كم هو عجيب ومؤسف ما يتعامل به الكثير من الناس في حواراتهم وخلافاتهم وأحكامهم على الآخرين، من ابتعادهم عن العدل والإنصاف، ووقوعهم في الظلم والإجحاف.. فما هو سبب ذلك وما علاجه؟
1ـ العلم أساسُ كلِّ فضيلة، ومنبعُ كلِّ خصلة حميدة، فكلما ازداد الإنسان علماً نقصت المصائب والمشكلات التي قد يقع فيها، ونقصت المداخل والحيل التي يستطيع الشيطان من خلالها أن يفسد على المؤمن عبادته..
فالذي يقنط من رحمة الله، ينقصه العلم بسعة رحمة الله وفضله وكرمه..
والذي يعجب ويفخر بعمله، ينقصه العلم بضعفه وتقصيره، وينقصه العلم بعظيم حق الله عليه..
والذي يكفِّر المسلمين ويستحل دماءهم، ينقصه العلم بأحكام الدين..
والذي يضيع وقته فيما لانفع فيه أو فيما هو قليل الأهمية، ينقصه العلم بالأولويات..
وهكذا كلما تعلم الإنسان أكثر استطاع أن يعمل ما هو أفضل، وابتعد عن كثير من الأخطاء والمصائب..
فليس هناك ما يعظم نفعه على الفرد والمجتمع مثل العلم، وليس هناك ما يعظم ضرره وفساده مثل الجهل..
فكثير من المشاكل أهم أسبابها الجهل، وحلولها لا تكون إلا بالعلم.
2ـ إن مَنْ يريد أن يتعلم العلم على أصوله الصحيحة ويكون منصفاً متزناً، عليه أن يأخذ العلم عن أهله الموثوقين، ويُنوِّع مصادره، ويُكثِر من الذين يستفيد منهم ويأخذ عنهم..
فكلما ازدادت معرفة الإنسان، اتسع صدره لما يسوغ فيه الخلاف، وزاد احترامه للأطراف الأخرى.
ومن قَلَّ علمُهُ كَثُرَ اعتراضه فيما لا ينبغي الاعتراض عليه.
فليس كلُّ نقدٍ سببه: العلم، فكم من نقدٍ لم يأتِ إلا من الجهل وضيق الفهم..
فزيادةُ العلمِ مع سلامةِ القَصْدِ يحلِّقَانِ بصاحبهما إلى سماء الإنصاف، والجهلُ واتباعُ الهوى يهويانِ بصاحبهما إلى هُوَّةِ الإجحاف..
3ـ والجهلُ خيرٌ من علمٍ مقترنٍ بالهوى والبغي..
قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)، فبيَّنَ اللهُ سببَ اختلافِهم بقوله: (بَغْياً بَيْنَهُمْ). وهكذا العلم حين يقترن بالظلم والبغي يكون وبالاً على صاحبه..
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)..
4ـ كم هو مؤسف أن يجد بعض الناس متعتهم في إخراج الكثير من المسلمين من أهل السنة، وتضليلهم وتبديعهم، ويريدون تضييق دائرة الإسلام الكبيرة وحصرها في مذهبهم فقط، فالدين العظيم الذي جعله الله رحمة للعالمين، يجعلونه على الناس نقمة وعذاباً..
وكأنهم يقصرون أبواب الجنة على أنفسهم ولا يريدون لها أن لا تكون لغيرهم!
فهل مصيبة هؤلاء: الجهل؟ أم ضيق العقل والنظر؟ أم اتباع الهوى؟ أم الأنانية وعدم حب الخير للآخرين؟ أم هي مزيج من ذلك كله؟
5ـ شتان بين من يحاور وهو يريد الوصول إلى الحق، وبين من يريد أن يثبت ويبرهن أن الطرف الآخر على ضلال، فتراه إذا تراجع الآخر عن خطئه لا يزال يقرِّعه ويؤنِّبه ويبيِّن له أنه الآن قد غيَّرَ كلامه بعد أن كان منحرفاً وضالاً..
وكان الأحرى به أن يساعده على قبول الحق باحترامه لأنه تراجع عن خطئه، وليس بأن يحول بينه وبين قبوله للحق بتقريعه وتأنيبه!
6ـ إذا حاور أحداً ولم يقتنع بكلامه، اتهمه بأنه لا يريد الرجوع إلى الحق وسرد له الأدلة على أهمية الرجوع إلى الحق!
ومن قال له أنه قد اقتنع بكلامه ولكنه لا يريد الأخذ به! فقد تكون حجته غير مقنعة، وقد يكون عنده من الأدلة ما ينقض به كلامه..
7ـ يختلف معه في الرأي فيقول له بلهجة حادة: اتق الله!
وكأنه لم يختلف معه إلا لنقص في التقوى عنده..
الحث على التقوى مطلوب ومحمود، لكن عندما يأتي بسياق يفهم منه اتهام الآخر، فاتهام الآخر لا يمكن أن يكون محموداً..
8ـ المواقف التي تستفز الإنسان لها فوائد كثيرة، فهي تدرب على الصبر، وتشحذ العزيمة، وتثير الذهن، فيأتي بالأفكار والمعاني التي لم تكن لتخطر له لولا هذا الموقف..
وكم مِنْ أعمالٍ علميةٍ عظيمةِ الفوائد، كان سببها: التدافع والاختلاف في المواقف والأفكار..
أو وجود أعداء يريدون الإساءة، مما أدى بكثير من الناس إلى ردة فعل معاكسة دعتهم إلى الانتصار للحق.
فمن العقل والحكمة أن يتعامل الإنسان مع مَنْ يختلف معه، ولا يقتصر على مَنْ يوافقه..
فالذي لا يتعامل إلا مع مَنْ يوافقه، سيخسر الكثير من الفوائد، ولن تتاح له الفرصة ليكون أكثر نضجاً وعقلاً واتزاناً..
9ـ يذمُّونَ شخصاً، لأنه تغيَّرَ ولم يَعُدْ كما كان عليه!
وهل التغير لا يكون إلا إلى الأسوأ؟ أليس هناك تغير إلى الأحسن!
فما معنى أنَّ الحقَّ قديمٌ والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل..
ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة: (تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا يَوْمَئِذٍ، وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا اليَوْمَ)..
وهل يمكن للإنسان عندما يزداد علماً وفهماً أن تبقى أفكاره كما كانت قبل أن يزداد علماً..
أليس للإمام الشافعي: المذهب القديم والمذهب الجديد؟
أليس للإمام أحمد أكثر من رواية في كثير من المسائل؟
ثم بعد كل هذا يأتي من يلمز الآخر وينتقصه بحجة أنه تغير!
ولا شك أن الحديث عن التغير في الظنيات والوسائل، وليس في القطعيات والمحكمات.
ولكن من الخلل الكبير أيضاً أن يحسب أحدهم أن كل مسألة اقتنع بها هي قطعية لا يصح فيها الاختلاف، وأن كل ما نشأ عليه هو الحقُّ وما سواه هو الضلال..
10ـ الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري والإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمهما الله هما من أكبر تلاميذ الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ومع هذا لم يتعصب الصاحبان لقول الإمام أبي حنيفة، فكثيراً ما يذكر الفقهاء قول الإمام أبي حنيفة ومخالفة الصاحبَيْن له، وقد تكون الفتوى في المذهب على قولهما..
لقد كانوا يعلمون أنَّ الانتصارَ للحقِّ هو انتصارٌ للإمامِ نفسِه، وليس الدفاع عن قول الإمام بحقٍّ أو بغير حقٍّ هو انتصارٌ له..
كم هو الفرق كبير بين هذا الموقف ـ من الإمام في تقبله للحوار ومن تلاميذه في نقدهم له ـ وبين موقف بعض الأساتذة الذين لا يقبلون النقاش من تلاميذهم، وكذلك بعض التلاميذ الذين لا يتقبلون من أحد أن ينتقد أستاذهم..
11ـ بعض الذين ليس لهم معرفة ودراية بحقيقة العلم وعمقه واتساعه إذا ذكرتَ له قولَ أحدِ الأئمةِ الأربعةِ أو غيرِهم من الأئمة والعلماء.. يقول لك غاضباً مستنكراً: أنا أريد الأخذ بالدليل!
وهل الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء لا يأخذون بالدليل؟ سواء أكان الدليل نصاً أم قياساً على نص، أو سواء أكان الدليل نقلياً أم عقلياً..
أو يريد بعضُهم الأخذَ بفقه السنة، مع أنَّ جميعَ هؤلاء الأئمةِ فقهه هو فقهٌ للسنة، فكلُّهم من أصول مذهبهم: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
لكن القرآن والسنة فيهما ما يحتمل أكثر من دلالة، وفيهما العام والخاص، والمطلق والمقيد، وفيهما ما هو ناسخ وما هو منسوخ، وغير ذلك..
فهل يستطيع أي إنسان أن يميز بين دلالات الألفاظ المختلفة، ويفرق بين الناسخ والمنسوخ.. وهل يستطيع أن يجمع بين الأدلة إذا تعارضت في الظاهر..
فكل الأئمة يريدون الأخذ بالدليل، ولكن السؤال: هل ثبت الدليل وصح عند هذا الإمام؟ فإذا ثبت وصح، فكيف فهم هذا الدليل.. وكيف يكون الجمع بينه وبين غيره من الأدلة.
فالخلاف قد يكون سببه: ثبوت الدليل أو عدم ثبوته، وقد يكون سببه: اختلاف الفهم للدليل.
فالذي يريد أن يستغني عن كلام الأئمة ويأخذ بالدليل الذي يراه ويجعل خلاف الناس لفهمه هو خلافاً للدليل، هذا إنما يحذِّرُ الناسَ من التقليد للأئمة الكبار ثم يريد منهم أن يكونوا مقلدين له!
وليس معنى هذا الكلام: استنكار الاجتهاد من العلماء المتخصصين أهل الاجتهاد، وإنما هو استنكار لمن يريد الاجتهاد وهو لا يملك شيئاً من أداوته..
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.
1ـ العلم أساسُ كلِّ فضيلة، ومنبعُ كلِّ خصلة حميدة، فكلما ازداد الإنسان علماً نقصت المصائب والمشكلات التي قد يقع فيها، ونقصت المداخل والحيل التي يستطيع الشيطان من خلالها أن يفسد على المؤمن عبادته..
فالذي يقنط من رحمة الله، ينقصه العلم بسعة رحمة الله وفضله وكرمه..
والذي يعجب ويفخر بعمله، ينقصه العلم بضعفه وتقصيره، وينقصه العلم بعظيم حق الله عليه..
والذي يكفِّر المسلمين ويستحل دماءهم، ينقصه العلم بأحكام الدين..
والذي يضيع وقته فيما لانفع فيه أو فيما هو قليل الأهمية، ينقصه العلم بالأولويات..
وهكذا كلما تعلم الإنسان أكثر استطاع أن يعمل ما هو أفضل، وابتعد عن كثير من الأخطاء والمصائب..
فليس هناك ما يعظم نفعه على الفرد والمجتمع مثل العلم، وليس هناك ما يعظم ضرره وفساده مثل الجهل..
فكثير من المشاكل أهم أسبابها الجهل، وحلولها لا تكون إلا بالعلم.
2ـ إن مَنْ يريد أن يتعلم العلم على أصوله الصحيحة ويكون منصفاً متزناً، عليه أن يأخذ العلم عن أهله الموثوقين، ويُنوِّع مصادره، ويُكثِر من الذين يستفيد منهم ويأخذ عنهم..
فكلما ازدادت معرفة الإنسان، اتسع صدره لما يسوغ فيه الخلاف، وزاد احترامه للأطراف الأخرى.
ومن قَلَّ علمُهُ كَثُرَ اعتراضه فيما لا ينبغي الاعتراض عليه.
فليس كلُّ نقدٍ سببه: العلم، فكم من نقدٍ لم يأتِ إلا من الجهل وضيق الفهم..
فزيادةُ العلمِ مع سلامةِ القَصْدِ يحلِّقَانِ بصاحبهما إلى سماء الإنصاف، والجهلُ واتباعُ الهوى يهويانِ بصاحبهما إلى هُوَّةِ الإجحاف..
3ـ والجهلُ خيرٌ من علمٍ مقترنٍ بالهوى والبغي..
قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)، فبيَّنَ اللهُ سببَ اختلافِهم بقوله: (بَغْياً بَيْنَهُمْ). وهكذا العلم حين يقترن بالظلم والبغي يكون وبالاً على صاحبه..
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)..
4ـ كم هو مؤسف أن يجد بعض الناس متعتهم في إخراج الكثير من المسلمين من أهل السنة، وتضليلهم وتبديعهم، ويريدون تضييق دائرة الإسلام الكبيرة وحصرها في مذهبهم فقط، فالدين العظيم الذي جعله الله رحمة للعالمين، يجعلونه على الناس نقمة وعذاباً..
وكأنهم يقصرون أبواب الجنة على أنفسهم ولا يريدون لها أن لا تكون لغيرهم!
فهل مصيبة هؤلاء: الجهل؟ أم ضيق العقل والنظر؟ أم اتباع الهوى؟ أم الأنانية وعدم حب الخير للآخرين؟ أم هي مزيج من ذلك كله؟
5ـ شتان بين من يحاور وهو يريد الوصول إلى الحق، وبين من يريد أن يثبت ويبرهن أن الطرف الآخر على ضلال، فتراه إذا تراجع الآخر عن خطئه لا يزال يقرِّعه ويؤنِّبه ويبيِّن له أنه الآن قد غيَّرَ كلامه بعد أن كان منحرفاً وضالاً..
وكان الأحرى به أن يساعده على قبول الحق باحترامه لأنه تراجع عن خطئه، وليس بأن يحول بينه وبين قبوله للحق بتقريعه وتأنيبه!
6ـ إذا حاور أحداً ولم يقتنع بكلامه، اتهمه بأنه لا يريد الرجوع إلى الحق وسرد له الأدلة على أهمية الرجوع إلى الحق!
ومن قال له أنه قد اقتنع بكلامه ولكنه لا يريد الأخذ به! فقد تكون حجته غير مقنعة، وقد يكون عنده من الأدلة ما ينقض به كلامه..
7ـ يختلف معه في الرأي فيقول له بلهجة حادة: اتق الله!
وكأنه لم يختلف معه إلا لنقص في التقوى عنده..
الحث على التقوى مطلوب ومحمود، لكن عندما يأتي بسياق يفهم منه اتهام الآخر، فاتهام الآخر لا يمكن أن يكون محموداً..
8ـ المواقف التي تستفز الإنسان لها فوائد كثيرة، فهي تدرب على الصبر، وتشحذ العزيمة، وتثير الذهن، فيأتي بالأفكار والمعاني التي لم تكن لتخطر له لولا هذا الموقف..
وكم مِنْ أعمالٍ علميةٍ عظيمةِ الفوائد، كان سببها: التدافع والاختلاف في المواقف والأفكار..
أو وجود أعداء يريدون الإساءة، مما أدى بكثير من الناس إلى ردة فعل معاكسة دعتهم إلى الانتصار للحق.
فمن العقل والحكمة أن يتعامل الإنسان مع مَنْ يختلف معه، ولا يقتصر على مَنْ يوافقه..
فالذي لا يتعامل إلا مع مَنْ يوافقه، سيخسر الكثير من الفوائد، ولن تتاح له الفرصة ليكون أكثر نضجاً وعقلاً واتزاناً..
9ـ يذمُّونَ شخصاً، لأنه تغيَّرَ ولم يَعُدْ كما كان عليه!
وهل التغير لا يكون إلا إلى الأسوأ؟ أليس هناك تغير إلى الأحسن!
فما معنى أنَّ الحقَّ قديمٌ والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل..
ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة: (تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا يَوْمَئِذٍ، وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا اليَوْمَ)..
وهل يمكن للإنسان عندما يزداد علماً وفهماً أن تبقى أفكاره كما كانت قبل أن يزداد علماً..
أليس للإمام الشافعي: المذهب القديم والمذهب الجديد؟
أليس للإمام أحمد أكثر من رواية في كثير من المسائل؟
ثم بعد كل هذا يأتي من يلمز الآخر وينتقصه بحجة أنه تغير!
ولا شك أن الحديث عن التغير في الظنيات والوسائل، وليس في القطعيات والمحكمات.
ولكن من الخلل الكبير أيضاً أن يحسب أحدهم أن كل مسألة اقتنع بها هي قطعية لا يصح فيها الاختلاف، وأن كل ما نشأ عليه هو الحقُّ وما سواه هو الضلال..
10ـ الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري والإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمهما الله هما من أكبر تلاميذ الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ومع هذا لم يتعصب الصاحبان لقول الإمام أبي حنيفة، فكثيراً ما يذكر الفقهاء قول الإمام أبي حنيفة ومخالفة الصاحبَيْن له، وقد تكون الفتوى في المذهب على قولهما..
لقد كانوا يعلمون أنَّ الانتصارَ للحقِّ هو انتصارٌ للإمامِ نفسِه، وليس الدفاع عن قول الإمام بحقٍّ أو بغير حقٍّ هو انتصارٌ له..
كم هو الفرق كبير بين هذا الموقف ـ من الإمام في تقبله للحوار ومن تلاميذه في نقدهم له ـ وبين موقف بعض الأساتذة الذين لا يقبلون النقاش من تلاميذهم، وكذلك بعض التلاميذ الذين لا يتقبلون من أحد أن ينتقد أستاذهم..
11ـ بعض الذين ليس لهم معرفة ودراية بحقيقة العلم وعمقه واتساعه إذا ذكرتَ له قولَ أحدِ الأئمةِ الأربعةِ أو غيرِهم من الأئمة والعلماء.. يقول لك غاضباً مستنكراً: أنا أريد الأخذ بالدليل!
وهل الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء لا يأخذون بالدليل؟ سواء أكان الدليل نصاً أم قياساً على نص، أو سواء أكان الدليل نقلياً أم عقلياً..
أو يريد بعضُهم الأخذَ بفقه السنة، مع أنَّ جميعَ هؤلاء الأئمةِ فقهه هو فقهٌ للسنة، فكلُّهم من أصول مذهبهم: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
لكن القرآن والسنة فيهما ما يحتمل أكثر من دلالة، وفيهما العام والخاص، والمطلق والمقيد، وفيهما ما هو ناسخ وما هو منسوخ، وغير ذلك..
فهل يستطيع أي إنسان أن يميز بين دلالات الألفاظ المختلفة، ويفرق بين الناسخ والمنسوخ.. وهل يستطيع أن يجمع بين الأدلة إذا تعارضت في الظاهر..
فكل الأئمة يريدون الأخذ بالدليل، ولكن السؤال: هل ثبت الدليل وصح عند هذا الإمام؟ فإذا ثبت وصح، فكيف فهم هذا الدليل.. وكيف يكون الجمع بينه وبين غيره من الأدلة.
فالخلاف قد يكون سببه: ثبوت الدليل أو عدم ثبوته، وقد يكون سببه: اختلاف الفهم للدليل.
فالذي يريد أن يستغني عن كلام الأئمة ويأخذ بالدليل الذي يراه ويجعل خلاف الناس لفهمه هو خلافاً للدليل، هذا إنما يحذِّرُ الناسَ من التقليد للأئمة الكبار ثم يريد منهم أن يكونوا مقلدين له!
وليس معنى هذا الكلام: استنكار الاجتهاد من العلماء المتخصصين أهل الاجتهاد، وإنما هو استنكار لمن يريد الاجتهاد وهو لا يملك شيئاً من أداوته..
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق