السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2012-11-09

الأمّ _ وراء _ النّافذة



أليس غريبا أن تزورني سعاد في وقت أحتاج فيه لأحد ينفضّ عني غبار القلق .... وبعضا من الحزن المنثور ....هذه المرّة جاءتني مبتسمة ، وكأنّها تقول لي .... " استرجعي طفولتك وافعلي مثلي ولا تفكّري في أيّ شيئ " وقفت قربي تحمل كرّاسة مهملة .... عليها تمرين بسيط طلبت منّي أن أساعدها في حلّه ..... الغريب أنّ التمرين فيه جمل كثيرة استوقفتني كثيرا ... كلّ جملة تتحدّث عن فرد من العائلة .... والغريب أنّ  دور الأب كان غائبا تماما .... وكأنّ هذه الجمل كلّها تلخّص حياة سعاد بحكم أن والدها غير موجود أصلا،  ولا تعرف عنه أيّ شيئ .... الجملة الأولى من التمرين تقول  وراء _ الأم _ النافذة .... كان من السّهل جدا عليها أن ترتّب الجملة فقلت لها : ما الترتيب الصحيح للجملة فقالت " الام وراء النافذة . كرّرت الجملة مرارا وحفظتها ، وانتقلنا الى جمل أخرى مماثلة كرضا أمام باب المدرسة ... الجدة قدّام المنزل  ... والجدّ لا يذهب الى المدرسة ..... فرحت جدا لانها ردّدت الجمل امامي بشكل صحيح أعطيتها قطعة حلوى وقبّلتها وقلت لها لا تنسي  شيئا من الدرس الذي حللناه معا .... قاطعتنا والدتها بحكم وقت المدرسة ..... وحين خرجت سعاد سألتها عن وضعها وحالتها الصحيّة .... فنظرت اليّ نظرة الأمّ المهزومة التي لا تكتب المدارس عنها ..... ولا عن دور بعض الآباء عديمي المسؤولية .... فكلّ ما تخطّه الكتب والصور المدرسية .... لا يعبّر دائما عن أغلب حالات الحرمان التي يعيشها معظم الاطفال .... فكيف ستكون ردّة فعل الطفل الذي لا أب له ، أو الذي لا أمّ له ، أو الذي لا يعرف أصلا معنى عائلة بأن يحفظأو يرتّب  جملة تقول " ذهب الأب والام في نزهة الى الحديقة مع الأولاد "..... كيف ستكون ردّة فعل سعاد التي لا تعرف شيئا عن هذه المشاعر ..... حتّى عقلها وذاكرتها الضعيفة تقف ضدّها وتتعبها جدا لادراك الحقائق وحفظها ...... أخبرتني والدتها أن مدير المدرسة أعادها في الصفّ الأول بحكم مرضها وعدم استيعابها للبرنامج الدراسي .... لكن ما أخبرتني به أثار دهشتي الكبيرة .... وزادني ألما .... تتابع الأم بحسرة عميقة  تبدأها بآهات وتنهيدات متوالية عن الوضع الذي تعيشه ابنتها داخل المدرسة .... سعاد الطفلة التي يقف كلّ شيئ ضدّها  ...  تعامل معاملة خاصة جدا بحيث  تجلس وحدها في آخر الصفّ .... ولا تتوفّر لها جميع الكتب ... هذا التهميش وهذه المعاملة السيّئة التي تحظى بها كم ستعيدها الى الوراء ، كم ستفتح في قلبها الصغير أسئلة لا أجوبة لها .... توقّفت كثيراعند هذه النقطة واسترجعت بعضا من طفولتي ... لا أدري كيف استحضر عقلي جوانبا من حياتي في المدرسة ... وكأنّي صرت سعاد .... كم سعاد مضت .... وكم سعاد كبرت ، و تخطّت بعضا من مشاكلها الصّغيرة ... وكم من سعاد ظلّت سعاد .....  تصرّفات مدير، ومعلّمة  تجاه هذه الطفلة بهذه الطريقة القاسية الخالية من المشاعر النبيلة والانسانية .... كم ستزيد من حالة سعاد سوء ، وكم ستعمّق من جرحها  .... حتى أقرانها يعاملونها معاملة سيّئة جدا ..... ناهيك عن الألفاظ القاسية التي تسمعها كلّ يوم من زملائها في القسم .... فالصّغار دائما يتبعون ويحفظون جيدا الدروس التي يقدّمها الكبار في مدرسة الحياة ......  طبيبتها المشرفة على علاجها تقول بأنّ سعاد بحاجة ماسّة للاندماج الاجتماعي وتوفير جوّ طبيعي لتتحسّن ... فأين للأمّ بهذا العلاج ولا احد يساعدها .......
أحيانا يفقد البشر جوانبهم الانسانية ، فتصبح جميع أفكارهم آلية مبنية على المادة فقط .... فيسقط عرش الحسّ بداخلهم ، وتنمو طفيليات الجشع والطمع في عقولهم .... إذ من غير المعقول أبدا أن تساهم بشكل كبير في تعميق هوّة النسيان في عقل الطفلة فتتضاعف مشاكلها النفسية والمرضية ، وتحرم من حقوقها الطبيعية فقط لانّ عقلها المصاب بالنسيان يشكّل عائقا ومشكلة كبيرة ... لابدّ من عزلها وحصرها حتّى لا تعرقل حركة التعليم .... ودورة الحياة التي يعيشها كلّ الأطفال 
قلّبت مواجعي هذه الطفلة كثيرا ...  على غير عادة المرّات السابقة ... أحسست هذه المرّة ببرودة يديها أكثر  وبقصرقامة أحلامها  التي لم تعد احلاما بقدر ما أصبحت حقوقا مهدورة ..... أغلقت مباشرة النافذة التي نجلس دائما تحتها لانها أشعرتني ببرد شديد تسرّب الى عقلي  وكأنّه يقتلع مدن الامل بداخلي .... بذهاب سعاد صرت أكثر حزنا  .... أبحث هنا وهناك عن شيئ يدثّرني  .......... ويسكّن ألم التفكير ...لأنّها عمّقت جرحي اكثر هذه المرّة ..... خصوصا أنّ النور  تأخّر في كسر صمت النّوافذ  التي تسكنني ... لكنّي لم  اجد شيئا غير صوت الزّجاج .....
                              بقلم خديجة ادريس

هناك تعليقان (2):

  1. جميل جدا ما خطته أناملك النقية اختي خديجة ...طرح جميل ..مشكورة

    ردحذف
  2. الجميل حقّا هو مرورك الأبهى على حوافّ كلماتي كفاشة تقطر عسلا .... شكرا على كلماتك المحفّزة جدّا لقلمي المتواضع .... ألف تحية

    ردحذف