وسائل التواصل في الميزان
خطبة الجمعة ليوم 15 12 2017م الموافق ل 27 ربيع الأول 1439ه
المسجد العتيق اولاد لعياضي
الحمد لله العليم الخبير، المتفضل بالإنعام والتدبير، القائل: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...... أما بعد عباد الله:فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، ومراقبته في السر والعلن؛ فالأعمال محصاة، والألفاظ مدونة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا حصاها، ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
معاشر المؤمنين:لقد جاء التحذير من خطر اللسان في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحذَّر من مخاطره وآفاته العلماء والوعاظ؛ وما من مؤمن إلا ويستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِى بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)).كان هذا في زمنٍ كان فيه اللسانُ مَلِكَ البيان، أما اليوم فقد تغيرت الحال، فصارت أصابعُ كثيرٍ من الناس تتحدث أكثرَ من ألسنتهم؛ بما فتح الله عليهم من علوم الاتصال والتواصل.بل أثَّرت تلك الأجهزة والبرامج على بعض الناس في دينهم، فنُشرت عبرها عقائد فاسدة، وعبادات مبتدعة، وشركيات خطيرة على العبد وعلى المجتمع، ووراءها من يروِّجها، كالتهنئة بأعياد الكفار ومناسباتهم، والكهانةِ والتنجيمِ وادِّعاءِ علم الغيب وغيرِها من أنواع الشرك التي يقع فيها أبناء المسلمين دون علمٍ منهم؛ لضحالة علمهم، وبُعدهم عن أهل العلم ومجالسِهِم.علاوة على ما نراه من تأثيرٍ على العبادات؛ فكم نرى من الشباب من هو مشغول بين الأذان والإقامة في المسجد بجهازه، أشغله عن ذكر الله وعن قراءة القرآن، وكم من قارئٍ للقرآن أمسك عن القراءة واشتغل بالمحادثة ومصْحَفُه في حِجْرِه، ومنهم من لا يكاد يُسلِّمُ من صلاته إلا ويلتقط جهازه لينظر فيه قبل الأذكار، وكم رأينا من المعتكفين من يُمضون أكثر أوقاتهم في المحادثات؛ ويَنْشَغِلون بها عن القرآن والذكر والصلاة، ومن الحُجَّاج من تُشغلهم عن الدعاء في أفضل المواطن، وتُلهيهم عن التعبد في المشاعر، وغير ذلك كثير مما لا يخفى، حتى أصبحت سبباً من أسبابِ الصدِّ عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، فعلى من وجد في نفسه شيئا من ذلك أن يُسارع لإصلاح حاله؛ لئلا يذهب عليه دينُه.عباد الله:لقد غيَّرت تلك الأجهزةُ والبرامجُ الأخلاقَ والسلوك والتعامل بين الناس؛ فأصبحت البيوتُ الحيَّةُ بحديث أهلها صامتةٌ كأنها خالية، واستُبدلت مجامع الناس للحديث والمؤانسة بمقاهٍ مظلمة، وبيوتُ الأجداد والجدات التي تعجُّ بالضوضاءِ في آخر الأسبوع؛ حيث يجتمع الأولاد والأحفاد، أطبق عليها صمتٌ عام؛ حيث يأتي كلُّ واحدٍ منهم متأبِّطاً جهازه، الصغيرُ منهم والكبير، والذكر والأنثى؛ فإذا أدى السلام اتجه لزاوية من زوايا الغرفة أو ناحيةٍ من نواحي المنزل؛ فيعيشُ معهم بجسده، أما روحه وعقله فمع جهازه، حتى إنه ليُكَلَّمَ فلا يَسْمع، ويُسألَ فلا يُجِيب، ولا يتحرك من مكانه إلاَّ بهزِّ جسده أو أن يُحال بين بصره وجهازه.يجوع وهو لا يعلم أنه جائع، ويعطش وهو لا يعلم أنه عطشان، وإن دُعي إلى طعامٍ أشار بيده، وإن كُرِّر عليه غَضِب، فهو سادر في جهازه لا نائمٌ ولا يقضان، ولا ذو عقل ولا سكران، ولن أُطيل في وصف حاله فكثير منا يعلمها ويعرفها.لقد أودت هذه الوسائل في كثيرٍ من الأحيان إلى العقوق، فالجَدَّةُ تسأل ولا أحد يجيبها، وتتحدث ولا أحد ينصت لها، فإذا شعرت بذلك صمتت منكسرةً النفسِ من أقرب الناس إليها.وترى الولدَ مع أمه أو مع أبيه ولا يشاركهم في حديث، جهازُهُ بين يديه ومشغول معه بنظره وعقله، وإن استحيا حاول الجمع بينهما، والله جلَّ وعلا يقول: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ [الأحزاب: 4]، حتى إذا أعياه التركيز اختار البِرَّ إن كان من الخيار فأقفل جهازه، وإلا اختار العقوق والعياذ بالله؛ وتخلص من مأزقه بالاستئذان في الخروج، وما له من حاجة؛ إلا أنه يريد أن يحادث جهازه. ولو أنه أشرك أمه وأباه فيما يرى ويقرأ لسرهما بذلك، ولكنه لا يفعل، ربما لأن ما يشاهده وما يقرؤه لا يَسُرُّ ولا ينفع بل ربما يُحزن ويضرُّ.
والواجب على الولد إذا كان بحضرة أحد أبويه أن يقفل جهازه، ويُقبِل عليه بكليَّتِه، ويُصغي إليه، ولا ينشغلُ عنه، إلا إذا كان سيُشرِكُهُ فيما يقرأُ ويشاهد، ويعلم محبَّتَهُ لذلك.ومن سوء الأدب أن ينشغل الجليسُ عن جليسِهِ بمحادثةٍ أو نحوها، إلاَّ أن يستأذنَهُ لأمرٍ لا يَحتَمِلُ التأخير.ومن المآسي التي جلبتها هذه الأجهزة والبرامج: أنها قرَّبت الرجالَ من النساء، والشبابَ من الفتيات، فأوقعت في كثيرٍ من البيوتِ الرِّيَبَ والشكوك، وأودت بكثيرٍ من الأزواج والزوجات إلى عتَبَةِ الطلاق بعد الخصام والشقاق، ولا يخفى على متابعٍ ما وصلت إليه أعدادُ حالات الطلاق، وارتفاعُ نسبَتِها ارتفاعاً مُخيفا بعد ثورة التواصل الاجتماعي.وكم من فتاة لا تعرف للشر طريقاً، ولا للخنا سبيلا، غُرِّرَ بها بهذه الأجهزةِ والبرامج.فكم سهَّلت تلك الأجهزةُ والبرامج من خلوةٍ بين ذكرٍ وأنثى، فتباسطا بالحديث، وارتفعت الكُلفَةُ بينهما، وسهرا الليالي على أوهام، وعاشا مدَّةً طويلةً في أحلام، وكثيراً ما يضحك عليها بجميل الكلام، فتُصدِّقه الضعيفةُ وتبعثُ إليه صُورَهَا، فيستغلها في ابتزازها، ويُهدِّدُها في عِرْضِها، وكم في البيوت من مآسٍ لا يعلمها إلا الله تعالى، نسأل الله عز وجلَّ أن يحفظ نساءنا ونساء المسلمين من كل مكروهٍ وسوء.ومما أفرزته تلك الوسائل بما فيها من سيل عارمٍ من المعلومات والمعارف والصور والمقاطع، تأثيرُها على عقليات الشباب والفتيات، فغَلَبَ عليهم التمردُ والتفرد، والانعزاليةُ والانطواء، وتثاقلوا الجلوسَ مع الأسرة، والتَّسَخُّط من كل شيء، حتى أصبح إرضاءُ الوالدين لأولادهم من المهماتِ العَسِرَةِ جداً، رغم ما يغمرونهم به من المال والهدايا.وانتشرت أخلاقٌ ليست سَوِيَّة، وممارساتٌ غير مَرْضِيَّة، يُفرِّغونها في نُكَتٍ سامجةٍ تُشعِلُ الحروب بين الذكر والأنثى، أو بين الطالب والمعلم، أو بين مشجعي فريقين، أو نحو ذلك، ولا يقع حدثٌ إلا وازدحمت مواقعُ التواصلِ ووسائلُهُ بمقاطعٍ ساخرة، أو تعليقاتٍ لاذعة، وقْعُهَا على أصحابها أشدُّ من وقع السياط الحارة.
ومن المُحزن: أن ترى أحدَهُم خالداً إلى فراشه، مُتعباً يغالبه النوم، وقد تكاسل عن كثيرٍ من السنن التي قبل النوم من شدة تعبه، ولكنَّه يُطِلُّ طلَّةً على جهازه قبل النوم، فيرى محادثةً فيرُدُّ على صاحبها، وتظَلُّ المحادثةُ حتى منتصف الليلِ أو بزوغ الفجر ولم يشعر بتعبه ونومه، فأمضى معها الساعات، وقد بخل على ربه بركعات، وعلى نفسه بدعوات.وإذا صحا من نومه أوَّلُ حركةٍ يقوم بها التقاط جهازه لينظر مَنْ حادَثَهُ أثناء نومه، قبل أن يذكر الله تعالى، وقبل أن يقول أذكارَ الاستيقاظ من النوم وقد ينساها.كما أنها ساعدت على نشرِ الأكاذيب، وبثِّ الأراجيف، واتهام الأبرياء، وقلب الحقائق، وتزوير الصور، فتبلغ الآفاق في ثوان معدودة، فيتضرر بها أبرياء، وقد جاء في حديث الرؤيا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ((عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ، بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمِنْخَرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولى...)) وقد فُسِّرَ في الحديث بأنه: ((فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ)).وقد يكون لإضحاك الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ)).
ولْيَعلم الناقلُ للكذب أنه أحدُ الكذابين، والراضي بالسُّخريةِ كالفاعل، فالحذَرَ الحذَرَ من اكتسابِ أوزارٍ وتضييعِ حسناتٍ بسبب هذه الوسائل، فإنها بحورٌ من الأوزارِ والآثام إن استخدمت في الشر، كما أنها مجالٌ رحبٌ لكسب الحسنات إن استُخدمت في الخير، ولم تُضيَّع بسببها الواجباتأعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله.....أما بعد عباد الله:فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وانظروا ماذا تكتُبُون وماذا تُرسِلُون؛ فإنه يُحصى عليكم بخيره وشره ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80].
أيها المسلمون:إنَّ هذه الثورة العظيمة في التواصل بين الناس، من تقارب الزمن المذكور في أشراط الساعة؛ فقد قرَّبت البعيدَ، وكسرت جميع الحواجز، وألغت الحدود؛ فتُحادِثُ من تشاءُ في أي وقت تشاء، وبأي أسلوب تشاء.وهي من فتن العصر التي عمَّت المجتمعات، واقتحمت البيوت ولم يسلم منها إلا بعض الأسر الفقيرة، فكان فقرُها نعمةً على شبابها وفتياتها، ومن العصمةِ أن يعْجِزَ المرءُ عن تحصيلِ ما يأثَمُ به ويكونُ نقصاً عليه في دينه.عباد الله:لقد جعلت هذه الوسائلُ بعضَ مستخدميها يعيشون بشخصيتين متنافرتين؛، فكانت مراقبتهمم للناس أشدَّ من مراقبته لله؛ ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108].
أيها الأحباب:إنه من الصعب علينا أن نحارب هذه الأجهزة والبرامج ونرفضها، وقد عمت وانتشرت، ولكن من واجب التربية والنصح علينا، أن نزرع مراقبةَ الله وتعظيمَهُ ومحبَّتَهُ في القلوب، ونُنمي الخوفَ منه والرجاء فيما عنده في النفوس، وبالموعظة والتذكير بأساليبَ متنوعةٍ ومشوِّقة، والتوجيهِ إلى استخدام هذه الأجهزة فيما ينفع.
قال رجل للجنيد: بم أستعينُ على غضّ البصر؟ فقال: بعلمِكَ أنَّ نَظَرَ النَّاظِرِ إليك أسْبَقَ من نَظَرِكَ إلى المنظُورِ إليه.هذا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم ربكم بذلك فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
عبد النور خبابة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق