عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-:
( من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ) (1)
أجمل ما في المشاعر النبيلة أن تتحول إلى واقع عملي ولا تقف عند حدود الكلمات الصماء والشعارات الجوفاء، فالترجمة الفعلية لهذه المشاعر هي المؤشر والبرهان الأوحد على صدقها ونبلها، وتتجلى روعة المنهج الإسلامي في هذا النجاح الباهر في عملية التحول تلك التي خلقت في أبنائه نماذج شامخة في الإيثار والتعاون قلما نجد أمثالها في ظل المجتمعات التي تسودها القوانين الوضعية والفلسفات الأرضية، لتتفوق المناهج الربانية مرة أخرى على المناهج الوضعية التي ألقت بأتباعها من العلمانيين والقوميين في هوة سحيقة صاروا فيها عبيدا لنزواتهم ومصالحهم الشخصية وفق قانون شيطانهم الأكبر «الغاية تبرر الوسيلة».
قال تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}[المائدة:2] إنها قمة في ضبط النفس وفي سماحة القلب .. ولكنها القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها لكي تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء، وهو تكليف ضخم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان، ويخوفها عقاب الله ويأمرها بتقواه، ولقد استطاعت التربية الإسلامية بالمنهج الرباني أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية والاعتياد لهذا السلوك الكريم، وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وهذا الاتجاه.
كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» .. كانت حمية الجاهلية ونعرة العصبية، كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى، وكان الحلف على النصرة في الباطل قبل الحق، وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله، ثم جاء الإسلام والمنهج الرباني للتربية ليربط القلوب بالله وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله، جاء ليخرج العرب ويخرج البشرية كلها من حمية الجاهلية ونعرة العصبية وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء، والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية وأفق الإسلام هي المسافة بين قول الجاهلية «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» وقول الله العظيم: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وشتان شتان !! (2)
وقال -صلى الله عليه وسلم-:
- ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) (3)
- ( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه ) (4)
- ( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ) (5)
- ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) (6)
- ( من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ) (7)
- ( من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ) (8)
- ( ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ) (9)
- ( من لا يشكر الناس لا يشكر الله ) (10)
- ( من أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له ) (11)
- ( من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ) (12)
وهذه حقيقة الفتوة، وهي أن يكون العبد أبدا في أمر غيره، وقيل هي أن لا تحتجب ممن قصدك، قال ابن عمر -رضي الله عنه-: لقد رأيتنا وما أحدنا بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم.
وقال الحسن: كنا نعد البخيل الذي يقرض أخاه (13)
وقال أبو الأعرج: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيها أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه محاربين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا (14)
وقال ابن القيم: وما رأيت أحدا أجمع للفتوة من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم، وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه. ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضي عنه (15)
قال المناوي: ( من استعاذكم ) أي من سأل منكم الإعاذة مستعيناً ( باللّه ) عند ضرورة أو حاجة حلت به أو ظلم ناله أو تجاوز عن جناية ( فأعيذوه ) أي أعينوه أو أجيبوه فإن إغاثة الملهوف فرض وفي رواية بدل أعيذوه أعينوه أي على ما تجوز الإعانة فيه {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2] ( ومن سألكم باللّه ) أي بحقه عليكم وأياديه لديكم أو سألكم باللّه أي في اللّه أي سألكم شيئاً غير ممنوع شرعاً دنيوياً أو أخروياً ( فأعطوه ) ما يستعين به على الطاعة إجلالاً لمن سأل به فلا يعطى من هو على معصية أو فضول كما صرح به بعض الفحول ( ومن دعاكم فأجيبوه ) وجوباً إن كان لوليمة عرس وتوفرت الشروط المبينة في الفروع وندباً في غيرها ويحتمل من دعاكم لمعونة في بر أو دفع ضر ( ومن صنع إليكم معروفاً ) هو اسم جامع للخير ( فكافئوه ) على إحسانه بمثله أو خير منه ( فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له ) وكرروا له الدعاء ( حتى تروا ) أي تعلموا ( أنكم قد كافأتموه ) يعني من أحسن إليكم أيّ إحسان فكافئوه بمثله فإن لم تقدروا فبالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المثلية، ووجه المبالغة أنه رأى من نفسه تقصيراً في المجازاة فأحالها إلى اللّه ونعم المجازي هو، قال الشاذلي: إنما أمر بالمكافأة ليستخلص القلب من إحسان الخلق ويتعلق بالملك الحق (16)
د/ خالد سعد النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق