العربيَّ، ونُصلِح الألسِنةَ المائلَةَ عنه.
وقد عبَّر الشاطبيُّ -رحمه الله- عن هذا المعنى بقوله: "إن الشريعةَ عربيةٌّ، وإذا كانت عربيَّةً فلا يفهمُها حقَّ الفهمِ إلا من فهِمَ اللغةَ العربيَّةَ حقَّ الفهمِ، فإذا فرضنا مُبتدِئًا في فهم العربية فهو مُبتدِئٌ في فهم الشريعة، أو متوسِّطًا فهو متوسِّطٌ في فهم الشريعة، فإن انتهى إلى درجة الغايةِ في العربية كان كذلك في الشريعة".
ومع كلِّ التحديات والمُتغيِّرات فإن اللغةَ العربيةَ محفوظةٌ بحفظِ الله تعالى لكتابه العزيز: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وإن تراكَمَت عليها العُكابات، وتكاثَرَت عليها السِّهامُ الحاسِرات، وظنُّوها عِظامًا نخِرات، وأيقَنوا فيها البِلَى والممات، وظلَّت طويلاً غريبةَ النفس واليدِ واللسانِ في مرابِعها؛ فإنها قامَت وستقومُ فتِيَّةً قويَّة، شامِخةً عفِيَّة، مُشمَخِرَّةً حفِيَّة، وشمَّرت عن ساقِها، وجلَّلَت نورًا على أرواقِها، وألجَمَت أفواهَ عِداتها
يا فِتيةَ الضادِ! حان الوقتُ فاطَّرِحوا هذا الوَنَى وانهَضوا فالناسُ قد طارُوا
سِيــــروا علــــــــى نهجِ آباءٍ لكم سلَفوا فإنَّـهم فـي طريق المـجدِ قد سَـــــــارُوا
وإن العــــزمَ لا تثنِــــــــــيــــــــــهِ عـــــــادِيـــــــــــةٌ عـــن المُضِيِّ ولا يُطفِيـــــــه إعصــــــــــارُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق