السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2013-05-05

عندما تفقد الطّفولة روحها



كلّ صباح يتزاحم الأولياء لاسيما الأمهات وهم يقودون أطفالهم التّلاميذ إلى المدارس. فلم يعد بالإمكان في هذه الأيام رؤية تلميذ يتأبط محفظته قاصدا المدرسة أو عائدا منها بمفرده إلا نادرا. ولا يمكن مشاهدة التّلاميذ يلعبون أمام باب المدرسة أو في الأزقة كما كانوا سابقا.. فلا صيحات ولا قهقهات بريئة ولا ركض أجساد غضة تزين شوارعنا.. وعليه فالصّورة تشي بأنّ ثمّة ما يهدد اطمئنان هذه الزّهور. وتكون سلسلة قصص اختطاف الأطفال الموجعة التي نقلتها مختلف وسائل الإعلام الوطنية أحد أهم الأسباب التي لوّنت سماء الآباء والأمهات بالخوف والحقد تجاه هؤلاء المجرمين الذين دوّنوا تفاصيل هذه البشاعة التي اختارت البراءة لتفترسها.

الطّريق إلى المدرسة لم تعد آمنة
عندما نقرر فتح باب الذّكريات، ذلك الظّل الذي يعود كلما استدعيناه ونرغب في الإنطلاق من طفولتنا من أجل مقارنتها بطفولة اليوم تستفزّنا هذه المرحلة العمرية التي فقدت روحها. فأنا مازلت أذكر كلّ شارع سرت فيه بأمان مع أصدقاء الطّفولة وزملائي بالمدرسة. وأذكر جيدا الدّكاكين التي كنا نشتري منها الحلويات والمثلّجات بمفردنا ساعة خروجنا من المدرسة. وعند العودة إلى البيت أجد أمي تنتظرني وإخوتي وقد حضّرت لنا طعاما شهيا... تقبّلنا وتحضن الصّغير فينا. وما زلت أيضا استرجع شريط مختلف الألعاب التي كنا نلعبها سرورا ومرحا أمام باب المدرسة قبل أن يدق الجرس كالمريلة والزربوط...الخ 
اليوم لا ينبعث من فصول هذه الصّورة أيّ شيء سوى طفل تلميذ يتأبط يد أمه أو أبيه وهو ذاهب أو راجع من المدرسة وإن كانت الأم عاملة فإن المربية هي من تستقبله عند الخروج. كما لا تُعطى له فرصة حمل محفظته لأسباب متعددة فقد يكون وحيد والديه أو بسبب الوزن الثقل للمحافظ...!  وتستقبل الأمهات أبناءهن عند خروجهم من أقسام الدراسة بملامح الحذر وقطع البيتزا أو الكاشير والجبن مع الخبز...الخ 
وبالنسبة لـ"زهرة" فإنّها لم تعد تثق في الطّريق المؤدي إلى المدرسة مخافة أن يختطف ابنها الوحيد فهاجس الإختطاف أخذ يطاردها ليل نهار. أما جارتها "وسيلة" فصرّحت لنا: "قبل اليوم لم أكن أشعر بالخوف وكان أبنائي يذهبون إلى المدرسة بمفردهم ولكن جرائم الإختطاف طاردت سكينتنا وأطفأت شعلة الأمل في دواخلنا. ولم نعد نثق في أحد حتى في أقرب النّاس إلى قلوبنا. لذلك أفضل أن أرافق بنفسي أولادي، حتى ولو كان ذلك على حساب شغل البيت وراحتي". 
ويأتي صوت "سولاف"، وهي أم لثلاثة أولاد، حزينا معبرا عن أسفها الشّديد للوضع الذي هزّ ضلوع المجتمع الجزائري، وعن القصص المريعة التي عاشت أحداثها المؤلمة بعض الأسر نتيجة لاختطاف ابنائها وارتكاب أبشع جريمة إنسانية القتل العمدي في حق الناشئة، وأخبرتنا أنّها فضلت أن تقدم استقالتها من العمل من أجل التّفرغ لحماية طفليها. 
من جهتها، التزمت شريحة الآباء البقارة (الأغنياء) بإلحاق أبنائهم بمدارس خاصة، على اعتباره الحل الأمثل للمحافظة على حياة الطّفل ومستقبله الدّراسي. وفي هذا الصّدد تقول "مليكة" وهي أم لبنتين أنها فضلّت إرسالهما إلى مدرسة خاصة قصد التّحصيل العلمي الجيدّ دون اللّجوء إلى الدّروس الخصوصية، فضلا على أن خطر الاختطاف الذي طفا مؤخرا استهدف أطفالا من المدارس. كما وضّحت إحدى السيّدات أنّ بالها يبقى مرتاحا طيلة اليوم، مادام أن ابنها لن يخرج إلى أي مكان وسيظل بين أسوار المدرسة التي يدرس فيها حتى ساعة حضور والديه مساء. 
وكلّما دق جرس الخروج يفاجئك عدد أولياء الأمور الذين يلتفون حول أبواب المدارس كشموع تحترق في صمت، وقد زادت حدة حواسهم لا سيما عيونهم التي أصبحت تشبه عيون النّسر المنشغلة بحراسة  فلذات أكبادهم. 

"الزّنقة".. ظلام مخيف
بعد أن كانت أوّل كلمة يتعلّمها طفل البارحة هي "الزّنقة" أضحت هذه الكلمة لا تعبّر إلاّ عن الظّلام المخيف.. لتحرم الطّفل من الجري لهثا وراء كرة قدم الشّوارع أو التّسابق بالدّراجات أو اللّعب أية لعبة أخرى لتمضية الوقت، واعتقل سكون اللّيل ساعات نهار الزّقاق التي هجرتها صيحات وهرج ومرج الأطفال حتى أيام العطل..! واستسلمت مختلف الأحياء للهدوء إلاّ من بعض المارة والسّيارات التي تخرج لقضاء الحاجات أو تجمعات بعض الشّبان المنشغلين بالدّردشات أو لعب الدومينو قتلا للملل 
ولم يكن من السّهل لخديجة أن تُنسي أبناءها الخمسة الزّنقة وتحبس طاقاتهم الجسدية في حجرتين بباب الواد وقد عبّرت لنا بعينين ناعستين قائلة:"لن أخاطر بحياة أبنائي ولن أسمح لهم بالخروج إلى غابة وحوشها التي لا ترحم حتى الصّغار، رغم أنّني أتحمّل كلّ أنواع المشاغبات والعراك طيلة النّهار"، تتكرر نفس الرؤية كلّما اقتربنا من امرأة نسألها، فلا واحدة ترغب في خروج طفلها لا لذنب سوى أنه زهرة يُنتظر اقتلاعها بشراسة. بل اخترق الهلع قلوب الشباب المتزوج حديثا أيضا وهو ما كشفه لنا "علي" بابتسامة محبطة تتراءى من خلال تقاسيمها أحلام مجهضة بمرارة الواقع قائلا:" "تكاد تخنق قسوة الزّنقة كواقع مؤلم ووحش تتسابق سيوفه لتقطيع لحم الأجساد الغضة حلم أن يكون لديك ولد".
في المقابل استعانت الأسر الجزائرية بوسائل الإعلام، منها القنوات الفضائية الكارتونية ومختلف التّكنولوجيات كالأقراص المضغوطة والأنترنت والألعاب الإليكترونية لتعوّض الطّفل عن فضاء الزّنقة الذّي يتطلّب الحضور الفعلي واللّمس والقفز بحرية وكأنّ الخطر لن يتسلل عبر شاشات هذه الوسائل..!
فهكذا هي الحياة في أغلب أحيائنا وشوارعنا وبالقرب من مدارسنا، تشرق الشّمس وتغرب على أطفال يحملون حلم اللّعب والسّير في "زنقة" آمنة ومساءات مساحات تحوي طاقاتهم وصراخا تهم. 

الإعدام للمجرمين عقاب غير كاف.. !
وبدت الآراء متطابقة متجرعة للألم، ملّونة بعتمة الخوف من انفلات أحد الصّغار من بين الأحضان، وكان من الصّعب تهدئة وتحرير هذه النّفوس الحائرة الخائفة على أطفالها وحتى على نفوسها من المجتمع وتطوّراته الخطيرة. وقد عبّر لنا في هذا الصّدد "عمر" بصراحة: "إنّنا نحمل حقدا رهيبا تجاه هؤلاء المجرمين والغضب يغلي في العروق. وأعتقد أن الإعدام غير كاف في حقهم ولا يشفي غليلنا لأنّهم وحوش بلا أحاسيس ولا تستحق مجرد الموت كبقية البشر". وعندما استعاد وجهه هدوءه أضاف: "من الواجب حماية الصّغار فلا ذنب لهم ليُقتلوا بهذه الصّور البشعة".
ولم يكن "عمر" أبدا أكثر غضبا من "سليم" وهو الآخر أب لأربعة أطفال ويشعر بالإحباط عندما يتذكر أمر الاختطاف، وأخبرنا أنه لو سنحت له فرصة لقاء أحد هؤلاء المجرمين سيقتله بيده شر قتلة. من جهته وضّح "سيد أحمد" أنّ قتلة الأطفال:"يستحقون أبشع أنواع العذاب ثم الاعدام حتى يكونوا عبرة ودرسا قاسيا لغيرهم ممن يفكرون في ارتكاب نفس الجريمة". 
وحين التقينا بـ"سعيد" أمام باب مدرسة "بحسين داي" أخبرنا أنه تلقى اتصالا ذات يوم من مجهول يقول فيه بأنه سيقتل إبنه "رامي" ذو الثانية عشرة من عمره. طأطأ "صالح" رأسه حسرة واستجمع أنفاسه ثمّ واصل حديثه" لقد بقيت ساعة سماع ذلك الصّوت والكلمات مدة بلا حراك. واعتقدت للحظات أنني كنت أتوهّم، ثمّ سرعان ما انتبهت أن سنوات عمري تتسرب مني، فأسرعت كالبرق إلى المدرسة لأتأكد من وجود إبني في القسم أو أنّه على قيد الحياة. وبعدها اتصلت بالشرطة، ومنذ ذلك اليوم لم يعد بالإمكان تركه يبتعد عن أنظارنا". ويبقى البيت الحل الأولي والأفضل الذي اختاره الأولياء في ظل غياب المساحات والفضاءات الآمنة المخصصة لجري الطّفل ولعبه حتى لا يندثر عماد المستقبل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق