السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

آخر أخبار قناة العربية

آخر موضوعات المدونة

2011-11-30

صناعة‭ ‬الكلمة


صناعة‭ ‬الكلمة



إن من البيان لسحراً يخلب الألباب، ويلوّن الأمزجة، ويغيّر الصور والأحداث والأشياء والمواقف. وإن من الخطابة لسحراً يشجع الجبان، ويرد الجامح، ويعزي المصاب، ويسخّي البخيل، ويقدم الهيّاب.
  • وسحر الخطابة في سموها.. في عمقها.. في تأثيرها.. في معانيها.. في عواطفها.
    وسحر الخطابة في إلقائها، وجاذبيتها، وحلاوتها، وطلاوتها، واللسان الذلق يصنع الأعاجيب، وينتج الأحداث، ويرسم الوقائع.
    قالوا: أرسل (جورج واشنطن) ـ أول رئيس لأمريكا ـ رجلاً واحداً إلى (تكساس)، تلكم الولاية التي تمردت عليه، واستعصت على الفتح، هذا الرجل هو (هوستن) الذي سمت باسمه المدينة هناك، أرسله وحده بلا جيش وإنما كان معه لسان ذلق فصيح هدّار خلاّب فدخل هذه الولاية فقيراً مملقاً وجلس في مكتب محاماة يأتيه المظلوم فيخرجه ظالماً، والظالم مظلوماً، والسارق بريئاً، والبريء سارقاً، فاستحوذ على الناس إلا القليل حتى ضُمت هذه الولاية به إلى بقية الولايات.
    وكان الأحنف بن قيس هزيلاً نحيفاً ضعيفاً تحتقره العين، وينبو عنه الطرف، فإذا تكلم خطف الأضواء، وجلب الأبصار، واستنصت الأسماع، وملَكَ القلوب، وهذه هي البلاغة.
    كان بعض الخطباء كالعاصفة الهوجاء، إذا اندفع في الحديث يغضب ويثور، وينفعل ويمور ولسان حاله يقول: لا مساس، فتراه يفلق هام البيان بسيف الفصاحة البتار، ويقطع حبال الشكوك بمهند الحجة الصارم، فهو وحده رجل الموقف، وأستاذ الحدث، وسلطان المقام.
    الخطابة هي جرأة صادقة، وإقدام فظيع، لا يعرف النكوص والالتواء، ومواجهة للجماهير من غير هيبة، ولا وجوم، ولا خجل.
    والخطابة تحضير مسبق لما يُراد أن يُقال، وامتلاء الذهن بأطراف الموضوع، ورصد تام لحديث المقام، حينها يدلف الخطيب وهو واثق من نفسه تمام الثقة، متماسك القوى، قوي الإرادة لأنه قد أحرز مادته، وخمّر أفكاره، واستعد للمواجهة، ولبس للخطابة لأمة النزال.
    إن أول فشل الخطيب أن لا يُزَوِّر كلاماً في صدره، ولا يهيئ أفكاراً في خاطره، وربما ظن أن وقوفه أمام الناس كفيل بإثراء ذهنه بالمعلومات، وملء عقله بالأفكار، وهذه ليس بصحيح (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة).
    والخطيب القدير يعيش الخطبة بقلبه وجوانحه وعواطفه، فهو يتكلم للناس لكن بعروق دمه، وشرايينه، وحشاياه، يتحدث عن الألم وهو أول المتألمين، يتوجع لما حدث؛ لا بلسانه بل بجنانه، فيظهر ذلك في خلجات صورته، وقسمات وجهه، ونبرات صوته، ولفتاته، وإشارته، ويتكلم عن البشرى فإذا هو سعيد بما حدث جذلان بما صار يسعد الناس بما يحمله هو في نفسه وخفاياه.
    والخطيب المصقع موسوعة علمية لا يضايقه الحديث عن أي جانب، بل هو كالسيل، كلما وجد فراغاً ملأه، وكلما صادف مكاناً مخفضاً أفرغ فيه جموحه، يطالع كثيراً، ويتدبر كثيراً، يسبك العبارات، فيجعل الخطبة كهيكل الذهب، متناسقة، متقاربة، لا نشاز فيها، ولا التواء.
    والخطيب يحتاج إلى تدريب سابق، ومران كثير، ولا يكفيه أن يطالع صفات الخطيب، وأن يقرأ سمات الخطابة، بل يعيشها هو بنفسه مزاولة ودربة ومراناً كالسباحة تماماً، فإن مجلداً ضخماً في طريقه السباحة لا ينفع شيئاً ما لم يتوجه الإنسان إلى النهر ليغمس نفسه فيه ممثلاً ما قرأ وما علم.
بقلم أ د عائض القرني 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق