يقرأ الإمام في صلاته قوله تعالى في سورة الكهف (وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) ..... وتنطلق أفكاري تتصور العرض الكبير المخيف ‘ فالبرية إنسها وجنها وحيوانها تقف ذليلة في حضرة الخالق العظيم لا تكاد تسمع لهم همساً ، وهل يتكلم الوضيع أمام السيد العظيم ملك الملوك ومالك الملك سبحانه ،عظم شأنه. يقفون في صفوف عرايا غرلاً كما ولدوا لا حول لهم ولا قوة ولا يملكون شيئاً ، ليس بين أيديهم ما كان يحيطهم في الدنيا من سطوة وقوة وغنى وملك ، ولا مال ولا رجال ، إنهم في هذا اليوم خائفون لا يدرون ما يُصنع بهم ولا إلى أين يصيرون،وأمرهم بين يدي الملك العزيز الجبار ،
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49). وأرى الكتب تتطاير فوق رؤوس الخلائق وتحط في أيدي أصحابها ، يأخذ أهل اليمين كتبهم بأيمانهم – اللهم اجعلنا منهم - وأهل الشمال كتبهم بشمائلهم ، نعوذ بالله من هذا المصير.وقد كنت قبل أن نتعرف الحواسيب والنت و(السيديهات) التي تحمل في طياتها عشرات الآلاف من الكتب ،ووزنها لا يتجاوز بضعة غرامات أقول في نفسي : كيف يحمل المرء كتبه التي سجلت الملائكة فيها كل ما فعله منذ أن بلغ رشده إلى أن وافاه الأجل ، إنها سنوات طويلة والمراقب يسجل فيها كل أمر صغير أو كبير حسُن أو ساء .وكنت أقلب الأفكار كغيري فإذا بالإنسان الضعيف يكتشف بعد آلاف السنين علماً غاب عنه كل هذه القرون ، فكيف وعلم الله تعالى لا تدركه الأحلام ولا العقول.
وأتصور المجرمين خائفين مما ينتظرهم من فضائح ، فالكتاب الذي وقع في شمائلهم ينذر بشر مستطير ( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول :يا ليتني لم أوتَ كتابيه ، ولم أدْرِ ما حسابيه ، يا ليتها كانت القاضية ، ما أغنى عني ماليه ، هلك عني سلطانيه..) فما من صغير ولا كبير إلا مستطر لم يغب منه مثقال ذرة – اللهم لا تفضحنا بين خلقك ولا تجعل النار مصيرنا يا رب.. والله تعالى لا يظلم أحداً ، ميزانه العدل لكننا نسأله تعالى أن يعاملنا برحمته لا بعدله فليس لنا بتحمل تبعاتنا طاقة، ونحن ضعاف مخلوقون من عَجَل ونقصان ، والناقص كثير الخطإ يحتاج عفواً ومغفرة من اللطيف الرحيم سبحانه من إله ودود غفّار.
وأتذكر قوله تعالى في سورة الحديد( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) فأعلم أن الشمس في ذلك اليوم كُوّرت وأن النجوم انكدرت والظلام يلف الموقف لكنّ الله تعالى يرزق المؤمنين والمؤمنات نوراً ينطلق منهم ينير لهم دربهم ، لِمَ لا وقد كانت قلوبهم مليئة في الدنيا بنور الإيمان وأعمالهم يرجون بها وجه الله ورضاه ،فاليوم ينبع هذا الإيمان من قلوبهم ليثيبهم الله به على أعمالهم .. ينطلقون إلى مكان حشرهم يتبعهم المنافقون مستضيئين بنورهم – فلا نور للمنافق – ينير دربه .
وأسمع هؤلاء يسألون المؤمنين أن ينتظروهم ليستضيئوا بنورهم ، فيسمعون صوتاً يقول لهم ارجعوا حيث كنتم فالتمسوا النور الذي فقدتموه ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ) ولسنا بصدد معرفة من قال لهم ذلك ، أهم المؤمنون أنفسهم أم هم الملائكة التي تسوقهم إلى المحشر. ولعل هؤلاء المنافقين حين يعودون متقهقرين يظنون أنهم فوّتوا النور في قبورهم ، وأعتقد أنا – أن المقصود بذلك أنهم ضيعوا أنوارهم في الدنيا حين نافقوا وكفروا بالله واليوم الآخر وأن المقصود بالوراء العودة إلى الدنيا وهذا مستحيل ، فكأن القائل يقصد أنه لا نور لهم الآن .
ويرجع هؤلاء وراءهم ، فينقطعون عن المؤمنين والمؤمنات ويتمايز الفريقان ، وفجأة يقطع بينهم سور كبير مرتفع يمنع المنافقين والمنافقات من الالتحام بالمؤمنين فقد حُسم الأمر وافترق الفريقان ، وينبغي أن يفترقا ، فأهل الجنة غير أهل النار، (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)) وأتصور السور وبابه المُغلق بين الطرفين فهو من ناحية المؤمنين جدار رحمة وأمن وأمان ،وسلم وسلام . وهو من ناحية المنافقين جدار شوك وعذاب ونار ولهيب . وينادي المنافقون من بعيد من كانوا في الدنيا معهم يعيشون قربهم في بيوت متقاربة وأحياء متجاورة ومعايش مشتركة لماذا حصل الفراق وامتزتم عنا ، لماذا وقد كنا في الدنيا معاً ؟ ( يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ )فيجيبهم المؤمنون ( قَالُوا بَلَىٰ ) لقد كنتم معنا أجساماً لا افكاراً وأشباحاً لا قلوباً وأجساداً لا أرواحاً .. ابتعدتم عنا وأنتم بيننا في خمسة أمور رئيسة أبعدتكم عنا بعد المشرق عن المغرب :
1- أولها أنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي
2- وتربصتم بالمؤمنين الدوائر ، وكدتم لهم وسعيتم لصرفهم عن الإيمان والعمل الصالح.
3- وارتبتم بالبعث والنشور وشككتم بالتوحيد وأنكرتم النبوّة والرسالة.
4- وعشتم على أمانيّ كاذبات من طول حياة ودوام الدنيا – وهي الفانية – ونسيتم الآخرة – وهي الباقية- وأحببتم الدنيا وكرهتم الآخرة حتى جاءكم الموت على غرّة فلم تتوبوا .
5- وخدعكم الشيطان فتبعتموه وصدقتموه وهو الكذوب الذي آلى على نفسه أن يضلكم ويرديكم فكنتم أتباعه وأقرانه (وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14))
إن القارئ الفصيح والمجوّد المتمكّن يحلق بمأموميه في معاني القرآن الكريم ويدعوهم إلى التفكر والتدبر ويسقيهم جرعات من الإيمان قوية ، فتكون الصلاة بحق صلاة خشوع وفهم ووعي يأخذ المصلي إلى رحاب الإيمان . اللهم اجعلنا من أهل الإيمان إلى أن نلقاك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق