إن ضبط النفس «عادة» أثبتت فاعليتها في ظروف مختلفة، تساعد الإنسان بدرجة كبيرة، وفي أوقات مختلفة في التحكم في المواقف التي تسودها الظروف الضاغطة، والغضب، والإحباط.
دراسة أمريكية استمرت ثلاثين عامًا، وانتهت إلى أن أكثر المهارات التي يجب التركيز عليها هي مهارة ضبط النفس، فهي أكثر المهارات تأثيرًا في نجاح الأطفال في المستقبل، وقد حاول الباحثون الغربيون - عبر دراسة امتدت إلى ثلاثين عامًا - الوقوفَ على العامل الجوهري في تصوُّر احتمالات نجاح الطفل في المستقبل، تساءل بعضهم: هل الذكاء هو مفتاح الصحة والثروة والسعادة؟ وتساءل آخرون: هل الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الطفل هي العامل المحدد في النجاح المستقبلي للطفل؟
انخرط الباحثون في محاولة للوصول إلى هذا العامل، المفترض أنه أكثر العوامل تأثيرًا في مستقبل الطفل، في دراسة دولية ضمَّت باحثين من جامعة ديوك الأمريكية، وأُجرِيت على ألف طفل نيوزيلندي منذ لحظة ولادتهم حتى سن الثانية والثلاثين، وكان الباحثون يقيسون بصفة دورية العديد من الخصائص المرتبطة بمتغيرات؛ مثل: الصحة، والثروة، والميل إلى الإجرام... إلخ.
أهم من الذكاء والطبقة الاجتماعية انتهت الدراسة إلى أن الآباء الذين يركزون في تربية أبنائهم على عوامل الذكاء، والطبقة الاجتماعية - يسيرون في الاتجاه الخاطئ، وأن أكثر المهارات التي يجب التركيز عليها هي مهارة «ضبط النفس»؛ إذ تبين بأدلة كثيرة أن هذه المهارة هي أكثر المهارات تأثيرًا في نجاح الأطفال في المستقبل، وتفوق كثيرًا عاملَي الذكاء والطبقة الاجتماعية. يعرف الباحثون الغربيون «ضبط النفس» بأنه قدرة الإنسان على ضبْط عواطفه، وسلوكيَّاته، ورغباته، خاصة في المواقف المتناقضة التي تلزمه باتخاذ موقف حيالها، وذلك للحصول على «مكافأة في المستقبل»، تتمثل في قدرته على «الإدارة الفعَّالة لمستقبله".
ويقول الباحثون: إن ضبط النفس «عادة» أثبتت فاعليتها في ظروف مختلفة، تساعد الإنسان بدرجة كبيرة، وفي أوقات مختلفة في التحكم في المواقف التي تسودها الظروف الضاغطة، والغضب، والإحباط.
أوضحت الدراسة أن الأطفال الذين أظهروا مستويات دُنيا من ضبط النفس في طفولتهم، زادت احتمالات ارتكابهم أخطاءً محدودة أو غير محدودة عند وصولهم العشرينيات من العمر، مثل أخطاء الفشل في الدراسة، وحتى إذا تمكَّنوا من تجنُّب هذه الأخطاء في مرحلة المراهقة، فإنهم يظلون يظهرون قدرة أقل على ضبط أنفسهم في مرحلة البلوغ، إذا ما قُورنوا بذوي المستوى العالي من ضبط النفس.
ويرى الباحثون كذلك أن مثل هذه النتيجة قد تكون مفاجئة للوالدين؛ لأن كل الأفعال تتطلب نوعًا من ضبط النفس؛ ولهذا ركزوا في دراستهم على الكيفية التي يتمكن بها الوالدان من تنمية مهارة ضبط النفس عند أطفالهما، والتوقيت الذي يبدآن فيه.
يبدأ وضع بذرة هذه المهارة في مرحلة الطفولة؛ حيث يعتمد الطفل اعتمادًا كليًّا على المحيطين به، وعلى المحيطين بالطفل أن يستجيبوا لحاجاته وعواطفه عبر علاقتهم به؛ مما يترك صداه على الطفل في المستقبل، هذه العلاقة هي التي تشكِّل المادة التي تجعل الطفل قادرًا على تنظيم أفكاره، وسلوكياته، وعواطفه في المستقبل، ويضيف الباحثون بأن العلاقات المتناغمة بين الأطفال وآبائهم وأمهاتهم لا تقتصر على مرحلة الطفولة، وإنما تمتد طوال حياتهم، هذا الاتصال المتناغم بين الطرفين من شأنه أن ينمي مهارة ضبط النفس.
الفارق بين الحضارتين: يكمن أهمية الدراسة في نقطتين أساسيتين:
الأولى: أنها تعكس بوضوح الفارق بين الحضارتين الغربية والإسلامية؛ بمعنى مفهوم الناس عن الحياة في الهدف من تربية الطفل والآمال المعلقة على هذه التربية.
والثانية: أنها توضح أنه إذا زادت حِدَّة التأثر بالثقافة الغربية بين المسلمين، فإن الأمر قد يصل بهم إلى نفس ما انتهت إليه الثقافة الغربية، فالأساس الذي تقوم عليه الحضارة الغربية هو فصل الدين عن الحياة، وتصوُّر الحضارة الغربية للحياة، ومقياس الأعمال فيها هو «المنفعة»، ومفهوم السعادة عندهم هو إعطاء الإنسان أكبر قدرٍ من المتعة الجسدية، وتوفير أسبابها له، أما الناحية الروحية، فهي فردية بحتة لا شأن للجماعة بها.
الحضارة الإسلامية على النقيض من ذلك؛ إذ تقوم على قاعدة الإيمان بالله، وتصوُّر الحياة فيها يقوم على المزج بين المادة والروح؛ أي: إن الأعمال تكون مرتبطة بأوامر الله ونواهيه، وهي التي تسيِّر أعمال الإنسان، والغاية من ذلك رضوان الله تعالى، وليس «النفعية» مطلقًا. أما القصد من القيام بالعمل، فهو القيمة التي يُراعى تحقيقُها، وهي تختلف باختلاف الأعمال؛ فقد تكون قيمة مادية كمن يتاجر بقصد الربح، وقد تكون القيمة روحية كالصلاة والزكاة والصوم، وقد تكون خلقية كالصدق والأمانة والوفاء، وقد تكون إنسانية كإنقاذ الغريق وإغاثة الملهوف، فهذه القيم يراعيها الإنسان حين القيام بالعمل حتى يحقِّقها، إلا أنها ليست المسيِّرة للأعمال، وليست المثل الأعلى الذى يهدف إليه، بل هي قيمة من العمل.
أما السعادة، فهي نَيل رضوان الله تعالى، وليست إشباع حاجات الإنسان؛ لأن إشباع الحاجات والغرائز وسيلة للمحافظة على ذات الإنسان، ولا يلزم من وجودها السعادة. كلمة «التوحيد» أول ما يسمع الطفل: على العكس ترى الحضارة الإسلامية أن كلمة «التوحيد» هي أول ما يجب أن يقرع سمع الطفل، وأول ما يُفصِح به لسانه، وأول ما يجب أن يتعلمه الطفل هو الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، ويجب أن يؤمر بالصلاة عند سبع سنين، وأن يؤدب على حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آل بيته، وتلاوة القرآن.
أما مهارة «ضبط النفس» التي يرى الغربيون أنها البذرة التي يجب أن تُغرس في الطفل، فتستند في الإسلام إلى قاعدة كبرى هي «مراقبة» الفرد لله - سبحانه وتعالى - في كل تصرفاته وأحواله، بمعنى أنه يجب ترويض الطفل على أن الله تعالى يراقبه، ويراه، ويعلم سره ونجواه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
إن ترويض الطفل على مراقبة الله تعالى وهو يعمل، يعلمه الإخلاص لله تعالى في أقواله وأعماله وسائر تصرُّفاته، وأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، فالغاية العظمى من العمل ليست المنفعة، وإنما رضوان الله تعالى، ومِن ثَمَّ يكون القصد الأصلي من العمل هو رضوان الله تعالى، أما قيمة العمل - أي: ما يتحقق منه من منفعة كالنجاح المستقبلي - فهو القصد التابع، وبالإضافة إلى ذلك، فإن أمر المستقبل لا يتوقف على غرس قاعدة ضبط النفس في الطفل، إنما هو أمر بيد الله تعالى، فقد خلق الله الحياة الدنيا لحكمة ذكرها في كتابه؛ حيث قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [الملك: 2].
فالحياة دار ابتلاء؛ حيث يبتلي الله عباده بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فمن صدَّق الرسل وعمِل بما في الكتب، كان من أهل الجنة ومن أهل السعادة، ومن كذَّب، كان من أهل الشقاء والنار، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «اعملوا؛ فكل ميسَّر لما خُلِق له»، وقد قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 4 - 11].
فعلى كل فرد أن يعمل ويبحث عن مواطن الهداية، ويدعو الله أن يرزقه الثبات على الدين، وأن يعلم أن الله تعالى قد خلَق الخلق وهو يعلم أرزاقهم وآجالهم وما هم عاملون، وهذه مسائل لا وجود لها في حضارة الغرب التي ترتكز حول مبادئ فصل الدين عن الحياة، والنفعية كهدف جوهري لتحقيق أقصى لذة للفرد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق