العشرُ الأواخِرُ من رمضان..
بقلم: أ عبد النور خبابة
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله؛ فإنها عروة ليس لها انفصام، وجذوة تضيء القلوب والأفهام، وهي خير زاد يُبلِّغ إلى دار السلام، من تحلى بها بلغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمون العواقب، وكُفي من شرور النوائب.
معاشر المسلمين، هذه أيامُ شهركم تتقلص، ولياليه الشريفةُ تنقضي، شاهدةٌ بما عملتم، وحافظةٌ لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محفوظة، ينادي ربكم يوم القيامة: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم.
هذا هو شهركم وهذه نهاياته، كم من مستقبلٍ له لم يستكملهُ، وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركهُ، هلا تأملتم الأجل ومسيرَهُ، وهلا تبينتم خداع الأمل وغرورَهُ.
أيها الإخوة، إن كان في النفوس زاجر وإن كان في القلوب واعظ فقد بقيت من أيامه بقية، بقيةٌ وأيُّ بقيةٍ، إنها عشره الأخيرة التي مضى شيء منها، بقيةٌ كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء، في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر الأخيرة شمر وجدَّ وشدَّ المئزرَ، هجر فراشه وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان؟!)) يطرق الباب وهو يتلو: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ [طه:132]، و يتّجه إلى حجرات نسائه آمرًا: ((أيقظوا صواحب الحجر، فرب كاسية في الدنيا عاريةٍ يوم القيامة)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيِّعوا فرصةً في غير قربة.
إحسانُ الظن ليس بالتمني، ولكنَّ إحسانَ الظن بحسنِ العمل، والرجاءُ في رحمةٍ مع العصيان ضربٌ من الحمق والخذلان، والخوفُ ليس بالبكاءِ ومسحِ الدموع، ولكنَّ الخوفَ بترك ما يُخَافُ منه العقوبةَ. معاشر الصائمين، هذه العشر الأواخر من رمضان كأني بها واقفة تناديكم فتقول: أنا العشر الأواخر من رمضان، قد حللت بكم فهل عرفتم ماذا يعني قدومي؟! إن أول معنًى لقدومي هو إنذار لكل ذي بصيرة ولب بأن شهركم هذا قد آذن بالرحيل، وحق لكل من أحب هذا الشهر أن يحزن على فراقه لما وجد فيه من لذة العبادة وشفافية القلب وصفاء وارتقاء الروح. أعرفتم معنى الأواخر؟! أي: خاتمة الشهر، وقد أخبر نبيكم وحبيبكم بأن الأعمال بالخواتيم، وذلك فيما أخرجه الإمام البخاري حيث قال: ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)) رواه البخاري. فعجبًا لقوم من بني الإيمان اجتهدوا في أول الشهر ثم لما اقتربت نهاية الشهر وخاتمته شغلوا بملابس العيد وبحلوى العيد وببرنامج العيد، فما لهم نسوا أن الأعمال بخواتيمها؟!
معاشر المؤمنين، إن من رحمة الله بكم أن اختصني من بين سائر ليالي وأيام العام بليلة القدر، أتدرون ما ليلة القدر؟! إنها ليلة اختصها الله من بين ليالي السنة، وشرفها بأن أنزل فيها كتابكم، أنزل فيها قرآنكم الذي بين أيديكم من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأخبركم بذلك في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]. وفي هذه الليلة المباركة العظيمة يحدث أمر عظيم، يقول عنه الخبير اللطيف: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، أي: في هذا اليلة يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة مقادير العام وما يحدث فيه، وما يكون فيه من الآجال والأرزاق والأحداث،. فعجبًا لعبد تكتب مقاديره وما يحدث له طوال العام وهو في حالة غفلة عن الله، وما أسعد عبدا كان في تلك الليلة مقبلا مناجيا لربه ومولاه..، يقول سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]. فما أعظمها من منحة، وما أكرمها من عطية، ليلة واحدة تقومها لله تكون خيرًا لك من عمرك كله، خير لك من ثلاثة وثمانين عامًا وربع العام، فأنت قد لا تعمر حتى تصل الثمانين، وإن وصلت فهل ستنفق عمرك كله في العبادة؟!أفلستم معي بأنها صفقة رابحة من الكريم سبحانه؟! وليس هذا فقط ولكن استمعوا معي إلى ما أخبركم به نبيكم وحبيبكم بقوله: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري.
الله أكبر، ليلة واحدة تقومها يغفر لك ما فعلت من ذنوب وخطايا طوال عمرك الذي مضى، فأين أصحاب القلوب الحية الذين استشعروا كثرة ذنوبهم وعظيم خطاياهم من هذا العرض الرباني السخي؟! وما أشد غبن من فرط في ترصد هذه الليلة وقيامها.
أيها الأحبة في الله، إن هذا الأجر العظيم لا يلزمه أن يعرف المرء أي ليلة هي ليلة القدر، فمن قام ليالي العشر كاملة فهو بالتأكيد قد قام ليلة القدر، ويحصل أجر القيام لمن قام مع الإمام حتى ينصرف، لحديث أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) رواه الترمذي. . أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبلغني وإياكم تلك الليلة، وأن يوفقنا لقيامها، وأن يتقبل منا ومنكم.نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا جميعًا صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يمن علينا بالقبول والمغفرة والعتق من النار بمنّه وكرمه، وأن يجبر كسرنا على فراق شهرنا، ويعيده علينا أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، وعلى الأمة الإسلامية وهي ترفل في حلل العز والنصر والتمكين، وقد عاد لها مجدها وهيبتها بين العالمين، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أهل الحمد والشكر والإحسان والبر، أحمده سبحانه فضَّل شهر رمضان وخص أيام العشر، وعظم فيها ليلة القدر، وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، نعمه تجل عن الحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أكرم رسول نزل عليه أشرف ذكر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا للعشر الأواخر من رمضان قدرها، ولكم في نبيكم وقدوتكم أسوة حسنة، وها هي زوجه الحبيبة أمنا أم المؤمنين تحكي لنا حاله بقولها: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. فأقبلوا على ربكم، وأحيوا ليلكم، وأيقظوا أهلكم؛ تأسّيا بسنة نبيكم. وقدِّموا لأنفسكم، وجِدُّوا وتضرعوا، تقول عائشة أمُ المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال قولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) رواه الترمذي وصححه الألباني.نعم أيها الأخوة، الدعاءَ الدعاءَ، عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء؛ فقد قال ربكم عز شأنه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. إنَّ للدعاءِ ـ أيها الإخوةُ ـ شأنًا عجيبًا و أثرًا عظيمًا في حسن العاقبة وصلاحِ الحال و المآل أيها الإخوة، إن نزعَ حلاوةِ المناجاةِ من القلب أشدُّ ألوان العقوبات والحرمان، ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟!
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجون إلى ربهم بالدعاء يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابًا واحدًا هو بابُ السماء، باب مفتوح لا يغلق أبدًا، فتحه من لا يرد داعيًا ولا يُخيِّب راجيًا، فهو غياثُ المستغيثين وناصر المستنصرين ومجيب الداعين.
أيها المسلمون، أيامكم هذه من أعظم الأيام فضلاً وأكثرِها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار، وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته. المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرِم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتت عليه فُرص الشهر وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبونٌ من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرفْ عينُه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة.
تقبل الله منّا ومنكم صالحَ الأعمال، وجعلنا وإيّاكم وإخوانَنا المسلمين مِن عتقائه من النّار، إنّه سميع مجيب.
ألقيتها يوم 19 رمضان 1432 بالمسجد العتيق بغيلاسة
بقلم: أ عبد النور خبابة
أشعر بالغيرة منك أستاذ عبد النور لكن لا تخف فعينيا باردتين طالما تتبعان نصائحك ومواعضك زدنا فلربما تكسّرت وحوش الحزن بداخلي مهمومة أنا وكلامك يطفئ حزني يا الله يا كريم أغثني
ردحذفلغة في غاية الجمال و المعنى أجمل و أعمق حملت النصيحة و الحث على مواصلة جهاد النفس و المضي هناك حيث الجنة تنتظر الصائمين..لكم وددت أن أكون بين المصلين اليوم لأحظى بهذه الخطبة القيمة. جزاكم الله كل خير أستاذنا و إمامنا عبد النور و نفعنا بكم . ادعو لنا أن يتقبل الله منا و من سائر المسلمين صالح الأعمال...سلامي و تحياتي.
ردحذفالأستاذة الفاضلة: خديحة أشكرك على كلمات الأكثر من المعبرة، اسعدتني كثيرا، لذا انا ممتن لك عضيم الامتنان على مرورك الجميل وتعليقك الاجمل تحياتي اختاه .
ردحذفأستاذتي الكريمة صابرة منايلي:
ردحذفأشكرك جزيل الشكر على جميل قولك البديع المنتظم الرفيع، ارجو ان أكون قد وفقت لتبيين المقصود وأني قد دغدغت عواطف المصلين بتلك الكلمات لتصل إلى سويداء قلوبهم فتنعكس على جوارحهم عملا وجدا واجنهادا، لك مني أطيب تحية .