الابتلاء في الحياة
جعل الله -تعالى- الابتلاء سنّة ماضية في الحياة الدنيا، يختبر المولى -سبحانه- عباده بها، ويميّز بها الخبيث من الطيّب، ويرفع بها درجات المؤمنين، الذين يتلَقّون كلّ ابتلاء بالصّبر والرّضا عن أفعال الله تعالى، ومن حِكمة الله -سبحانه وتعالى- أنّ هذه الابتلاءات التي تعرِض للعبد في دنياه من شأنها أنْ تزيد تعلّقه فيما عند الله تعالى، وتعمّق إيمانه بهوان الدّنيا ونقصان ملذّاتها، وأنّ الدار الآخرة هي دار الخلود، والجنّة مكان تحصيل الشّهوات والملذّات، ومن هنا حثّ الإسلام على التّحلي بالصَّبْر؛ فما هو الصَّبْر، وما هي فضيلته، وما هي أنواعه؟
أنواع الصَّبْر
الصَّبْر الواجب على المسلم ثلاثة أنواع:
[١] الصَّبْر على فعل الطّاعات وأداء الواجبات: حيث إنّ النفس بطبعها تميل إلى الشّهوات، وهذا مانع للعبد من الانقياد السريع لفعل الطّاعة، لذا يلزم المرء في هذا النوع من أنواع الصَّبر أنْ يعوّد نفسه على خُلُق الصَّبر في ثلاثة مواضع؛ الأوّل: قبل البدء بالطّاعة يَحْسُن بالمسّلم أنْ يتفقّد نيّته ويطهّرها من كل شائبة رياء، ويستحضر الإخلاص لله -تعالى- وحده، والثّاني: الصَّبْر أثناء قيامه بالطّاعة، فيحرص المسّلم على أدائها على الوجه المشّروع وفق ما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والثّالث: الصَّبْر بعد أداء الطّاعة، فيحرص أنْ لا يُدخل لنفسه العَجب أو محبّة ثناء الخَلْق؛ فيُفسِد على نفسه عمله، وعلى الدّاعية إلى الله -تعالى- أنْ يعلم أنّ الصَّبْر سلاحه في طريق الدّعوة، وأنْ يستذكر خطى الأنبياء وسيرتهم في تحمّل الأذى وصنوف الصدّ عن الدّعوة، من نوح -عليه السّلام- إلى خاتم الأنبياء محمّد صلّى الله عليه وسلّم. الصَّبْر عن فعل المعاصي وارتكاب المحرّمات: حيث إنّ الدنيا بملذّاتها وشهواتها تُشكّل ابتلاء من نوع آخر في مسيرة حياة المسلم، لذا فإنّ العبد محتاج لسلاح الصَّبْر لمواجهة هذه المُغريات الكثيرة والمتنوعة التي تعرضُ له في حياته، ومن شهوات الدنيا التي يدفعها المسّلم عن نفسه بالصَّبْر كي لا تُعْسِر عليه سلامة المسير وفق مراد الله -تعالى- شهوة النّساء والمال والمتاع وغيرها، ويستذكر المسّلم في هذا المقام قصة قارون ومصيره بعد أنْ أغدق الله -تعالى- عليه من صنوف المال والذّهب والفضة، ثمّ أنكر فضل الله -سبحانه وتعالى- عليه؛ فخسف الله به الأرض، وجعله عبرة لأولي القلوب والأبصار، قال الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ).[٢] الصَّبْر على أفعال الله والابتلاءات والنّوازل العصيبة: حيث إنّ من طبيعة الحياة الدنيا أنّها لا تصفو لأحد، ولا يسلم من آلامها وبلائها بَرّ ولا فاجر، ولكنّ المؤمن بدافع الرّضا عن أفعال الله -سبحانه- وأقداره يواجه كلّ الابتلاءات بثبات وجَلَد، وهو بذلك هادىء النّفس مطمئن البال؛ لأنّه على يقين أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويرى المؤمن أنّ أنبياء الله -تعالى-وهم صفوة خَلْقه، وأفضل إنسه قد ابتلاهم المولى -سبحانه- بأنواع كثيرة من الابتلاءات، لكنّهم واجهوها بالرّضا والتّسليم والصَّبْر الجميل، ولقد صبر أيوب -عليه السّلام- على المرض وفقدان الأهل والولد، وصبر يوسف -عليه السّلام- على ما حلّ به من بلاء السّجن والافتراء إلى أن حصحص الله -تعالى- الحقّ وأظهره، أمّا النبيّ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- فقد صبر في مواقف كثيرة منذ بعثته إلى وفاته.
تعريف الصَّبْر وأهميّته وفضله
للصّبر دلالة لغوية تعين على فهم مفهومه الشرعي المُراد.
تعريف الصَّبْر
الصَّبْر في اللغة: صَبْر اسم، والفعل منه صبَرَ ومصدر الفعل هو صَبْر، ونقول: صبَرَ على وصبَرَ عن، فهو صابِر، وصبَر المرء: بمعنى رَضِي وتحمّل وانتظر باطمئنان ودون تعجّل، والصَّبْر هو حُسْن التّحمّل والجَلَد دون شكوى أو جزَع.
الصَّبْر في الشّرع: هو منع المرء نفسه عمّا حرّم الله تعالى، وإلزام النّفس بما فرض الله سبحانه وتعالى، وحَبْسها عن الشكّوى والسّخط على أفعال الله عزّ وجلّ، وقيل الصَّبْر هو: منع النّفس من الشكاية حال وقوع البلاء دون الصًّبْر عن الشكّوى إلى الله تعالى.
أهميّة الصَّبْر وفضله
الصَّبْر في الإسلام أخذ جانباً واسعاً من الاهتمام؛ فقد ذُكر في القرآن الكريم في ما يزيد على تسعين موضعاً، ثمّ إنّ شعائر الدّين وشعائر الإسلام ترتبط به ارتباطاً وثيقاً، فلا غنى للمسّلم عن الصَّبْر في عباداته بكلّ مجالاتها،
أمّا فضائل الصَّبْر فهي أكثر من أنْ تُحصى، وفي ثمرات تحصيله عون للمرء على اكتسابه، وتعويد النّفس عليه، ومن فضائل الصَّبْر ما يأتي:
الصَّبْر يعمل على تمكين الإيمان بالله -تعالى- في قلب العبد: وقد عدّه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من مراتب الإيمان.
الصَّبْر سبب لتحصيل الإخبات والخضوع إلى الله تعالى؛ حيث قال: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ*الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
إنّ الصَّبْر سبيل لتمكين المؤمن من مهمّة الاستخلاف في الأرض؛ فقد قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
إنّ الصَّبْر سبب نزول رحمة الله تعالى، قال الله سبحانه وتعالى:(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
إنّ الصَّبْر سبب في محو الخطايا؛ ففي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذىً، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ).
إنّ الصّابر موعود من الله -تعالى- بالأجر العظيم، فقد قال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ).
إنّ الصّابر يحظى برعاية الله -تعالى- ومعيّته ومحبّته، قال الله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ مَعَ الصّابِرينَ)،
وقال أيضاً: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق