الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد. فإن شهر رمضان المبارك شهر يكثر فيه إقبال الناس على الله - تعالى - بالأعمال الصالحة، ومنها: قراءة القرآن الكريم، وهو مناسبة عظيمة؛ لجعله منطلقا لتحقيق أعظم هدف يرجوه كل مسلم في حياته، وهو: حفظ القرآن الكريم، وهذا الهدف - مع عظمته، وسموه - يسيرٌ تحقيقه على من يسره الله عليه.
ومن باب التعاون على البر والتقوى أحببت مشاركتكم في وضع خطة سهلة تساعد من وفقه الله على حفظ كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
وهذه الطريقة متوقفة على أن تغير منهجك الذي كنت تسلكه فيما سبق، وذلك لا يمكن ما لم تقتنع بأنه كان منهجا غير صحيح، وسبيل معرفة ذلك أن تسأل نفسك:
كم رمضان صمت فيما تقدم من عمرك؟ وما مقدار ما حفظته من القرآن الكريم في تلك السنين؟ فإن كنت راضيا بمحصلتك، فلا تكمل قراءة هذه الخطة فلست المعنيَّ بها، وإن كنت غير راض فاعلم أن الخلل في أمرين: أحدهما: في المنهج والتخطيط، والثاني: في المداومة والمواظبة.
أما التخطيط فيمكن لغيرك أن يساعدك عليه، وهذا ما أفعله – بحكم الخبرة الطويلة في تعليم القرآن الكريم - وأما المداومة، فإن أمرها موكول إلى همتك، وعزيمتك، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. إذا اقتنعت بما تقدم.
فإن الخطة تقضي أن تقسم العام إلى قسمين:
القسم الأول: شهر رمضان. القسم الثاني : الأشهر الأخرى من السنة: القسم الأول : شهر رمضان، وهو المنطلق والمبدأ. تلتزم فيه بحفظ صفحة واحدة في اليوم، على هذا النحو:
1. أن تستعين بالله – تعالى – وتتوكل عليه، وتستحضر أنك في عبادة من أعظم العبادات، وأجلها، وأن تعلم علم اليقين أن الشيطان لن يتركك، وسيجلب عليك بخيله ورجله، حتى يصدك عن هذا الهدف النبيل، فلا تتركه يفوز عليك، وأرغمه أيما إرغام بالتوكل، والاستعاذة، وقهر النفس الأمارة بالسوء.
2. أن تقوم بتصحيح قراءتك للصفحة المقررة، حتى لا تحفظ آيات بالخطأ، فيصعب تعديلها فيما بعد، وهذه خطوة أساسية، في غاية الأهمية. وأفضل طرق التصحيح: أن تقرأها على حافظ متقن، فإن لم يتيسر لك ذلك، فاستمع إلى أحد القراء المعتبرين المسجلة تلاواتهم – والعمدة في التعلم الشيخ الحصري رحمه الله – تستمع مرات كثيرة بانتباه تام، بأن تتابع قراءته بالنظر في المصحف، حتى تطمئن إلى تصحيح الصفحة المعينة، وكلما كان التصحيح أكمل كان الحفظ أسهل.
3. أن تكرر الصفحة كاملة من أولها إلى آخرها عدة مرات، أو تجزئها أسطرا، بحسب ما يتيسر لك، والناس مختلفون في هذا، وتجعل تلك الصفحة كل ما تقرؤه من القرآن في ذلك اليوم، بحيث لا تقرأ غيرها معها، بل خصص لها وحدها كل الوقت الذي كنت تخصصه لقراءة القرآن في السنوات الماضية، فلو افترضنا أنك في الرمضانات السابقة كنت تقرأ خمسة أحزاب في اليوم، فهذا يعني أنك ستقرأ الصفحة خمسين مرة، في المدة نفسها. وستكتشف أنك لن تزيد على الوقت المخصص لحفظ الصفحة إلا شئا قليلا عن السنة الماضية.
4. أن تعرض الصفحة التي حفظتها على قارئ متقن، فإن لم يتيسر عرضتها على شخص يمسك المصحف، وعلامة قوة حفظك لهذا القدر أن تصلي به، وأنت مطمئن.
5. أن تفعل في اليوم الثاني مع الصفحة الثانية مثل ما فعلت في الصفحة الأولى، وتزيد أن تراجع الصفحة الماضية، وتربطها بالصفحة الحالية، وفي اليوم الثالث تفعل مثل ذلك، لكن مع مراجعة الصفحتين السابقتين
وهكذا إلى نهاية شهر رمضان. ستكتشف بعد أسبوع تقريبا أمرين في غاية الأهمية:
أحدهما: أن الصفحات الأولى أصبحت متقنة جدا، والثاني: أن مدة حفظ الصفحة تبدأ في التناقص، نتيجة بدء جهة الحفظ من عقلك تقوى، باستخدامها، وهذا أمر مقطوع به بحكم التجربة، والممارسة. ومع انتهاء شهر رمضان تكون - بإذن الله - قد أنهيت حفظ ثلاثين صفحة، وهي تساوي ثلاثة أحزاب، يعني: جزءا ونصف الجزء.
القسم الثاني : ما بعد شهر رمضان من سائر العام. وبعد شهر رمضان، تقوم بما يأتي:
1. أن تجعل الثلاثين صفحة التي حفظتها رأس مالك الثمين، تحافظ عليها، كما تحافظ على عينيك، ليس بالمحافظة على حفظك السابق، بل بترسيخه، وهذا سهل يسير، وأنفع الطرق لترسيخ الحفظ أن تصلي بمحفوظك، وأن تعرضه على زوجتك، أو ولدك، أو ابنتك، أو أبيك، أو أمك، باستمرار.
2. أن تحفظ في كل يوم ثلاثة أسطر من المصحف فقط، بالطريقة التي تقدمت في القسم الأول، من حيث تصحيحها قبل الحفظ، وتكرارها، وربطها، ومراجعتها كل يوم، وتسميعها.
وهذا يعني أنك ستحفظ صفحة كاملة في كل خمسة أيام؛ لأن في كل صفحة خمسة عشر سطرا، وذلك يساوي ست صفحات في الشهر، فإذا ضربت ست صفحات كل شهر في عشرة أشهر، كان الناتج ستين صفحة - وتركنا شهرا كاملا لما قد يعرض لك من الصوارف والعوارض - وستون صفحة هي: ستة أحزاب، أي: ثلاثة أجزاء، مضافا إليها ثلاثة أحزاب رمضان، وهذا يعني أنه سيأتي عليك رمضان المقبل - إن شاء الله - وفي صدرك من كلام الله تسعة أحزاب متقنة، يعني : أربعة أجزاء ونصف الجزء.
وتفعل مثل ذلك في السنة المقبلة، وبهذا ستتم حفظ القرآن الكريم في حدود ستة أعوام، ونصف العام. **** وإذا أضفت سطرا واحدا، وحفظت في اليوم أربعة أسطر فقط، تقلصت مدة حفظك للقرآن إلى خمسة أعوام ونصف، فقط.
وهذه المدة قد تتقلص كثيرا إذا علمنا أن الذاكرة الحافظة تزداد قوة ونشاطا، بسبب إيقاظها من سباتها، وتقويتها بالقدر الذي تحفظه، وهذا أمر وقفت عله وقوفا، يصل إلى حد الجزم والقطع به.
ونجاح هذا الأمر يتوقف - بعد توفيق الله وحسن عونه - على المداومة الصارمة على حفظ القدر الذي حددته، وأن تجعله من ضرورياتك اليومية التي تزيد أهميتها على أكلك وشربك ونومك، حتى إنك قد تقتطع له جزءا من نومك، وبقدر المداومة يكون نجاح الخطة، حتى إننا لو تصورنا أن عشرة أشخاص بدؤوا معا، ففي نهاية السنة سيتضح الفرق جليا بين المتسابقين بقدر المداومة والمواظبة.
وإياك أن تستطيل هذه المدة، فهي قصيرة جدا، بالنظر إلى سمو الهدف، وعظمة المقصد. والذي يقطع عنك دابر هذه الوساوس: أن تعتبر بنفسك أولا، وبمن حولك ثانيا، ممن صام عشرين رمضان، وثلاثين، وأقل، وأكثر، من دون تحصيل أي شيء، فستعلم حنئيذ قيمة ما أنت مقدم عليه.
واعلم أنك في سعيك إلى حفظ القرآن الكريم على خير عظيم، وفضل عميم، على كل حال: إن نسأ الله في عمرك كنت من حفظة كتاب الله - تعالى - وإن مت قبل حفظ القرآن مت على نية حفظه، وبعثت على نيتك، وحشرت مع السفرة الكرام البررة.
(واعلم: أن أسوأ أنواع الفشل، وأقبح ضروب الهزيمة: أن لا تحاول أصلا، وتستصغر نفسك، وتزدريها، وتجعلها أعجز من أن تحقق ما حققه أشخاص قد تكون أنت أقدر وأجدر من كثير منهم على تحقيقه، وبذلك تظلم نفسك ظلما عظيما، لا أجد له تفسيرا إلا أنه ضرب من الحمق، وباب من خيانة النفس). وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق