مرت بالمسلمين في تاريخهم فترات من الضعف والفرقة والشتات ، كثرت فيها الخلافات وتعدّدت فيها الرايات ، وتمزقوا شر ممزق حتى طمع فيهم أعداؤهم ، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن قيّض لها بين الفينة والأخرى رجالاً يذودون عن حماها ويعيدون لها هيبتها وكرامتها ، ومن هؤلاء الملك العادل نور الدين محمود زنكي المشهور بـ نور الدين الشهيد الذي عرف بعدله وتقواه وورعه وعبادته وحبه للجهاد .
وكان نور الدين قد انهزم من الفرنج في سنة
558 هـ في المعركة التي عُرفت بـ " البقيعة " ، وسببها أنه رحمه الله
جمع عساكره ودخل بلاد الفرنج ونزل في " البقيعة " تحت حصن الأكراد
محاصرًا له ، عازماً على قصد طرابلس ومحاصرتها ، فاتفق الفرنج على مباغتة المسلمين
نهاراً وهم آمنون ، وبينما الناس في خيامهم وسط النهار لم يرُعْهم إلا ظهور الفرنج
من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد ، فأراد المسلمون منعهم فلم يطيقوا ذلك ،
فأرسلوا إلى نور الدين يُعِلمونه بما حصل ويطلبون
منه النجدة ، إلا أن مباغتة الفرنج لهم حالت دون أخذ العدة والاستعداد للقائهم ،
فهجم عليهم الفرنح قبل أن يتمكنوا من ركوب الخيل أو أخذ السلاح ، وأكثروا فيهم
القتل والأسر ، واستطاع نور الدين أن ينجو بنفسه على فرسه
حتى نزل على بحيرة " قدس " بالقرب من حمص في موضع يبعد أربعة فراسخ عن
مكان المعركة ، ولحق به من سلم من الجند حتى اجتمعوا به وكان مما قاله له بعضهم :
" ليس من الرأي أن تقيم هاهنا ، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء
إلينا فنؤخذ ونحن على هذه الحال ، فقال لهم : " إذا كان معي ألف فارس
لقيتهم ولا أبالي بهم ، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام " .
وكان الفرنج قد عزموا على التوجه إلى حمص بعد انتصارهم ، لأنها كانت أقرب البلاد إليهم ، ولما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا : لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها ، فراسلوه يطلبون منه الصلح فلم يجبهم ، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم .
وكان الفرنج قد عزموا على التوجه إلى حمص بعد انتصارهم ، لأنها كانت أقرب البلاد إليهم ، ولما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا : لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها ، فراسلوه يطلبون منه الصلح فلم يجبهم ، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم .
وبعدها بدأ نور الدين رحمه الله بتجهيز قواته ،
استعداداً لمواجهة الفرنج والأخذ بالثأر ، وكان قد خصص أموالاً من بيت المال
ينفقها على العلماء والعباد والفقراء ، فقال له بعض أصحابه لما رأى كثرة إنفاقه :
" لو استعنت بهذه الأموال في هذا الوقت لكان أصلح ، فغضب عليهم وقال : "
والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك ، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ، كيف أقطع
صلاة قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ ، وأصرفها على من لا
يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ ؟ ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في
بيت المال ، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم " .
ولما اجتمعت الجيوش سار
نحو " حارم " - وهو حصن حصين في بلاد الشام ناحية حلب - في شهر رمضان من
هذه السنة فحاصرها ونصب المجانيق عليها ، ثم تابع الزحف للقاء الفرنج الذين تجمعوا
قريبا من الساحل مع أمرائهم وفرسانهم بزعامة أمير أنطاكية .
وقبيل المعركة انفرد نور الدين بنفسه تحت تل " حارم " ، وسجد لله ومرَّغ وجهه وتضرع وقال : " يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك ، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك ، فانصر أولياءك على أعدائك " ..... " أيش فضول محمود في الوسط " وهو يعني أنك إن نصرتنا فدينك نصرت فلا تمنع النصر عن المسلمين بسببي ، ثم قال : " اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً ، من محمود الكلب حتى يُنصر " ؟! .
وبدأ القتال والتحمت
الصفوف ، فهجم الفرنج في البداية على ميمنة الجيش الإسلامي حتى تراجعت الميمنة
وبدا وكأنها انهزمت ، وكانت تلك خطة من قبل المسلمين اتُّفِق عليها لكي يلحق فرسان
الفرنج فلول الميمنة ، ومن ثم تنقطع الصلة بينهم وبين المشاة من قواتهم ، فيتفرغ
المسلمون للقضاء على المشاة ، فإذا رجع الفرسان لم يجدوا أحداً من المشاة الذي
كانوا يحمون ظهورهم .
وبهذه الخطة أحاط بهم
المسلمون من كل جانب ، وألحقوا بهم هزيمة مدوية ، وخسائر فادحة قُدِّرت بعشرة آلاف
قتيل ، ومثل هذا العدد أو أكثر من الأسرى ، وكان من بين الأسرى أمير "
أنطاكية " ، وأمير " طرابلس " ، وحاكم " قيليقية "
البيزنطي ، وقد أسر جميع الأمراء عدا أمير " الأرمن " .
وفي اليوم التالي استولى نور الدين على " حارم "
بعد أن أجلى الفرنج عنها ، وكان ذلك فتحاً كبيراً ، ونصراً مبيناً أعاد للمسلمين
الهيبة في قلوب أعدائهم ، وأعز الله جنده وأولياءه في هذا الشهر المبارك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق