السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2012-10-27

عيد بأية حال عدت..


عيد بأية حال عدت ..
عيد الأضحى
محمد البشير الإبراهيمي (ت1373هـ -1954م)
نشر عام 1947م  
يا عيد.. بأية حال عدت، وبأي نوال جدت.. لهذه الأمم التي تتشوف إلى هلالك، وتتطلع إلى إقبالك، وتنتظر منك ما ينتظره المدلج من تباشير الصبح؟!
بأية حال عدت إلى هذه الأمم التي تألبت عليها الأيام، واصطلحت مع الليالي، فلا تأتيها هذه إلا سوداء حالكة بالظلمات، ولا تُمرُّ عليها تلك إلا قاتمة متدجَّية بالظلم.

إنَّ هذه الأمم التي تدين بتعظيمك، وتتيمن بورودك، وتقيم شعائر الله في يومك، تتلمح فيك اليمن والرباح، وتجتلي في غرتك اليسر والسماح، وتتنسم في حلولك السعادة والهناء، وتتوسم في هلالك الخير والبركة.
إنَّ هذه الأمم كادت تسأم من أسماء الأيام، وتتبرم بالجمع والسبوت والآحاد؛ لفرط ما تعاقبت عليها بالضرِّ والشرِّ، وهي تترقب يومًا يُعرف بوسمه، لا باسمه، ويُتعرَّف بآثاره، كما يتعرف الربيع باخضراره، وأنت ذلك اليوم، وأنها كانت تستطيل الليل، وتقطعه في الترقب للنهار الذي يتبلج صبحه بالضياء والإشراق، وتسطع شمسه بالنور والحرارة، ويفيض ضحاه بالحركة والنشاط، فأصبحت تستطيل النهار لإقباله عليها بالهمِّ والغمِّ، وإدباره عنها بالعنت والرهق، وتطمئنُّ إلى الليل بما فيه من ظلمات، فرارًا من النهار؛ لما فيه من ظلم، ومن لها بليل لا صباح له؟!

فيك – أيها العيد – يستروح الأشقياء ريح السعادة، وفيك يتنفس المختنقون في جوٍّ من السعة، وفيك يذوق المعدمون طيبات الرزق، ويتنعم الواجدون بأطايبه، وفيك تسلس النفوس الجامحة قيادها إلى الخير، وفيك تهشُّ النفوس الكزة إلى الإحسان، فلا تلم البائسين- وقد عودتهم هذا- أن يسألوك المزيد، فيطلب الخائفون أن تشرق عليهم شمسك بالأمان، ويرجو المظلومون أن يطلع عليهم يومك بالانتصاف، ويتمنى المستعبدون أن يتجلى لهم ليلك عن الحرية والسيادة.

إن تفاخرت الأيام ذوات الشِّيات والمياسم، والمواكب والمواسم، فيومك الأغرُّ المشهَّر، وإن أتت الأيام بمن له فيها ذكر من الرجال، أو بمن شرفها بنسبة من الأبطال، جئت بإبراهيم، وإبراهيم آدم النبوة، بعد آدم الأبوة، وبإسماعيل، وإسماعيل سامك البنية القوراء، وعامر الحنية القفراء، ورمز التضحية والفداء، وناسل العديد الطيب من النجيبات والنجباء، وبمحمد، ومحمد لبنة التمام، ومسك الختام، ورسول السلام، وكفى.. وإن جاءت الأيام بما أثر فيها من رموز، ونُثر باسمها من كنوز، جئت بالشعائر المأثورة، والنذر المنذورة، وجئت بالهدي يتهادى، والبُدن تتعادى، وجئت بالفدية والكفارة، والتجرد والطهارة، وجئت بالأضحية والقربان، رموز طواها الإسلام في الشعائر المضافة إليك، ووكل لتصاريف الزمان شرحها، وقد شرحت وأوضحت، وأين من يعقل أو من يعي؟!....

يا عيد بأية حالة عدت؟....وهذا العالم كله مسير إلى غاية مشؤومة، متوقع لضربة قاضية، تُنسي الماضية، وهو يستنزل الغيث من غير مصبه، ويستروح ريح الرحمة من غير مهبه، ويتعلل بالعلالات الواهية، من جمعية لم تجمع متفرقًا من هوى، ولم تزجر عاديًا عن عدوان، إلى مجلس أمن لم يؤمِّن خائفًا، ولم ينصر مظلومًا، وإنما هو كرة بين لاعبين، أحدهما يستهوي بالفكرة، والآخر يستغوي بالمال، وويل للعالم إذا نفد النفاق، واصطدمت قوة الفكر بقوة الذهب.

أما والله لو ملكتَ النطق يا عيد، لأقسمت بما عظَّم الله من حرماتك، وبما كانت تقسم به العرب من الدماء المراقة في أيامك ومناسكك، ولقُلتَ لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: يا قوم: ما أخلف العيد، وما أخلفت من ربكم المواعيد، ولكنكم أخلفتم، وأسلفتم الشر، فجُزيتم بما أسلفتم، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55].
فلو أنكم آمنتم بالله حقَّ الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض، ولكنكم تنازعتم ففشلتم وذهبت ريحكم، وما ظلمكم الله ولكن ظلمتم أنفسكم.
أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم. لا تظنوا أنَّ الدعاء وحده يردُّ الاعتداء، إنَّ مادة دعا يدعو، لا تنسخ مادة عدا يعدو، وإنما ينسخها أعدَّ يعدُّ، واستعدَّ يستعدُّ، فأعدوا واستعدوا تزدهر أعيادكم وتظهر أمجادكم.

------------------------

اختيار: موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي)، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م، (4/467) - بتصرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق