موت الحب بنوبة جهل حادة ..!؟
.. كان بمثابة طفل جميل ، منعّم .. جميل القسمات ، يتهادي كمهرة هيفاء في براري الجمال على سندس ساحر براق .. وجهه يشع بالبراءة و الهدوء .. ابتسامته وردية ، فيها نضارة عفوية ، يتحرى الصدق ، و يتجنب الكذب و هو في غاية الصراحة و الوضوح .. وجدانه يمتليء شوقا و حنينا .. و حروف كلماته مقطوفة من إصيص الورد البلدي بكامل عطره حين تتصاعد انفاسه عند الاصيل ، و القلوب الظامئة تتشبع به حتى تكون نشوة الاحساس غامرة و تفيض على جنبات المشاعر الرطيبة ..
.. انه الحب ! يقضي نهاره في انتظار الحبيبة عند ناصية الشمس المشرقة و هي تلوح بمناديلها الذهبية و نظراتها المستحية و اغماضتها الخجولة .. يبيت ليله في سهر طويل عند شباك القمر حين يرمي بغلالته البراقة على الجدران و المخدات .. يغمس قلمه بحبر الاشواق المتلظية و يسطر الحروف الدامعة الملهوفة و هي تتدلى على قماش الورق الزاهي كانها ثريات فاضت بنورها البهي .. حروف كانها مشكاة في مصباح يوقد من شريان صاخب بالجمر في موقد القلب النابض الى ما لا نهاية ..!!
.. كان الحب في ما مضى جميلا جدا ..! يتصف بالرومانسبة و هو يستمع الى اغان الوجد المعتقة بحروفها المنغومة على وتر نقع طويلا في كؤوس الطلى قبل التراقص .. حتى صار مذاقه حلوا رقراقا ينساب في العروق الظامئة ..
.. كان يتمتع بذوق شديد الرهافة ، و لا يعجبه القول السخيف ، ينتقي كلماته بعناية فائقة .. يتمايل طربا على وقع الكلمات المجبولة برحيق عسل المودة وقد شربت من عرق الشاعر و اكلت من جبينه حتى استقامت و نضجت و نزلت تتمايل في عميق الوجد الخصيب ..!
.. كان ينصهر حين تقع في اسماعه كلمة " احبك " و هي تسيل عن شفاه انتثى مترددة ، ناعمة ، حالمة ، كانها مغلفة بقطن المودة الصادقة .. يجلس على مقاعد الحديقة المعشوشبة ، يثرثر عن الورد و المطر و القهوة و فساتين الطبيعة الموشاة بالعصافير الغريدة و القمر يلبس ازاره الابيض و يدفع بتحاياه اللؤلؤية على جو المكان و من حوله نجوم الليل الساهرة و هي تهز خصورها النحيلة و تموج بضيائها الساطع ..!!
.. كان الحب يقتات على قبلة خجولة تطبعها شفاهه الظامئة على خد القرنفل و هو يتقلب في استحياء مثير .. يعتاش على مذاقها شهورا طويلة قبل ان يعتصر اصابع الياسمين الدافئة ، و الدماء تسري الى القلب ساخنة في دثارها المرصع بالجمر المتوهج ..!!
.. كان الحب يغفو عند نافذة الحبيبة شاكيا حرقة الهجر ، خاشعا يستمع الى همساتها و وشوشاتها و هي تتبدد في حناياه بقشعريرة لذيذة غاية في الدفيء ..
.. كان الحب حسن الخلق ، صادق الوعد وفيا .. لا يعرف المكر و النفاق ، يتمتع بنوايا حسنة ، و لا يفتح ابوابه لرياح النسيان . و اذا ما انتابه الفراق يوما ، تبقى جروحه نازفة ، مفتوحة على مر الزمن ، ولا تندمل سريعا و يظل فيها بقايا امل و كثير وفاء ..!!
.. في زماننا هذا ! خرج الحب في سفر بعيد ، طالت غربته ، و حين فقدناه عاد الينا متبرجا ، وقح النظرات وقد فقد مروئته ، و عذريته ، و جف كبرياؤه ، و ضعفت ارادته و جفت شرايين قلبه ، و انطفأ جمر موقده ، انه سيء المعشر ، رث العواطف وقد اهترئت خيوط مشاعره ، و بدا كثعلب ماكر يعيث فسادا في كروم العنب .. يعتصر نبيذها حتى الثمالة ثم يهرول مسرعا بأنانية مقيته ، ينقلب على عقبيه و معه فيضا من حقارة و سوء خلق ..
.. أصبح الحب خبيث النوايا .. يستدرج الورد في ريعان صباه ، يستنشق عبيره ثم يقطفه و يرميه الى الذبول .. لم يعد خجولا ، ولا حياء عنده .. يحاول إشباع غرائزه و عطش شهوته .. يقضي حاجته ثم يلملم اشياؤه على عجل و يولي الدبر ..
.. الحب لا يتمتع بسمعة طيبة .. منافق ، فلا عهد ولا وعد له .. يقضي جل وقته في الحانات و الملاهي الليلية وهو ينادم الغانيات ، و يشرب بكل فحش حتى الجنون .. يتقلب على فراش الرذيلة و يصحو متأخرا ، وقد ذبلت عيناه و احمرّت و انتفخت جفونه و تيبست أطرافه و هو يتمطى في كسل و خمول ..!!
.. كلمة " أحبك " اصبحت مبعثا للسخرية ، تكلست ..وصارت عصية على الذوبان في العروق .. فقدت قدرتها على تسخين الدماء و تحريك نبضات القلب .. و هي تسقط عن أغصان الشوق كورقة صفراء ذابلة تحملها الرياح الى مكان بعيد .. لم تعد تطيل السهر و الوقوف طويلا على شبابيك الانتظار الحرور .. لم تعد تصيب بالحمى و لا تسبب القشعريرة المعتادة ..
.. الحب اصبح خائبا و خائنا و لا يؤتمن جانبه ، و عقله و افكاره مشوبة بالوساوس و الاوهام ، و للشيطان في راسه مقعدا ، يحمله على ارتكاب المعاصي و الاثام ..
.. الحب اصبح لا يجيد كلام الغزل العذري .. يجهل المفردات الجميلة المنمقة ، و يشنف اذنيه لسماع الالحان الناشزة الصارخة و الكلمات الماجنة و يتمايل على وقعها دونما مشاعر ، خالعا وقار الرجولة و هيبة الحضور ، فاقدا ماء وجهه !!!
الحب اصبح وقحا يلعب على حبال الخديعة و الغدر كبهلوان في حلبة سيرك ، ينصب الفخاخ للعصافير و لا يتوق البقاء معها طويلا .. ينسحب و قد حمل اوزاره بعدما دنس فيها البراءة و خرب بذنوبه وجه القمر ..!؟ اصبح جهولا و عاصيا ، منقطعا عن ارتياد معابد الاخلاص او المكوث في صومعة العشق .. ، عجولا ، لا يتعذب كثيرا في خدش بكارة الياسمين .. يهرب من مواجهة الحقيقة ، و يعادي الجلوس على مقاعد الشمس في وضح النهار ، و يختبيء في معطف الليل البهيم لاصطياد فراشات الحديقة و هي تحوم بكامل عذريتها حول الضوء الكثيف ..!!
.. أصبح الحب طماعا و يلهث خلف زخرف العيش و يبيت في حقائب السمسونايت مكدسا بين رزم الدولارات ، و لا يجيد كلمة واحدة من أبجديات الحب .. يدخن الحشيش و يتناول المنشطات ، و يأكل الكافيار ، و يشرب الويسكي و الفودكا ، و يصبغ شعره ، و ينام على سرر من سندس و استبرق ، و يمشي على السجاد العجمي ، و يلبس قمصان حريرية و باصبعه خاتم مرصع بالماس ..!!!
.. لقد خبت جمرات الحب الدافئة و غصت مواقد القلب بالثلوج القاسية ..
.. نعم لقد مات الحب عن عمر يناهز الثمانين عاما بنوبة جهل حادة و هو يسعى لتطويق خصر فتاه لم تبلغ بعد سن الرشد ..!؟؟
قد يكون في نزاع لكنه لم يمت ولن يموت .. لأنه ما زال يوجد جزء من الماضي في وقتنا الحاضر
ردحذفاحساس مرهف -----روعة
ردحذفهذا أروع ما قرأته منذ مدة طويلة جدا ...اتمنى لو اكتب نصا مثله ....
ردحذفربما في زمننا هذا انخدع البعض وانصدم البعض الاخر ربما ربما وربما ولكن يجب الا نعمم استاذنا الفاضل والا نجعل نظرتنا ال الحب سلبية فما يزال هناك الحب الحقيقي
ردحذفالحب... اظن انه صار ترياقا لا يوجد الا في الجبال العالية الشاهقة حيث لم تمسه يد بشر ... هناك في احد المغاور هو يتعبد ... ينسجون حوله الاساطير و الحكايات ... تلك الحكايات التي تملأ رؤوس المراهقات و المراهقين الذين سرعان مايتقمصون دور الحبيب في لهفة زائفة ...
ردحذفموت فجائي بقلم مميز جدا لكن الا يجدر بحبر القلم ان يكتب عن حب يتمسك بالحياة ؟؟؟ وان يبحث جيدا حوله عن يد تمسك به ليخطا معا اجمل الكلمات
ردحذف