حلمنا الأوّل
التّاريخ لمن يصنعه ، والحلم لمن يؤمن به ، والوطن لمن عاش به ودافع عنه بأنفاسه وزفراته التي تومئ باحتضار خفيّ ترفضه المقابر المدفونة تحت باقات البنفسج ، وتباركه الذّاكرة مع الفجر الطّالع بين أشجار خالدة تصنع المآثر لا الأسماء لوطن تدخل منه رائحة الرّبيع رغم القضبان وتسكنه باتّساع الشّمس كلّ الأرواح التي سالت تحت ترابه المقدّس إنّها القدس ذاك الصّباح الرّطب الخشن الذي تزحف تحت أعماقه مواقد التّحدّيات .
القدس حلمنا الأوّل الذي عبر مسامات الغضب ملوّحا بحرارة متوهّجة ، ثائرا في معارك التّاريخ التي تركت غبارها مفتوحا كالجرح لتبدو عاهة الأرض واضحة بندوبها المنهكة التي حملها اليهود كقنبلة مدمّرة قسمت نافذة العروبة وجعلت انتماءنا المقدّس يطلّ علينا بكلّ حزن من قبابه المحتجزة بين أسلاك الطّبيعة .
القدس تنمو مع أظافرنا منذ الولادة ، تتغذّى بنا ، تكبر في حروفنا ، نعتبرها الوطن الأول الذي تكوّم في رقعة القلب وسار بثقة قاسية نحو جزر النّضج التي تنسكب دون توقّف بين جيل وجيل لتمزّق مسامير العبوديّة عنه ، وتفكّ أطراف الأصابع البغيضة التي تتلوّى ظلما لتحقّق عدالة اليهود فوق جثث الشّهداء الذين دفعتهم القدس ثمنا لتحرير ترابها الطّاهرمن نتانة اليهود العالقة كأوراق الشّوك .
القدس بقعة ضوء خانقة لا تقبل الظّلم والظّلام تظلّ تدفع أثمانا باهضة من الأرواح لتصنع مصيرها الموعود الذي يتدفّق ثورة من عيون الصّغار والكبار الذين تتكاثر في سواعدهم أزهار التّحدّي.
زقاق الظّلم سيظلّ ضيّقا لا تعبر منه حمامات السّلام ، ورائحة الشّهداء ستظلّ تلطّف الجوّ الذي يعكّره اليهود بنذالتهم التي مارسوها حدّ الإبداع ليجعلوا ورقة القدس نازفة من تحت الألوان التي يتشبّثون بها بوجه يائس .
يحترفون خوض الحروب من وراء الغبار ، يتّخذون لأنفسهم أذرعا من الجبن تخفي أجسادهم المرتعدة ، قواهم أسلحتُهم ، رشّاشاتُهم ، ميليشياتُهم التي يهدّدون بها العزّل ولولاها لما تجرّؤوا على الوقوف أمام نظرة طفل غاضب حرّك أحجاره نحوهم ليزلزل كعوب الجلد المنفوخة عبثا .
وحشيّتهم المفرطة في هدم البيوت على الرّؤوس أكبر دليل على هشاشة انتمائهم المزيّف .
أكبر دمار دمار الإنسانيّة التي بعثرت حدائق الأفق الآتية ، وشوّهت الظّلال الدّامية بمزيد من السّواد لتترك بين الرّدم دمية محطّمة لطفلة باكية اختطفتها الأرض رأفة بها ، و تهشّم دفترا لطفل ضمّه الدّمار وترك حلم الشّهادة عالقا ، وتجمّد دمعة أمّ صفعها الخذلان حتىّ صار العراء عزاءها ، وتطفئ نظرة شيخ لامعة لم تعد تحصي كم ابنا من أجل الشّهادة قد قدّم لقداسة الحريّة .
يحتلّنا الضّعف ولا نقوى على تعزية دم العروبة فينا لأنّنا ببساطة تركنا وحش التّفرقة ينهش عظامنا ليبدو العدوّ عدوّا حقيقيّا ونظهر نحن في صورة هزيلة ندفع ثمنها غاليا كلّ يوم ونحن نشاهد في صمت رحيل القدس مع الشّهداء ..
ولكنّ الضّعف هذا سيكون له رجال يهدمونه بشجاعة ذات يوم حين نصدّق أنّ اليد العربية واحدة ، والدّين واحد ، والمقدّسات واحدة لا يمكن المساس بها إلاّ على حدّ السّيف أو الموت .
بقلم عبد النور خبابة
في 09 ذي الحجة 1441ه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق