الأندلس غروب الشمس وبزوغ الفجر
|
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم في ليلة أرق بها الفؤاد وأصبح ينوح بصوت خافت فمسحت دمع عينيه قائلا : ما بالك أيها المكلوم ، أوَ تشتكي ألما أو تعاني حزنا ، أجفاك حبيب ، أأغضبك قريب .. فشهق شهقة كادت تمزق أضلاعي ونحب بصوت عال ، ضممته إلى صدري ، ووضعت أناملي بين جفونه قلت : بح يا قلبُ ، اشكِ ، أنا أسمع أنا أُصغِ .. قال : يا مَلِكِي .. أو ما تعلم أن هذه الليلة في تاريخ أمتي ليلة ليلاء سوداء كالقطران ، في هذا اليوم طُعنت أمتي طعنة أنفذت في جسدها فما زالت تبكي دما وتنزف ألما ، ولم نرَ رجالا كصلاح الدين يُضمدون الجراح وينادون بالكفاح ، ناموا وكلما مر عليهم يوم ازداد نوما وكسلا .. قلت : أُحلِّفك بالذي خلقك ما هذا الحدث فقد ضقت ذرعا من كلامك .. قال وهو يتأوه ويتثاقل بالكلام :: الأندلس .. وما أدراك ما الأندلس، نسيتم خبرها وعفيتم على أثرها فأصبحت نسيا منسيا وتاريخا مطويا ، رضيتم بالدون ، واسترحتم للهوان، وامتطيتم الفراش الوثير ، ونسيتم تاريخا تليدا رفع من بُنيانكم ، وشاد حضارتكم فأصبحتم منارا في دياجير الظلم ، وستارا لقرون الظلام .. فوددت البكاء فلم تستطع عيني البكا ، قلت ياعين حتى أنت ؟! جودي بالدمع ياعين جودي ، اتق الله في ولا تذبحيني .. فجادت كالمزن تسح سحا .. فغسلت وجهي بالدمع ثم قلت يا فؤاد اربط على نفسك .. ودعني أدرس حالهم ومآلهم ، فقد خذلني الشيطان فلم أعرف من خبرهم كثيرا . قال أنا لها يا سيدي ، هؤلاء أمة أراد الله لهم هجرة بعد الإقامة وسفرا بعد المكث فاستوطنوا بلادا زهرُها باسم وشجرها ضاحك وماؤها جذلان ، وأهلها لم تر عيون أجمل منهم ولا أبهى ، فرفعوا راية الدين واستوثقوا من عرى الإيمان وبذلوا يد العلم، فخصبت أفكارهم وأنتجت ثمار علمهم، فآنقت بلادُهم ، وكانت ثغورهم ملأى بالرجال ، وعقولهم طافحة بالرجحان .. وفي كل قرن يعلو كعبهم حتى تمّوا ، وآفة التمام النقصان .. لكل شيء إذا ما تم نقصان .. فلما صعدوا أعلى المنارة هبّت عليهم ريح عاتية فهبطوا شر هبوط واستأسدت الكلاب من حولهم فتعاوت عليهم من كل ثَنِيَّة وما زالوا ينهشون لحما ويتركون لحما حتى تهارشوا عليها فأكلوها ومزقوها شر ممزق .. قلت ياقلب : كفى بالله ، ما هكذا تورد الإبل .. لتأتِينِّي بسلطان مبين ، فمكث غير بعيد ثم قال : بلى كانت نعمُ الله عليهم تترى ، وفضله عليهم ظاهر ، فلما رضوا بالحياة الدنيا وخنعوا عن الجهاد سلط الله عليهم عدوا من أنفسهم فتقاتلوا فيما بينهم ، وتسابقوا إلى تيجان الحُكم ، وركلوا الثغور بأقدامهم ورفعوا سلاحهم بوجه إخوانهم فصارت دويلات في دولة ، وملوكا بلا ملك ، فهذا أسد الدين ، وهذا القائم بأمر الله إلخ .. ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد . فاستعان بعضهم بالشرك على الإسلام كي تسلم له الدنيا ، ورضوا بأكل الخنزير راغبين عن كرام الإبل فحفروا لإخوانهم حفرة سقطوا بها ثم كانت لهم قبرا . فأخذت بلادُ الكفر زهرةَ حضارتهم ، ونسبوا لأنفسهم علمهم، فسادوا على الأمم واشتروا الذِّمم ، فدانت لهم البلاد وخضع لهم العباد . فغدت الأندلس في التاريخ مكتوبة ، فناحت "قرطبة" وتجاوبت "غرناطة" وبكى "القصر الأحمر" ، "وشاطبة" الثكلى ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ). ( يعز من يشاء ويذل من يشاء ) هي الأمور كما شاهدتها دول .. من سره زمن سائته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحد .. ولا يدوم على حال لها شان فأطرقت إطراقة استحضرت بها تاريخنا ثم قلت له : والله لمصيبتي ببعض أبناء أمتي أشد من مصيبتي بالأندلس !! . فنظر إلي شزرا وقال ما تقول ؟!! قلت يا سيدي لم تأخذ أمتي العبرة مما نزل ، بل أعاد التاريخ نفسه ووقعوا في الشراك عَينه . فابتسم ضاحكا كالشيخ حين يحدث صبيّه وقال : ارفع رأسك فأنت شامخ ، ورابئ بنفسك أن ترعى مع الهمل ، فما زال الدين قائما ، ورايةُ الله مرفوعة ، وكل يوم يزداد ضياء الإسلام ، وإن نُكبنا في موضع فنحن في غيره قائمون ، وإن ذهبت منا الدماء فلأجل الله نسترخصها ، وإن موعدنا الصبح أليس الصبح بقريب ؟!! هذه بوادر النصر لاحت ، وضياء الفجر برق ، فما هي إلا أن نصلي الفجر في جماعة فنكون صفا واحدا يتقدمنا العلماء وتمشي عساكر الإسلام تنبض بشباب الإسلام فنفتح القدس ونصلي فيها الظهر وما تشرق الشمس إلا ونحن على تلال قرطبة .. قلت : أراك متفائلا وأنت .. فقطع كلامي قائلا : ما خاب من اعتصم بالله واستمسك بحبل رسوله وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والله أكبر والعزة لله . فجافيت جنبي عن مضجعي وذهبت لصلاة الفجر . تنبيه : تم سقوط غرناطة في 2 ربيع الأول عام 897 هـ ما يوافق 2 يناير 1492 فقد مضى على سقوطها 520 عاما . داود العتيبي |
آخر أخبار قناة العربية
آخر موضوعات المدونة
2012-06-05
الأندلس غروب الشمس وبزوغ الفجر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق