لا شك أن الأمراض والأسقام من الحوادث التي تحدث في الواقع، وفيها من حكم الله تعالى شيء كثير جداً، وهذه الأمراض والأسقام بالنسبة لنا ولا شك هي شر، ولكن ليس في أفعاله تعالى شر محض، فلا بد أن يوجد فيها وجوه متعددة من الخير انتبه لها من انتبه، وغفل عنها من غفل، فمن حكمته عز وجل في ابتلاء عباده بالأمراض، أن يستخرج العبودية من أنفسهم، فإن الله إنما خلق خلقه للابتلاء والامتحان.
واعلموا يا عباد الله أن من حكمته عز وجل في ابتلاء
عباده بالأمراض، أن يستخرج العبودية من أنفسهم، فإن الله إنما خلق خلقه للابتلاء
والامتحان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن
أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن
أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وقد دلت الأدلة على أن المصائب والآلام
والأمراض ملازمة للبشر، وأنه لا بد لهم منها لتحقيق العبودية لله تعالى، ولذلك قال
ربنا عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَسورة البقرة155-156، فرجعوا إلى الله
تعالى، وهذا من أوجه العبودية التي قد لا تستخرج إلا بالمصائب، والمصائب تشمل كل
شيء من دقيق وعظيم، حتى قال عمر رضي الله عنه لما انقطع شسع نعله: إنا لله وإنا
إليه راجعون، وقال: كل ما ساءك فهو مصيبة. والشسع: هو أحد سيور النعل الذي يدخل
بين الأصبعين. وسند هذا الحديث صحيح.
وقال الله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن
تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن
قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاءسورة البقرة214.
قال ابن كثير رحمه الله: هي الأمراض والأسقام والآلام
والمصائب والنوائب، فلذلك أخبر ربنا سبحانه وتعالى أنه لا بد منها، ومن ابتلاه
الله بالبأساء والضراء فقدر عليه رزقه مثلاً فليس هذا إهانة له، ليس تضييق الرزق،
وفقدان الوظيفة، ونزول المرتب، وخسارة التجارة، ليس إهانة من الله للعبد، وإنما هو
ابتلاء وامتحان، فمن أطاع الله في ذلك كان سعيداً، ومن عصاه كان شقياً.
قال عبد الملك بن أبجر رحمه الله: ما من الناس إلا
مبتلىً بعافية لينظر كيف شكره أو بلية لينظر كيف صبره.
فوائد المرض.
والمرض من فوائده: أنه سبب في تكفير الخطايا والذنوب
التي نقترفها بأسماعنا وأبصارنا، وألسنتنا وسائر جوارحنا.
قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ سورة الشورى30.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده
الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى
يوافي به يوم القيامة)رواه الترمذي2396حديث صحيح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب
ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من
خطاياه). وهذا الحديث فيه دليل على أن المرض النفسي كالمرض البدني في تكفير السيئات؛
لأنه قال في الحديث: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب)، والنصب هو التعب،
والوصب: هو المرض وهذه أشياء بدنية، ثم قال: (ولا هم ولا حزن ...
ولا غم) وهذه أشياء نفسية، فإذن من رحمة الله حتى الهموم والأحزان والغموم، وهي
أشياء نفسية يكفر الله بها من الخطايا.
(ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حط الله به
سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله
بها عنه حتى الشوكة يشاكها).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاربوا وسددوا)، لما نزل قول الله: مَن يَعْمَلْ سُوءًا
يُجْزَ بِهِسورة النساء123، شق ذلك على المسلمين،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاربوا وسددوا ففي كل
ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها). ومعنى النكبة مثل
العثرة التي يعثرها برجله، فربما جرحت أصبعه ونحو ذلك، حتى هذه فيها كفارة،
والشوكة فيها كفارة، والحمى فيها كفارة، وارتفاع درجة الحرارة، وهذه السخونة
الشديدة فيها كفارة.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم السائب أو المسيب
فقال: (مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب مالك تَزفزَفين) أو(تُزفزِفين) معناه؟ مالك
تضطربين وتتحركين حركة شديدة، مالك ترتعدين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: (لا تسبي الحمى فإنها
تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)، وفي رواية أن النبي
صلى الله عليه وسلم عاد أم العلاء، فقال:(أبشري يا أم العلاء
فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة). حديثان صحيحان.
ولذلك (لا يزال البلاء
بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: (كفارات)، قال أبي بن كعب رضي
الله عنه: وإن قلّت؟ قال: (وإن شوكة فما فوقها). قال: فدعا أُبي على
نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت، في أن لا يشغله عن حج ولا عن عمرة ولا جهاد في
سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة.فما مسه إنسان إلا وجد حره حتى مات. وهذا
الحديث حسنه الدمياطي وابن حجر وغيرهما رحمهم الله تعالى.
ودعاء أبي رضي الله عنه على نفسه اجتهاد صحابي، والمأمور
به شرعاً أن لا يدعو الإنسان على نفسه بالبلاء، ومن فقهه أن قال: لا يمنعني ذلك عن
حج ولا عمرة، ولا جهاد، ولا صلاة جماعة، فهو يريد أجر المرض ولا يريد أن يقطعه ذلك
عن هذه الطاعات، وعلى أية حال نحن أمرنا أن نسأل الله العافية، ولم يشرع لنا أن
نأمر الله بأن يوقع بنا البلاء والمرض، وهذا فعله صلى الله عليه وسلم.
قال مطرِّف بن عبد الله رحمه الله: لأن أعافى فأشكر أحب
إليَّ من أن أبتلى فأصبر. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سلوا الله العافية). والشاهد من الحديث
السابق أن الأمراض كفارات.
وقال قيس بن عباد رحمه الله: ساعات الوجع يذهبن ساعات
الخطايا.
الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام.
ومن فوائد الأمراض يا عباد الله: أنه تكتب بها الحسنات
وترفع بها الدرجات، وهذا إذا صبر العبد يثاب على ذلك بالأجر العظيم، ولذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (ما من مسلم يشاك شوكة
فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة).
والنبي صلى الله عليه وسلم طرقه وجع فجعل يشتكي ويتقلب
على فراشه فقالت له عائشة: لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: (إن الصالحين يشدد عليهم، وإنه لا يصيب مؤمناً نكبة من
شوكة فما فوق ذلك إلا حطت عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة).
إن هذه الحمى إذا نزلت ترفع الدرجات وتكتب الحسنات يا
عباد الله، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما من مرض يصيبني أحب إليَّ من الحمى؛
لأنها تدخل في كل عضو مني، وإن الله ليعطي كل عضو قسطه من الأجر. صحح إسناده ابن
حجر رحمه الله، ومثل هذا لا يقوله أبو هريرة برأيه، فهذه الحمى تصيب البدن جميعاً،
ومعنى ذلك أنها تكفر خطايا البدن جميعاً؛ لأننا نرتكب الخطايا بأعيننا، وآذاننا،
وألسنتنا، وأيدينا، وأرجلنا وغير ذلك.
ثم إنه قد يكون للعبد منزلة عظيمة عند الله، لكن أعماله
لا تؤهله للوصول إليها، أعمال العبد من الصلاة والزكاة والطاعات لا تؤهله للوصول
إلى هذه الدرجة، والله كتب أنه في هذه الدرجة، فكيف يصل إليها العبد؟
يسلط الله عليه من أنواع المصائب والأمراض والآلام
والغموم ما يصبر به العبد فيرتقي إلى تلك الدرجة التي كتبها الله له.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا سبقت له
من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبره
على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى)حديث صحيح رواه أبو
داود وغيره.
ثم إن الأمراض يا عباد الله من أسباب دخول الجنة، فإن
الجنة قد حفت بالمكاره والأمراض من هذه المكاره، وقد أخبر النبي صلى الله عليه
وسلم عن ربه عز وجل في الأعمى الذي يصبر على فقد حبيبتيه فيصبر أن الله يعوضه
الجنة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء التي كانت قد أصيبت بالصرع،
قيل: صرع الجن، وقيل غير ذلك، من الصرع الطبي المعروف (إن شئتِ صبرتِ ولك
الجنة وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك)، فقالت: أصبر، ثم
قالت: إني أتكشف يا رسول الله فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها.فكانت تصرع ولا
تتكشف، من حرصها على ستر عورتها رضي الله عنها، وحرصها على الأجر في ذات الوقت.
إذن هذه أمراض عاقبتها الجنة، ثم إن من فوائد المرض
أيضاً النجاة من النار، ولذلك لما عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً ومعه أبو
هريرة من وعك كان به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر فإن الله عز وجل
يقول: هي ناري - الحمى، السخونة- هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون
حظه من النار في الآخرة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمى حظ كل مؤمن من
النار)صحيح بشواهده.
ومن فوائد المرض: أنه يرد العبد إلى ربه، ويذكره
بمعصيته، ويوقظه من غفلته ويقيمه من سباته، فإن كثيراً من الناس شارد عن الله،
غافل عن الله، منهمك في المعاصي، ما دام العبد صحيحاً فإنه يعمل في الملذات
والشهوات ويقبل على الدنيا فينسى مولاه، ويوقعه الشيطان في أنواع من هذه الكبائر
والصغائر، فيبتلي الله هذا العبد بمرض ضعف، نوع من السقم، فإذا بهذا العبد يعود
ضعيفاً بعد قوته، ومريضاً بعد صحته فيجأر إلى الله وينيب إليه، ويندم على ما فرط
في حق الله.
ولذلك الله عز وجل يبتلي بالأمراض والمصائب لعل الناس
يتضرعون كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ
إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَسورة الأنعام42، ولا شك أن من البأساء
والضراء الأمراض، كما قال المفسرون: لعلهم يتضرعون لعلهم يخلصون لله
بالعبادة ويرجعون إلى الله بالطاعة والإنابة والتوبة، وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، هذا من الفوائد إذن،
وكثير من الناس يتوب إلى الله في مرضه، ويرجع إلى ربه في ضعفه.
وقال عبد الرحمن بن سعيد عن أبيه: كنت مع سلمان رضي الله
عنه وعاد مريضاً، فلما دخل عليه قال: أبشر فإن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة
ومستعتباً، وإن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل.
أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
ومعنى أن المرض يكون مستعتباً للمؤمن يعني سبباً في
محاسبة نفسه ورجوعه عن الإساءة، ويقظته من غفلته بخلاف الفاجر والكافر، فإن مرضه
لا ينفعه، وهو لا يزال مصراً على المعصية، ولذلك هو كالبعير الذي أمسكه وربطه أهله
ثم أرسلوه فلا يدري لم أمسك ولم أرسل، الكافر إذا مرض لا يدري لماذا مرض وما هي
الحكمة من المرض ولا يحتسب أجراً ولا يرجع إلى الله.
قال يزيد بن ميسرة رحمه الله: إن العبد ليمرض وما له عند
الله من عمل خير، فيذكره الله سبحانه بعض ما سلف من الخطايا، فيخرج من عينه مثل
رأس الذباب من الدمع من خشية الله، فيبعثه الله إن يبعثه مطهراً، أو يقبضه إن قبضه
مطهراً، ولذلك فإن هذه الأمراض في الحقيقة نعمة من الله تعالى.
ومن فوائدها: أنها تذكر العبد بنعم الله السابقة
والحاضرة، فإذا أسرك المرض وأضعفك البلاء تذكرت الصحة التي كنت فيها، واستشعرت
بالأزمنة المديدة التي كنت فيها طلقاً معافى، ثم تذكرت نعم الله عليك بأن لم يجعل
هذا البلاء في شيء أشد مما هو فيك.
ومن فوائده: أن العبد يذكر حال إخوانه المرضى الآخرين،
يذكر حال إخوانه الذين كان منشغلاً عنهم، يذكر حال المرضى الذين لم يعدهم سابقاً،
ولذلك ترى المريض يشفق على المريض الذي بجانبه، وترى المرضى فيهم من الرحمة
بالمرضى الذين بجانبهم ما لا يوجد في الأصحاء.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا وإياكم من البلاء،
وأن يرفع عنا الأسقام والأمراض، وأن يجعلنا في صحة وعافية، وأن يرزقنا الاستقامة
على دينه وشريعته، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من
الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه
إنه هو البر الرءوف الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه،
أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له إعظاماً لشأنه، وأشهد أن محمداً رسول الله
الداعي إلى سبيله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى
آله وذريته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
انتفاع القلب بالآلام
والأمراض.
عباد الله:
إن الله سبحانه وتعالى يطهر النفوس بالأمراض من الأشر
والبطر والإعجاب والنفس، وذلك أن العبد إذا كان في نشاط وقوة وهدوء بال، ثم قيده
المرض وتجاذبته الآلام انكسرت نفسه ورق قلبه وتطهر من أدران الأخلاق الذميمة، من
الكبر والخيلاء والعجب والحسد وسائر أمراض القلب.
قال ابن القيم رحمه الله: انتفاع القلب والروح بالآلام
والأمراض أمر لا يحس به إلا من فيه حياة، فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام
الأبدان ومشاقها، ولولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب
والفرعنة وقسوة القلوب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين، أن
يتفقد عبده في بعض الأحيان بأنواع من الوصايا تكون حمية له من هذه الأمراض
الخطيرة، وحفظاً لصحة عبوديته، واستفراغاً لهذه الأدواء الفاسدة الرديئة، فسبحان
من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت *** ويبتلي الله بعض
القوم بالنعم
فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بالأمراض لطغوا وبغوا
وعتوا، والله يريد بعبده الخير، فيسقيه من أنواع الابتلاء والأمراض ما يستخرج به
قلبه مهذباً نقياً صافياً، ويرفع درجته ويزيد في حسناته، ولذلك كان السلف رحمهم
الله يفرحون بالبلاء والمرض كما يفرح أحدنا بالمال والصحة.
إن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء.
وكانوا رحمهم الله تعالى لا يتأففون من الأمراض، ولا
يشتكون إلى الخلق حتى لربما أصاب بعضهم عمى في عين من عينيه لم يشعر بها أهله.
نزل في بعضهم ماء في عينه أربع سنين لم يشعر به أهله أنه
لا يرى بها، حتى جاءه ولده من الناحية التي لا يرى بها مرة فلم يحس بولده، فعرف
الولد أن أباه في عينه شيء، فكانوا لا يتأففون، بل كان بعضهم لا يئن، وليس المطلوب
عدم الأنين فهذا شيء طبعي، جبل الله النفوس عليها أنها تئن من الألم، لكن المهم أن
لا تشتكي الذي يرحم إلى الذي لا يرحم، ولا تعترض على قضاء الله تعالى وقدره، وإذا
كنت فقيهاً فإنك تفرح بالمرض أشد من فرحك بالعافية، لا منافاة أن يكون الشيء شراً
وخيراً في ذات الوقت، بمنزلة الدواء الكريه الذي يشربه المريض، الدواء المر، فهو
شر من جهة مرارته، وخير من جهة إزالته للمرض بإذن الله تعالى، ولذلك يقول الله: وَعَسَى أَن
تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَّكُمْسورة البقرة216، والله لا يقضي للمؤمن
بقضاء إلا كان خيراً له، فمن تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على
العبد، فإن الله أعلم بمصلحة عبده من العبد، فابتلاؤه له يزيل من أغراضه الدنيئة
وشهواته المحرمة، ويعطيه قوة يكبح فيها تلك الشهوات، بل إنه ينشغل عنها بمرضه،
ولذلك قال بعض السلف: لا يكون الرجل فقيهاً كامل الفقه إلا إذا عد البلاء نعمة،
والرخاء مصيبة؛ لأن الله يبتلي بالرخاء؛ لينظر كيف يعمل الإنسان، ولذلك كان بعض
السلف يحذر أشد الحذر ويخاف أشد الخوف إذا جاءه مال أو أقبلت عليه الدنيا.
لماذا نرى أجساد الكفار
صحيحة.
وهنا مسألة لطيفة، يقول بعض الناس: نرى أجساد
الكفار صحيحة، نادراً ما تصيبهم الأمراض، وهم معنا في الشركة نادراً ما يمرضون،
ونحو ذلك من الكلام، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، فإن الكفار يصيبهم من الأمراض
مثلما يصيب غيرهم، بل وأشد أحياناً، ولكن نعم قد يكون عدد المرات التي يصاب بها
المؤمن في الأمراض أكثر من المرات التي يصاب بها الكافر
ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن
شيء من هذا القبيل، فقال: (مثل المؤمن كمثل الزرع
لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة
الأرْز) شجرة الأرْز: خشب معروف يشبه
الصنوبر معتدل صلب لا يحركه هبوب الريح، (ومثل المنافق كمثل
شجرة الأرْز لا تهتز حتى تستحصد).
فالله عز وجل يسلط على المؤمن أنواع من الأمراض والبلايا
والمؤمن ينعطف مع هذه الرياح يمنة ويسره شاكراً لأنعم الله، صابراً على ابتلاء
الله، حتى يقبضه الله تعالى، والكافر تجده مثل شجرة الأرز صلباً، قاسياً، حتى يكون
انجعافه مرة واحدة، فيكسره الله عز وجل مرة واحدة، ولذلك نعم قد يكون من الصحيح
المشاهد أن المسلمين يبتلون بالأمراض أكثر مما يبتلى الكفار في عدد المرات، أو
يشتد عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله يبتلي الصالحين والأمثل
والأمثل بأشد مما يبتلي به غيرهم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوعك كما
يوعك كما يوعك الرجلان من الصحابة من الناس، وهذا من فضله عز وجل أنه رفع نبيه صلى
الله عليه وسلم إلى هذه المنازل العالية.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من الأعراب
خبراً عجيباً يناسب المعنى الذي تقدم ذكره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل
أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أخذتك أم ملدم قط؟) قال: وما أم
ملدم، قال: (حر يكون بين الجلد واللحم)، قال: ما وجدت هذا قط،
قال: (فهل أخذك هذا الصداع قط؟) قال: وما هذا
الصداع؟ قال: (عرق يضرب على الإنسان في رأسه)، قال: ما وجدت هذا قط،
فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن ينظر إلى
رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا)أخرجه أحمد والنسائي
والبزار والبخاري في الأدب المفرد، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وقال الهيثمي:
إسناده حسن، وصحح إسناده أحمد شاكر رحمه الله.
إذن هذا الذي ما أصيب بالصداع ولا بالحمى قط هو من أهل
النار، وحي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذن لا تغتر إذا رأيت أجساد الكفار
صحيحة وقاماتهم طويلة ممشوقة، وعضلاتهم بارزة فإنهم أهل النار، ولا عبرة بصحة في
الدنيا تعقبها نار يخلد فيها يوم القيامة.
إذن أيها المسلمون الصبر الصبر على ما يصيب المسلم في
جسده وولده.
نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا
نسألك العافية في دنينا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا وآمن
روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ
بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم آمنا في الأوطان والدور، واهد الأئمة وولاة
الأمور، واحم الأوطان والثغور، وآمنا يوم البعث والنشور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق