إنَّ الحسناتِ والسيئاتِ مما كتبَهُ الله –عز وجلَّ- على كلِّ عبدٍ مكلف، فمن مستكثرٍ ومن مقلٍ، ومن متطلبٍ لمزيدِ العفوِ والثواب بالحسنات، ومن مستغرق في الذنوب والعقاب بالسيئات؛ وقد جعلَ الله - تعالى -سبيلاً لمن أرادَ أن يزدادَ في الحسناتِ وكذا لمن أراد استبدالَ السيئاتِ بالحسناتِ؛ وذلك:بكثرةِ الطاعاتِ، ومحاسنِ النيات، قال - تعالى -(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وقال (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).
* إنه وحينما كنتُ أتدارسُ كتابًا جليلاً من كتب العقيدة، وقفتْ عيني على حديثٍ عظيم الرحمةِ، جليلِ القدر؛ أسيلُ القلب، سليل الفؤاد....
أخرج الطبراني في (المعجم الكبير) (7781) عن أبي أمامة: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
صححه الألباني في [السلسلة الصحيحة] [3 / 210] وجوَّد إسناده الإمام الهيثمي، وتكلَّمَ فيه بعضُ أهل العلم المعاصرين؛ وليس فيه: أنه يأمر صاحب الشمال بإلقاء السيئة حتى يلقي من حسناته واحدة، ولا أن صاحبَ اليمين أمير عليه؛ ولا يوجدُ لذلكَ أصلاً، وقد أخرج في ذلك الطبراني من حديثِ أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال فإذا عمل حسنة أثبتها، وإذا عمل سيئة قال له صاحب اليمين: امكث ست ساعات. فإن استغفر لم يكتب عليه وإلا أثبت عليه سيئة)) فكلُّ ذلك لم لا يصح مرفوعًا.
الله أكبر!؛ انظر إلى عميمِ رحمةِ الله وفضلهِ، ومزيد عفوه وكرمه، فما رضيَ الله يومًا لعبدٍ عصيانه، وما كانَ عنده أفرح له من الازديادِ في الحسنات، والكفِّ عن السيئات، والندمِ عندَ العصيان، والرجوع إلى الواحد الديان، بإنابةٍ وخضوع، وذل وخشوع، يصحبُه الاعتراف بالقصورِ والتقصير، ويردفهُ الثقةُ به - سبحانه -، فإنه هو العفو القدير...
ولا يغترنَّ مؤمنٍ بمثلِ هذا فيزداد في العملٍ سوءًا، أو يزيدُ عليه إصرارًا، إنما هو أملٌ طيبٌ لكل مؤمنٍ صادقٍ يرتجي رحمةَ ربه ويخشى عذابه.. يكره أن يقابل الله بمعصيةٍ فإذا أكرهته النفسُ الأمارة على سوء الصنيع استرجع وأناب واستغفر، فهذا حال المؤمن المتقي ربه، جعلنا الله وإياكم منهم...
وقد تأملتُ في مفهوم "الحسنات والسيئات" فاستوقت واستعبرت كثيرًا... ومن ذلك:
(1) نظرتُ إلى "عظم فضل الله" في (الحسنات) وحبِّ الازدياد منها ومضاعفتها، و (السيئات) وكره فعلها والتقليل من إثم فاعلها.... فقد جاءَ فضل الله - تعالى -وكرمه في "باب الحسنات" قبل علمها، وعندَ عملها، وبعدَ عملها، وكذا فضل الله في "باب السيئات" قبل عملها، وعند عملها، وبعد عملها.
فأما الحسنات.......
(قبل عملها) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)).
(عند علمها) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ)).
(بعدَ عملها) قال الله –عز وجل- (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وقال (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)).
وأمَّا السيئات.......
(قبل عملها) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)).
(عند علمها) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)).
(بعدَ عملها) قال الله –عز وجل-: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وقال (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)).
(2) الحسناتُ تذهبُ السيئات، ولا تذهب السيئات الحسنات، فأما في الأول فلا أعلم في ذلك نزاعًا، وأما الثاني: فعلى خلاف، قال شيخ الإسلام: هل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة، منهم من ينكره، ومنهم من يثبته اه.
قال الإمام أبو العباس القرطبي - رحمه الله -: " والعقيدة أن السيئاتِ لا تبطل الحسناتِ ولا تحبطها" اه.
* والصوابُ من ذلك كله: أن السيئات قد تحبط بعض الحسنات على اعتبارِ نوعيتها، فهذا الرجل -الذي تألَّى على الله ألاَّ يغفر الله لفلانِ- قد أحبطَ الله عمله! وثبتَ في الصحيح مرفوعًا (( من تركَ صلاة العصر فقد حبط عمله))، وإلى هذا الاختيار ذهب إليه شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو منسوبٌ إلى أكثر أهل السنة.
عن الحسن قال: ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا، والله - عز وجل - يقول (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ) إلى قوله (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ).
قال شيخ الإسلام: ليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة، كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة. الاستقامة (1/463).
(3) ألا تعلمونَ "كرم العفو"؟ نعم إنه في قوله - تعالى-: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام – (( ليأتين ناس يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات قيل: من هم؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: الذين يبدل الله - تعالى -سيئاتهم حسنات))، قال الألوسي: "ويسمى هذا التبديل كرم العفو، وكأنه لذلك قال أبو نواس:
تعض ندامة كفيك مما *** تركت مخافة الذنب السرورا
ولعل المراد إنه تغفر سيئاته ويعطى بدل كل سيئة ما يصلح أن يكون ثواب حسنة تفضلاً منه - عز وجل - وتكرماً لا أنه يكتب له أفعال حسنات لم يفعلها ويثاب عليها اه.
(4) الحسنةُ من خيرِ الحسنةِ الأولى، والسيئة من شرِّ السيئة الأولى، وهذه قاعدةٌ جليلةُ القدر في (الحسنات والسيئات)، لذا قال بعضُ السلف: " من ثوابِ الحسنةُ: الحسنةُ بعدها، ومن عقوبةِ السيئةِ: السيئةُ بعدها" فانظر إلى الشق الأول في قوله - تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) وإلى الشقِّ الآخر في قوله - تعالى-: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى)، لذا يقول شيخ الإسلام في (الاستقامة) (1/11): عاقبة الحسنات حسنات؛ وعاقبة السيئات سيئات اه.
يقولُ ابن القيم - رحمه الله - في (الجواب الكافي) (1/36) في "مساوي المعصية" قال: ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها؛ كما قال بعض السلف: أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها؛ فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها "اعملني أيضا"، فاذا عملها؛ قالت الثانية كذلك وهلم جرا فيتضاعف الربح وتزايدت الحسنات؛ وكذلك كانت السيئات أيضا حتى تصير الطاعات؛ والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة" اه.
(5) أطايبُ الكلم الحسن في ما جاءَ عن السيئ والحسَن، وقد انتقيتُ للقرَّاءِ الكرام بعض الآثار الجميلة في هذا الباب:
1) قال أبو ذر - رضي الله عنه -: " الحمد لله الذي جعلنا من أمة تغفر لهم السيئات ولا تقبل من غيرهم الحسنات". (البيان والتبيين) (1/522).
2) قيل لابن عباس: " أيما أحب إليك رجل يكثر من الحسنات ويكثر من السيئات؟ أو يقل من الحسنات والسيئات؟ قال: ما أعدل بالسلامة شيئا" اه. (البيان والتبيين) (1/508).
وقال شيخ الإسلام في (الفتاوى) (20/110): ترك الحسنات أضرُّ من فعل السيئات اه.
............. *** وليسَ بذِي زرعٍ سوَى الحسناتِ
3) قال عبيد الله بن عَبد الله بن عُتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنات في إثْر السيئات، وأقبحَ السيئات في إثر الحَسنات، وأحسن من هذا وأقبح من ذلك: الحسنات في إثر الحسنات، والسيئات في إثر السيئات.
(العقد الفريد) (2/312).
4) قال عيسى - عليه السلام -: تعملون السيئات وترجون أن تجازوا عليها بمثل ما يجازى به أهل الحسنات، أجل لا يجنى الشوك من العنب.
فقال ابن عبد القدوس:
إذا وترت امرأ فاحذر عداوته *** من يزرع الشوك لا يحصد به عنباً
(العمدة في محاسن الشعر وآدابه) (1/211).
5) قال يحيى بن معاذ: اجتناب السيئات أشد من اكتساب الحسنات. (محاضرات الأدباء) (1/495).
6) عن منصور بن زاذان قال: الهم والحزن يزيدان في الحسنات، والأشر والبطر يزيدان في السيئات. (الهم والحزن) (1/39).
7) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: إن الله حمد أفعالاً هي الحسنات ووعد عليها، وذم أفعالاً هي السيئات وأوعد عليها اه.
وقال أيضاً - رحمه الله -: فعل الحسنات له آثار محمودة في النفس وفي الخارج، وكذلك السيئات، والله - تعالى -جعل الحسنات سبباً لهذا والسيئات سبباً لهذا، كما جعل السم سبباً للمرض والموت، وأسباب الشر لها أسباب تُدفع بمقتضاها، فالتوبة والأعمال الصالحة يمحى بها السيئات، والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات.
8) قال عبدُ اللهُ بن عباس: إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وزيادة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق اه. (روضة المحبين) (1/424)، وأما ما رويَ نحوه مرفوعًا فهو منكر.
9) قال الإمام ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (2/147): إنَّ الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيِّئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمَن زرَع خيراً مِن قول أو عمل حصد الكرامةَ، ومَن زرع شرًّا من قول أو عمل حصد غداً النَّدامةَ اه.
10) قال شيخ الإسلام (1/86): جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم اه. وقال في موطنٍ آخر: الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها (20/74).
11) قال شيخُ الإسلام (20/ 122): فعل الحسنات يوجب ترك السيئات، وليس مجرد ترك السيئات يوجب فعل الحسنات.
12) قال شيخُ الإسلام كما في "المدارج" (2/ 156): التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها اه.
* فاللهم زدْ في حسناتنا، وباركْ لنا في أعمالنا، وأبعدْ عنَّا الفتنَ والشرور، وأصلح قلوبنا لأرشدِ الأمور، ما ناجاكَ عبدٌ فرددته، ولا رجاكَ طائعٌ فأبعدتَه، ذاكَ أنَّ "بيدكِ الخير" و (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
* اللهم ارزقنا الرغبة في الآخرة حتى نعرف صدق ذلك في قلبنا بالزهادة منا في دنياينا. اللهم ارزقنا بصرا في أمر الآخرة حتى نطلب الحسنات شوقا، ونفر من السيئات خوفا.
معاذ إحسان العتيبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق