صندوق النقد الدولي.. هل انتهت مهمّته؟
صندوق النقد الدولي.. هل انتهت مهمّته؟
العدد: 103 التاريخ: 14/10/2011
قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، اجتمع كلّ من الأميركي هاردي دكستر، والبريطاني ماينارد كاينز؛ وهما مفوّضان رسميان كبيران من حكومة كلّ من بلديهما، للنظر في استحداث مؤسّسة مالية عابرة للدول، مهمتها المساعدة على بناء اقتصاد عالمي ناجح، من شأنه أن يجنّب العالم الكوارث المالية والاقتصادية المؤدّية بدورها لقيام النزاعات والحروب المفتوحة بين الدول.
اجتمع الخبيران الماليان الدوليان المذكوران مطوّلاً، وهما يدرسان هذا الشأن الاقتصادي الحيوي، وتوصّلا في النتيجة إلى صيغة نهائية في مؤتمر "برتون وودز" في ولاية نيوهامشير الأميركية صيف العام 1944، تقضي بإعلان إنشاء "صندوق النقد الدولي" وتوأمه "البنك الدولي للإعمار والإنماء".
لكن هذا الإعلان الذي وافقت عليه وقتها 44 دولة (يبلغ تعداد دول أعضاء الصندوق اليوم 187 دولة) كان خطوة أولى على طريق ولادة صندوق النقد الدولي لاحقاً، وتحديداً بتاريخ 27 ديسمبر/ كانون الأول من العام 1945. وبدأ هذا الصندوق عمله في الأول من مارس من العام 1947.
قام ويقوم صندوق النقد الدولي، ومركزه واشنطن، بتقديم أنواعٍ مختلفة من القروض وصلت قيمتها إلى 282 مليار دولار، بحسب آخر بيانات الصندوق في 18 أغسطس/ آب 2011، منها 213 مليار دولار لم تسحب بعد. وأكبر الدول المقترضة هي: اليونان، البرتغال، إيرلندا، المكسيك، بولندا، كولومبيا.
وبخصوص الموارد المالية للصندوق؛ فإن مصدرها هو اشتراكات الحصص التي تسدّدها البلدان لدى الانضمام إلى عضوية الصندوق. والولايات المتّحدة الأميركية، أكبر اقتصاد في العالم، تسهم بالنصيب الأكبر في صندوق النقد الدولي، حيث تبلغ حصّتها17,6% من إجمالي الحصص. أما دولة جزر سيشل، أصغر اقتصاد في العالم، فتسهم بحصّة مقدارها 0.004%.
الرقابة على الدول النامية
تتضمّن مجالات اختصاص صندوق النقد الدولي مراقبة التطوّرات السياسية والاقتصادية والمالية في البلدان الأعضاء، وتقديم النصح والمشورة بشأنها، خصوصاً لجهة السياسات المتعلّقة بميزان الحكومة، وإدارة النقد والائتمان، وسعر الصرف، وسياسات القطاع المالي، بما في ذلك تنظيم البنوك والمؤسّسات المالية الأخرى، والرقابة عليها .. إلخ.
ومثل هذه الرقابة الصارمة جعلت من صندوق النقد الدولي، و"توأمه" البنك الدولي، من أقوى أوراق الضغط في يد الدول الكبرى، حتى قيل إن التغيير الذي تعجز الولايات المتّحدة عن تحقيقه في سياسات بعض الدول، عن طريق الديبلوماسية أو الحرب، استطاعت أن تحقّقه عبر صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، تماماً كما حصل بينها وبين روسيا خلال حرب البلقان.. مثالاً لا حصراً.
في العام 2010 توزّعت حصص الدول الكبرى وفق الجدولة الآتية: الولايات المتّحدة: 25.21%، ألمانيا: 89.5%، فرنسا:13.5%، بريطانيا: 13.5%، اليابان: 89.5%.
فخّ القروض المنصوب
عندما يقرض الصندوق دولة من دول العالم الثالث مثلاً، فإنه يلزمها بسلسلة إجراءات صارمة. فعلى صعيد التجارة الدولية يلزم، مثلاً، صندوق النقد الدولي البلاد المعنيّة بالقروض بخفض قيمة عملتها الوطنية، وبفتح أسواق استثمارات حرّة لصرف العملات الأجنبية، وإلغاء القيود المفروضة على الصادرات والاستيراد.. علاوة على إلغاء الدعم الحكومي للسلع التموينية، التي تشكّل المعين الأساسي لعيش الفقراء ومحدودي الدخل، وإعطاء الحق المطلق للشركات في تحويل أرباحها ومستحقات العاملين فيها بالنقد الأجنبي إلى الخارج.
كما يلزم الصندوق، ومن خلفه أقوياؤه، البلدان المدينة بتقليص الإنفاق على القطاعات الخدمية كالصحة والتعليم والإسكان والضمان الاجتماعي ويطالبها بزيادة الضرائب على الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والاتصالات الهاتفية .. إلخ.
تحدّيات مهاتير محمد لصندوق النقد
يعتبر مهاتير محمد، باني نهضة ماليزيا الحديثة، الزعيم الآسيوي الوحيد الذي واجه صندوق النقد الدولي برؤية مختلفة. كان ذلك إبان الأزمة المالية التي عصفت ببلدان شرق آسيا في ما بين عامي 1977 و1998، حيث تهدّد اقتصاد دول الآسيان الصاعدة، ولا سيما منها ماليزيا وأندونيسيا وتايلند وحتى سنغافورة الغنية. ففي تلك الفترة تعرّضت العملة الماليزية (الرينغيت Ringgit) إلى مضاربات واسعة بهدف تخفيض قيمتها؛ وظهرت عمليات تحويل نقديّ واسعة إلى خارج ماليزيا، وبالأخص من طرف المستثمرين الأجانب فيها. غير أن مهاتير محمد تصدّى للأمر وقتها؛ مُصدراً سلسلة قرارات مالية أدّت إلى فرض قيودٍ ملزمة على التحويلات النقدية إلى الخارج، خصوصاً تلك الحسابات التي يملكها غير المقيمين، كما فرض أسعار صرفٍ محدّدة لبعض التعاملات المالية، في الوقت الذي اتجهت فيه معظم دول شرق آسيا الأخرى إلى سياسة تعويم عملاتها عملاً "بنصيحة" صندوق النقد الدولي؛ فأصابها الخراب ما أصاب على صعيد نموّها الاقتصادي العام جرّاء ذلك.
لكن مهاتير محمد استطاع فعلاً أن يجنّب بلده الكأس المرّة لصندوق النقد الدولي من خلال إصراره على نهجه المالي والاقتصادي، الذي أثبتت الأيام أنه كان الأنجح والأصلح لبلاده. وبفضله اجتازت ماليزيا أزمة كبرى وفخّاً اقتصادياً معقداً، كان منصوباً لها هي بالذات، كونها طليعة من طلائع النمور الآسيوية في تلك المرحلة.. وكونها أيضاً "بلداً إسلامياً نموذجياً يضاهي النمذجة الإسلامية التركية ويتفوّق عليها"، بحسب ما يقول المحلّل الاقتصادي الفرنسي جورج ديبالوا.
وتجربة مواجهة مهاتير محمد مع صندوق النقد الدولي في ماليزيا تحوّلت إلى مضرب مثل في الأغلب الأعم من الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. كما أن الجهات المتحكّمة بصندوق النقد الدولي اعترفت لرئيس الوزراء الماليزي السابق، ولو بعد سنوات، بأنه فعل الصواب، وأنه بذلك الأسلوب المناور والبارع تغلّب على الأزمة الاقتصادية في بلاده، في حين أطاحت الأزمة بالنموّ الاقتصادي لدول أخرى نفّذت نصائح صندوق النقد.
صدمة خطيرة
على ما يبدو فإن الصندوق الدولي نفسه بدأ ينتقل من سياسة الغموض النسبي إلى سياسة الوضوح المطلق في زمن الأزمات المالية في الغرب. فها هو يحذّر من شهرين في تقريره السنوي حول الاقتصاد الأميركي من أن الولايات المتّحدة تواجه صدمة خطيرة إذا لم تقرّر رفع سقف ديونها في الوقت المحدّد. وقال اقتصاديّو الصندوق إن سقف ديون الدولة الفيدرالية ينبغي رفعه سريعاً، ودونما تلكؤ، لتفادي كارثة مؤكّدة تصيب الاقتصاد الأميركي والأسواق المالية الدولية.
ويتوقّع صندوق النقد الدولي ديناً عاماً قوامه 99,0% من إجمالي الناتج الأميركي الداخلي في نهاية العام 2011.. ومن المتوقّع أن يزيد هذا الدين بنسبة تزيد على المائة في المائة في العام المقبل 2012.
أمام هذه الوقائع، دعت الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي أميركا إلى أن تقوم، وجدّياً، بخفض نفقاتها المالية بهدوء، وأن تتحرّك أيضاً في مجال العائدات .. وأن تتبنّى استراتيجية جديدة تتضمّن بالفعل إصلاحاً في بنية الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك توفير إضافي في مجال الصحّة والتعليم والأمن والجيش وزيادة العائدات، بما فيها خفض الفجوات الضرائبية.
وكانت المديرة التنفيذية الجديدة لصندوق النقد الدولي كريستين لاجارد قد حذّرت من أن تأخر الولايات المتّحدة في تسديد ديونها سيكون له عواقب وخيمة جداً. موضحة أن عدم التزام واشنطن بمواعيد سداد ديونها سيزيد من معدلات الفوائد، بالإضافة إلى أن أسواق المال العالمية سوف تصاب بضربة وصفتها بأنها موجعة، ليس للولايات المتّحدة فقط، بل وإلى الاقتصاد العالمي كلّه.لكن صندوق النقد الدولي نفسه يواجه مشكلات بنيوية كبيرة ناقشتها اليابان منذ سنوات عندما قرّرت إقراض صندوق "الإقراض" الدولي 100 مليار دولار، ليس لتوفير مساعدات مالية لدول ناشئة متضرّرة من الأزمة المالية العالمية فحسب، وإنما دعم أفكار ونظريات اقتصادية ناجعة لمنح الاقتصادات الناشئة نفوذاً أكبر في إدارة الصندوق، وبشكل يعكس بالفعل التغيّر السريع للخارطة الاقتصادية العالمية. وطبقاً لتصريح كان أدلى به رئيس وزراء اليابان السابق تارو إيسو خلال مأدبة عشاء مع شركائه في قمّة مجموعة العشرين "أنه من أجل مواجهة الأزمة المالية العالمية، نحتاج إلى جعل دور صندوق النقد الدولي متناسباً مع حقبة جديدة مغايرة كلّياً".هذا كان في ما بين عامي 2008 و2009 ... ومع تغيّر الحكومة اليابانية، ومجيء رئيس حكومة جديد هو "يوشيهيكو نودا"، تعهّد هذا الأخير بمواجهة الركود الاقتصادي الذي أصاب اليابان نفسها، كثالث أكبر اقتصاد في العالم بسبب الورطات التي تسبّبت بها واشنطن، لها ولأوروبا وللعالم أجمع. فقد دعا هذا الرئيس الياباني، الأكثر واقعية من سلفه، إلى التعاون بين الدول الآسيوية، وبخاصة الصين منها، من أجل الحفاظ على النموّ الاقتصادي. وقال "إن اقتصادات الدول الصناعية مثل اليابان والولايات المتّحدة وبريطانيا تواجه مواقف خطيرة"، مردفاً: "إنه في حالة الركود في الدول الصناعية هذه بات يتعيّن على الدول الآسيوية أن تتوقّع انخفاض معدلات النمو إلى 7.5% خلال العام الحالي، وأن يستمر المعدل عينه خلال العام المقبل 2012".وأردف يقول بخصوص صندوق النقد الدولي: "إن نظرة عالمية جديدة ينبغي أن تتأسس لتغيير شكل ومضمون، وجوهر وأداء، صندوق النقد الدولي؛ وإلا فإن الصورة المشوشة عنه حالياً ستفضي به حتماً إلى نهاية لا يتمنّاها أحد".
وعلى جدّية وجهة النظر اليابانية الأخيرة هذه، والتي يتبنّاها اقتصاديون كثر في العالم، وخصوصاً في الغرب، من أمثال: جوزيف ستنغليتز، وجورج كينرو، وفان كلون دايتش وغيرهم.. على خلفية هذا التوجّه الجدّي الياباني ينبغي أن يبني قياديّو صندوق النقد الدولي، و"توأمه" البنك الدولي، حساباتهم الجديدة والمختلفة منذ الآن، وإلا فإن ما ينتظرهم هو تهدم الهيكل على رؤوس الجميع.
هل انتفت الحاجة إلى الصندوق؟
ومع خطوة تعيين الخبير المالي الصيني زومين (58 عاماً) وللمرّة الأولى منذ تاريخ قيام الصندوق، في منصب نائب المدير العام، وموافقة الغرب بشقّيه الأميركي والأوروبي على هذه الخطوة، التي تبدو أولى خطوات التنازل منهما عن احتكار قيادة الصندوق، لن تكتفي دول آسيا، ذات الملاءة المالية العالية، بإنجاز هذه الخطوة الجديدة والجريئة، بل ستظل ماضية في تصعيد موقفها، ولن تقبل بعد الآن بشروط التحكّم الغربي المطلق بسياسات الصندوق، وسيكون مثلاً للصين صوت الفيتو الذي يكافىء الفيتو الأميركي.. فهل يقبل الغرب هذا التحدّي، ويقدّم التنازل تلو التنازل حتى تستقيم معادلة التوازن الدولي المطلوب، ويتحقّق بالتالي ما يمكن أن نطلق عليه العدالة الاقتصادية الدولية؟
سؤال برسم من لا يزال يتحكّم باللعبة، وبنظام التعويم المالي منذ أكثر من ستين عاماً، بحيث يتحكّم بتقلّب أسعار الصرف من يوم لآخر في ضوء تفاعل العرض والطلب في الأسواق العالمية ...
لكن أخشى ما نخشاه أن يكون قد فات أوان لعبة التنازل الغربي هذه، وباتت المهمة التي تأسس الصندوق من أجلها قد انقضت. هذا على الأقل ما أشارت إليه افتتاحية مجلة فوربز الأميركية (21-6-2011) حين قالت: "إن العالم لم يعد بحاجة إلى صندوق النقد الدولي، وإن العالم سيكون أفضل حالاً من دون الصندوق الذي يسيطر على حوالى 375 مليار دولارٍ و90 مليونِ أونصة ذهب، هي من حقّ الدول المشاركة في رأسماله".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق