العدد: 79 التاريخ: 19/8/2011
منذ عقد ونصف العقد بات للجوع والمجاعة عنوان عريض اسمه : الصومال. فهذا البلد العربي الذي كان في السابق، قلعة للأمن الغذائي والخير الوفير، يفيض عن حاجات مواطنيه، صار اليوم أرضاً قفراً، طاردة للإنسان والحيوان وسائر الكائنات الحيّة فيه.
ما الذي حوّل هذا البلد الذي كان القطاع الزراعي فيه (مع الثروة الحيوانية والصيد البحري) يشكّل 46% من إجمالي الدخل القومي، و66% من إجمالي عوائد الصادرات.. ما الذي حوّله إلى أرض للموت الزؤام؟
عوامل عدّة قادت الصومال إلى هذا المصير المحزن الحالي.. لعل في طليعتها، إلى جانب العامل الطبيعي وتقلبات المناخ: السياسة، وما خرّبته وتخرّبه كلّ يوم في بنية الشعب والأرض والدولة. فهي - أي السياسة- بأبعادها الاستعمارية الخارجية، وأبعادها الأهلية الداخلية، مسؤولة عن كلّ تمزق جغرافي للصومال، وكلّ حروب أهلية مفتوحة فيه، وكلّ ميليشيا نبتت وتنبت في بيئته الاجتماعية والأهلية، مقوّضةً بالتالي هرم الدولة وإداراتها، تلك التي يفترض أن تكون معنيّة، أولاً وأخيراً، بمواجهة كلّ المحن والكوارث التي تدهم البلد. فلو كانت مثلاً لدى الصوماليين المنكوبين حكومة مركزية قوية ومتماسكة، على غرار شقيقاتها، حكومات دول القرن الإفريقي مثل أرتيريا وجيبوتي وكينيا وأثيوبيا .. لاستطاعت على الأقل وقف عدّاد موت مواطنيها جراء زحف المجاعة وهلاك المحاصيل الزراعية ونفوق الثروات الحيوانية.
سلّة غذاء صوماليا
لكن، وبما أن الفوضى تدبّ في البلاد الصومالية التي تعيش من دون سلطة فعلية منذ سنوات طويلة هي عرضة خلالها لتحكّم جماعات أهلية متحاربة، متنابذة لا يقرّ لها قرار، لم تحقق البلاد غير الخيبات على الأرض، ولم تنتج سوى الحروب وتهجير الناس. ولذلك فإن الصومال، بخلاف دول القرن الإفريقي، لم يستطع حتى اللحظة مواجهة الخسائر البشرية المتلاحقة على أرضه، والتي أودت بحياة أكثر من 30 ألف طفل وعشرات الآلاف من النساء والشيوخ والشباب العاجز حتى الآن. كما تسببت بنزوح ما يزيد على نصف مليون صومالي إلى خارج البلاد، وخصوصاً إلى كينيا، التي حشرتهم سلطاتها في مخيم واحد، هو مخيم "داداب"، الذي ضاق بهم، وهو أصلاً غير مجهّز بالحدّ الأدنى من الشروط الفنية التي تتطلبها مخيمات استقبال جموع النازحين؛ فضلاً عن أن طاقة استيعابه مجهّزة لاستقبال 90 ألف شخص فقط.
كما تسبّب الجفاف في الصومال في نفوق أكثر من 70 في المئة من الماشية، والتي ينتظر ما تبقّى منها على قيد الحياة، المزيد من الهلاك والنفوق السريع.
واللافت أن المنطقة المنكوبة التي أعلنت الأمم المتحدة عن اتساع رقعة المجاعة فيها أكثر من غيرها في البلاد، هي من أغنى المناطق الصومالية وأخصبها سابقاً. كان يُطلق عليها قبل سنوات معدودات: "سلّة غذاء صوماليا". وهي بالتحديد منطقة "باكول" الواقعة في الجنوب الغربي، ومنطقة "شابيل السفلى" الواقعة في الجنوب الشرقي.
هاتان المنطقتان المنكوبتان تسيطر عليهما حالياً ميليشيا "حركة الشباب المجاهدين" الصومالية، والتي كانت قد طردت منهما من قبل (منذ سنتين تقريباً) كلّ المنظمات الإغاثية الأجنبية العاملة فيهما.. لكنها، وكنتيجة لهول كارثة المجاعة المستشرية على الأرض، عادت فسمحت للفرق الإغاثية الأجنبية بالدخول والعمل ما أمكن للحدّ من تسونامي المجاعة المتنامي في البلاد، والذي حصد حتى الآن أكثر من 45 ألف إنسان بحسب مسؤولة العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة فاليري آموس التي حذّرت من إنه " إذا كنّا عاجزين عن السيطرة على المجاعة حتى اللحظة في منطقتين محددتين من الصومال، فكيف يا ترى الآن، وقد امتد شبح المجاعة والجفاف إلى خمس أو ست مناطق صومالية أخرى؟.
وقالت آموس إن أطفالاً يموتون في أثناء سيرهم بحثاً عن الغذاء. وإن المجتمع الدولي تعهّد حتى الآن بتقديم مبلغ مليار دولار لدرء تفاقم الكارثة؛ وهو مبلغ لا يكفي في رأي الأمم المتحدة التي قالت باسمها آموس إنها تحتاج إلى 2.6 مليار دولار لإنقاذ الأرواح الصومالية المعذبة.
ولفتت إلى أن عدداً من المزارعين يعانون وضعاً سيئاً بسبب التصحّر الذي يضرب البلاد، ويعتبر الأسوأ منذ ستين عاماً.. "وبات يتعذّر علينا الآن كأمم متّحدة تقديم إحصاءات دقيقة لاحقة حول عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب المجاعة. وذلك مردّه إلى الصعوبة في جمع المعلومات في بعض المناطق النائية في الصومال، من بينها الكثير الذي يخضع لسيطرة المتمردين المتشددين" (تقصد ميليشا "حركة الشباب المجاهدين").
قوافل المساعدات ومستحقوها
وكان مجلس الأمن الدولي قد وجه نداءً ملحاً (بتاريخ 15 أغسطس الجاري) لجمع المزيد من الإسهامات الدولية التي تخصّصها الأمم المتحدة للتصدي للمجاعة التي أوقعت عشرات آلاف القتلى في الصومال.
وحذّر المجلس من جهة ثانية الحكومة الصومالية الانتقالية من أن المساعدات في المستقبل ستكون مشروطة بقدرتها على تعزيز الأمن والخدمات خلال العام المقبل.
وأعرب عن قلقه العميق حيال الرد الدولي على نداء جمع 2.4 مليار دولار بحسب ما جاء في إعلان تلاه سفير الهند هارديب سينغ بوري الذي يتولّى الرئاسة الدورية لمجلس الأمن.
بالإضافة إلى ذلك، دعا مجلس الأمن جميع الأطراف في الصومال، وفي طليعتها المجموعات المسلّحة والمتحاربة إلى تأمين ممر كامل وآمن من دون أيّ عوائق للمساعدات الإنسانية كي يتم توزيعها في الوقت المحدد. لكن هل ستتحقق أمنية مجلس الأمن، على الأقل بقيام ممر كامل وآمن لتوزيع المساعدات على محتاجيها من جوعى الصومال ومنكوبيه؟
يبدو الأمر صعباً. فهناك قوافل عديدة من المساعدات لم تصل إلى مستحقيها في الجنوب الصومالي بسبب خطفها من طرف الميليشيات للإفادة منها، وكيلا يموت بالطبع أفرادها جوعاً وعطشاً .. "كيف لا والأمة ستخسر زهرة شبابها".. كما يعلّق ساخراً الإعلامي الصومالي يوسف الأوغاديني على أفراد "حركة الشباب المجاهدين"، ويضيف: "هؤلاء هم وغيرهم، المسؤولون عن كوارثنا الراهنة والمستقبلية في الصومال، بما فيها تلك التي تنزلها الطبيعة فينا".
من المسؤول عن الكارثة؟
أما الباحث والكاتب الصومالي مهدي حاشي، فقد حمّل المسؤولية عن كارثة المجاعة في البلاد إلى الحكومة والمعارضة في آن معاً. قال " كلاهما، أي رئيس البلاد شريف شيخ أحمد وغريمه رئيس البرلمان شريف شيخ حسن، كانا منذ أسابيع منهمكين في صراع مرير حول من يعيّن هذه الوزارة السيادية أو تلك لحليفه من دون اكتراث بمحنة نصف سكان بلادهم المهدّدين بالموت جوعاً.
ويضيف متسائلاً: "أيعقل أن تتمكّن دولة تدفع منظمات أجنبية رواتب وزرائها ونوابها من مدّ يد المساعدة لأهلها؟ وهل أُريد لهؤلاء أصلاً أن يكونوا دولة بالمعنى الحقيقي أو أن مهمتهم تنحصر في توفير الغطاء الشرعي للقوات الإفريقية؟".
ويردف قائلاً في ميليشيا حركة الشباب: "أما حركة الشباب، فإن الأزمة الحالية وجهت لها صفعة قاسية، لأنها هي المسيطرة على المناطق المنكوبة، وهي بالتالي من تتحمّل مسؤولية إغاثة أهلها، بعدما منعت هيئات الإغاثة من القيام بعملها... هكذا إذن، وبعدما تراجعت حركة الشباب عن قرارها مرغمةً، وجد مناهضوها الفرصة سانحة للتهكّم عليها وعلى شعاراتها".
ولم يقتصر الإخفاق الصومالي الكبير على السياسيّين والمتصارعين على السلطة في رأي الكاتب مهدي حاشي، بل يتعدّاه إلى المجتمع المدني الصومالي بأطيافه كافة، حيث لم يقدّم شيئاً يذكر في مواجهة المحنة الحالية. فلا توجد عملياً - في رأيه – أيّ منظمات إغاثة محلية جدّية يمكن أن تخفف من معاناة الشعب، أو تكسب ثقة المانحين لتصبح جسراً بينهم وبين المحتاجين لملء الفراغ الناتج عن غياب المؤسّسات الرسمية، وعن فساد السادة السياسيّين.
خلاصة القول في رأي هذا الكاتب الصومالي، المتابع بجدٍّ لمأزق بلاده المخيف، إنه ما لم يكن ثمة جهد مشترك محلي ودولي وإقليمي لانتشال الصومال من كبوته، آخذين بعين الاعتبار كلّ تعقيدات الأزمة، "فإننا سنكون على موعد مع فصل جديد من فصول المأساة قد يكون أشد قسوة وكارثية، وسيبقى النزف الصومالي مستمراً".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق