بـــوحٌ بلا صدى..
نادرا ما أسمح لأحد بأن يقتحم مملكتي المليئة بالسكون والبرد والمطر، وقلّما تنحني بوابتها الورقيّة في وجه باسم تذوب أمامه كل الكلمات فتغدو كالبحر الممدود على صدري، تهزّ كل عروش الزّمن معلنة عن ميلاد جديد لورقة تسكنني، تنثرها حوافر فرس جموح يطارد بتأنّ جميع كتاباتي.. جميلة أنا حين يمزجني الدّمع بحرقته، و يقلّبني الوجع بسطوته وتنثرني أنت كما تنثر حروفك على مزارع الورق لتنبت طمعا جميلا شوقا مشمسا، ويدا ممدودة إليك. آه يا صاحب الأسر الدافئ، يا صاحب الزّمن الواقف، يا من تصاعدت أنفاسه ألما، ألا يكفيك قلبي الممزّق كأوراق خريفية تهزّها برفق نسائم الصمت فأسيل كنهر دامع لا تنضبه إلا مصابيح الحلم القادم. ألا ليت شعري كيف أرسل إليك دمعي وأخفيه، وأنا المصنوعة من ورق، من ريش طائر ظلّ خلف نوافذ قلبك يغنيّ ويغنيّ، ولا تزال تلك النافذة مغلقة، وأظلّ واقفة خلفها أرسم طريقا نحو مراسي النسيان. صعب أن أتكلّم، وصعب جدا أن أبوح بحبّ كالمطر، و أنت لاتزال فوق الغيوم تراقبني، تكتب بحبرها اسمي وتخفيه، فكيف سيفيدني اسمي مادمت معلّقا هناك، مادمت مختبئا خلف زجاج صمتك البارد المثير للبكاء، كيف لي أن أعلو منابر البوح أشتّت اسمك الجميل وأنت هناك من فوق غيمتك. تحاورني مرارا صفعت وجهي اليائس المعلّق صوب غيمتك، فتسرّبت آثار تلك الصفعات إلى قلبي، فصرت أحسّ و كأني قطعة فخاّر باردة تركت في ليلة ممطرة، فصارت قرعات جبّاتها و كأنها سيمفونية نحيب متجدّد على حياة أصبحت لا تطاق. وتكشّفت في مساحة عينيّ سحب أمطرت على خديّ دموعا باتت تقاسمني وسادتي كل ليلة. آه ما أقسى أن ترمي رأسك الثقيل بالهموم على فراش صامت تأبى عصافير الفرح رفرفة ستائره وهزّها، لتعلن لعنة الصمت، ولعنة الرّحيل، وتلك الساّعة المعلّقة ما أقبحها في فكري دقاّتها البطيئة المخيفة تتلاعب بمشاعري وهذا الحزن الرّمادي الجاثم على قلبي، كلّهم صاروا أحداثا مكرّرة في حياتي، صاروا محورا لذكرياتي التي لم تولد قطّ، ربما تثاءب عليّ الملل بأنفاسه فصرت بالعدوى توأمه، صارت أياّمي كلها متشابهة وكأنّها يوما واحدا يتكرّر كمقطوعة موسيقية مملّة انفضّت الآذان من حولها، فصارت تغنّي وحدها مبللة بحزنها، هي ووحدتها، فما أصعب أن يفقد الإنسان رغبته في العيش وحماسه الدّائم نحو الاستمرار في الحياة، هذه الحياة التي أصبحت ساكنة أمام قدميّ، وكأن أطرافها المتراخية أصابها كساح الصّمت، فصرت أمامها كلوح هشّ تتصاعد داخله أنفاس من الكآبة والحزن، فلا فرق بيني وبين جماد الأرض سوى تلك الرّوح الهائمة داخلي، وتلك الأنفاس المتصاعدة بملل، الباحثة عن شيء يوقظ مواتها، كالعقد القديم صرت، وكل يوم تنسلّ منه ومني حبّة من لؤلؤه الحزين القابع في ظلمة صندوق قديم أكلته الأيام ...
بقلم: أ خديجة إدريس
بكل صراحة أبهرني هذا النص، لذلك لي عودة للتعليق عليه بإسهاب.. دمت مبدعة يا أستاذة خديجة
ردحذفنعم صديقي النص مبهر جدا، يحتاج إلى يستجمع المرء حياله ما تناثر منه من كلمات ليعلق عليه تعليقا يليق بقوته ومتانته وروعته، لي عودة ايضا إليه سأقرأ لاعلق ، لك مني أستاذة خديجة أطيب تحية ودمت رائعة متألقة في سماء الإبداع ....
ردحذفالسلام عليكم الأستاذة خديجة
ردحذفنص في غاية الروعة كأننا نتلذذ الحزن بنكهة حروفك و قد نسجتها بكل إبداع لبوح عميق المدى. لن أقول أكثر لأني عاجزة عن ذلك فنصك فاق كل تعابير الإعجاب التي لا أمتلك حروفها.
دمتِ متألقة دوما سيدتي تمنياتي بالتوفيق.