ولأجر الآخرة خير
«ارتحلت الدُنيَا مُدبرة وارتحلت الآخِرة مُقبلة، ولكلِ واحدةٍ منها بَنون، فكونوا من أبناءَ الآخرة، ولا تكونوا من أبناءَ الدُنيَا، فإنَّ اليوم عَمَلٌ ولا حسَاب، وغدًا حسَابٌ ولا عَمَل»
تعرض يوسف عليه السلام لصنوف من المعاناة من الجب إلى البيع في السوق إلى الخدمة في قصر عزيز مصر إلى مراودة امرأة العزيز من معها من النسوة إلى السجن بضع سنين وكان في ذلك كله يمتثل أجمل صور الإحسان فتصيبه ألطاف الله وتكون نهاية المطاف { {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } }
وإذا اللطيف حباك نفحة لطفه فاهنأ بعيش سالم التكدير وبعد أن أخبر جل وعلا أنه مكن ليوسف في الأرض جاء التعقيب العجيب { {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} } إن الآية تصيح بخُطّاب الاخرة الذين يدركون أن الدار الآخرة هي الحيوان وما سواها فمتاع الغرور الزائل إما أن يزول عنك وإما أن تزول عنه { {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} } ويؤكد جل وعلا المعنى في خاتمة السورة { {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} } [يوسف: 109]
ولأجر الآخرة خير، وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، لأن نعيمها لا يزول، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " « ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا " فذلك قوله عز وجل: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} » [رواه مسلم]
دعونا نلقي نظرة واحدة للمقارنة بين الدنيا والآخرة ولا مقارنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» " [رواه مسلم]
نعم والله ولأجر الآخرة خير ولدار الآخرة خير، فهذا آخر من يدخل الجنة ما هو ملكه فيها وأقل أهلها منزلة؟ يقول الله له: ( «اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها » ) [رواه البخاري ومسلم] .
يا الله مثل الدنيا وعشرة أمثالها لرجل واحد هذه الدنيا التي شغلت الناس، عليها ينافسون، وبها ينشغلون، يُعطى أقل الناس منزلة عشرة أمثالها وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء. نعم والله ولأجر الآخرة خير ولدار الآخر كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرفت له ما بين خوافق السموات والأرض، ولو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدا أساوره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم» رواه الترمذي وصححه الألباني نعم والله ولأجر الآخرة خير ولدار الآخر كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: « ولقاب قوس أحدكم من الجنة، خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» رواه البخاري
ولك أن تتخيل تصوير الله جل وعلا لحالك وأنت في جنة الله تتذكر ما أصابك من كدر الدنيا وحزنها فيقول سبحانه: { {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} } [فاطر: 33 - 35]
إن العيش الحقيقي عباد الله هو عيش الآخرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: قَالَ: « «اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ» » رواه البخاري ومسلم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَلَمَّا قَالَ: « «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ: إِنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الْآخِرَة» » رواه الطبراني وصححه الألباني.
لا تركننّ إلى القصور الفاخرة *** واذكر عظامك حين تمسي ناخِرة وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل *** يا رب إنّ العيشَ عيشُ الآخرة اللهم اجعلنا من أهل الآخرة بمنك وكرمك يا حي يا قيوم. كيف نُشغل عن دار هذا بعض وصفها بدارٍ قد نبهنا الله عز وجل عن حقيقتها فقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} وقال جل وعلا :{ {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} } [الحديد: 20، 21]
هكذا يعري الله جل وعلا حقيقة دنيانا التي نعيش فها { {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} }
ثم يفجعنا بالمثل الذي صور فيه حقيقة الدنيا لعلنا ننتبه {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}
ثم يبين حال الناس بعد هذه الدنيا الغرارة فيقول {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} فأما من انهمك فيها واغتر بها وانشغل بلهوها ولعبها ومتاعها فتكون العقبة:{عَذَابٌ شَدِيدٌ } أجارنا الله منه وأما من أعمرها بطاعة الله عز وجل المحافظة على تقواه والبر والإحسان فتكون العاقبة {مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} ويعيد جل وعلا تجلية حقيقة الدنيا فيختم الآية بقوله { {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} }
ثم يأتي النداء الرباني ليندبنا إلى الفوز العظيم { {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} }
نعم والله، ولدار الآخر خير ولكن متى نفقه ذلك؟ متى تشتاق النفوس للدار الآخرة؟ متى تكون الدار الآخرة خير عندما نعمر القلوب بالإيمان والتقوى { {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} } ولنتذكر قول رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: « «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» » [رواه ابن ماجة وصححه الألباني] .
لنستمع لعليّ بن أبى طالب رضي الله عنه وهو يهتف بنا: «ارتحلت الدُنيَا مُدبرة وارتحلت الآخِرة مُقبلة، ولكلِ واحدةٍ منها بَنون، فكونوا من أبناءَ الآخرة، ولا تكونوا من أبناءَ الدُنيَا، فإنَّ اليوم عَمَلٌ ولا حسَاب، وغدًا حسَابٌ ولا عَمَل».
اللهم اجعلنا من أهل الآخرة، اللهم اجعلنا من أبناء الآخرة بمنك وكرمك يا حي يا قيوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق