الضحك والمرح وروح الفكاهة سلوك اجتماعي يرتبط بالإنسان دون غيره من المخلوقات، فالإنسان حيوان ضاحك، وقد اعتبره البعض فنًّا ابتدعته النفس البشرية لمواجهة ما في حياتها من شدة وقسوة وحرمان، ولكن الحقيقة أنه آية من آيات الله في خلق البشر، فهو سبحانه الذي ميّز الإنسان بالضحك والبكاء إلى جانب أشياء أخرى كثيرة على رأسها العقل والنطق قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43].
وإسلامنا دين عظيم، لا يصادر الفطرة البشرية وحاجة الإنسان إلى المرح والضحك والانبساط، بل على العكس، يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
وأسوتنا في ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان - رغم همومه الكثيرة والمتنوعة - يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وكان بسّامًا، وكان لا يحدث بحديث - كما قال أبو الدرداء - إلا تبسم، وكان يحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم. وقد وصف الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان من أفكه الناس، وكان في بيته - صلى الله عليه وسلم - يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلى أقاصيصهن، فقد تسابق مع أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- فسبقته في المرة الأولى، وبعد مدة تسابق معها فسبقها، فقال لها: «هذه بتلك»، أي واحدة بواحدة.
وقد روي أنه وطّأ ظهره للحسن والحسين، في طفولتهما ليركبا، ويستمتعا دون تزمت ولا تحرج، وقد دخل عليه أحد الصحابة ورأى هذا المشهد فقال: نعم المركب ركبتما، فقال عليه الصلاة والسلام: «ونعم الفارسان هما»! وفي مرة أخرى وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: «يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز»؛ فبكت المرأة، حيث أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها - صلى الله عليه وسلم -: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء، وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا}[الواقعة: 35 – 37] وكان- صلى الله عليه وسلم- يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس.
فالحياة رحلة شاقة، حافلة بالمتاعب والآلام، ولا يسلم الإنسان فيها من المصائب والمشاق والبلايا التي تعكر صفوها، ولهذا كان الناس في حاجة إلى مواقف ومحطات للترويح تخفف عنهم بعض عناء رحلة الحياة، وكان لا بد لهم من أشياء يروحون بها عن أنفسهم، حتى يضحكوا ويفرحوا ويمرحوا، ولا يغلب عليهم الغم والحزن والنكد، فينغص عليهم عيشهم، ويكدر عليهم صفوهم..
ومن هذه المحطات الفكاهة والمرح، وكل ما يستخرج الضحك من الإنسان، ويطرد الحزن من قلبه، والعبوس من وجهه، والكآبة من حياته.
ومواقف الضحك والمرح في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، فقد روي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميمًا قبيحًا، فلما بايعه النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء» (يقصد عائشة)- وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب - أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها؟!، وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سؤالها إياه؛ لأنه كان دميمًا. وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: «ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض»؟. قالت: والله ما بعينه بياض! فقال: «بلى، إن بعينه بياضًا»؛ فقالت: لا والله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحدٍ إلا بعينه بياض». وقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: «دونكم يا بني أرفدة»، وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأسًا ولا حرجًا. واستنكر - صلى الله عليه وسلم - يومًا أن تزف فتاة إلى زوجها زفافًا صامتًا، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال: «هلا كان معها لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو»، أو: ((الغزل)).
وفي بعض الروايات: «هلا بعثتم معها مَن تغني وتقول: أتيناكم أتيناكم.. فحيُّونا نحييكم». وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداء بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - واهتداء بهديه، حتى إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب - على ما عرف عنه من الصرامة والشدة - يروى عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل؟ وقد اشتهر بعض الصحابة بالفكاهة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقره عليه، واستمر على ذلك من بعده، وقبله الصحابة، ولم يجدوا فيه ما ينكر، برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها البعض أشد الإنكار. ومن هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلى الضحك والمزاح: "نعيمان بن عمر الأنصاري" رضي الله عنه، الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة، وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق، والمشاهد كلها. وقد روى عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتابه "الفكاهة والمرح" قال: كان لا يدخل المدينة طُرفة إلا اشترى منها نعيمان، ثم جاء بها إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطالب نعيمان بثمنها، أحضره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: «أولم تُهده لي»؟؛ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله يا رسول الله! فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه. وروى الزبير قصة أخرى من نوادر نعيمان قال: دخل أعرابي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة لنعيمان: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد! فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من فعل هذا»؟؛ فقالوا: نعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباغة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث هو فأخرجه فقال له: «ما حملك على ما صنعت»؟، قال: الذين دلوك عليَّ يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك. قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم دفع ثمنها للأعرابي. وإذا كان بعض الحكماء والأدباء والشعراء قد ذموا المزاح، وحذروا من سوء عاقبته، ونظروا إلى جانب الخطر والضرر فيه، وأغفلوا الجوانب الأخرى، فإن ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أحق أن يتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال الذي يتميز به المنهج الإسلامي في كل شؤون الحياة. فالضحك والمرح والمزاح أمر مشروع في الإسلام وما ذلك إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلى شيء من الترويح يخفف عنها أدواء الحياة وقسوتها، وتشعب همومها وأعبائها، كما أن هذا الضرب من اللهو والترفيه يقوم بمهمة التنشيط للنفس، حتى تستطيع مواصلة السير والمضي في طريق العمل الطويل، كما يريح الإنسان دابته في السفر، حتى لا تنقطع به. فمشروعية الضحك والمرح والمزاح لا شك فيها، وقد دلّت على ذلك النصوص القولية، والمواقف العملية للرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب، وأن يكون المزاح بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل، ولهذا كان التوجيه النبوي: ((ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب))؛ فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة ولكنها مقيدة بقيود وشروط لابُدَّ أن تُراعى، منها:
ألا يكون الكذب والاختلاق أداة الإضحاك للناس
وألا يشتمل على تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي، وألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم، وألا يهزل المسلم في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال.
فالإسلام يحض المسلم على أن يكون آلفا بساما مرحا خلوقا، كريم الخصال، حميد الفعال، حسن المعشر.
ولا مانع من أن يجمع المسلم مع الجد - الذي يسعى إليه - روح الدعابة، وفكاهة الحديث، وعذوبة المنطق، وطرافة الحكمة. ولكن ليس للإنسان أن ينطلق في الضحك والمرح والمزاح كما يشاء، فهناك وقت للضحك وأوقات للجد والعمل، والإفراط في أي شيء يخرجه من دائرة المباح إلى دائرة المحظور، وقد قال عمر - رضى الله عنه -: "من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن مزح استخف به ".
وقال الأحنف: "كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروءة، ومن لزم شيئا عرف به"، وقال الحسن البصرى: "وأما الضحك فإن اعتياده شاغل عن النظر في الأمور المهمة، مذهب عن الفكر في النوائب الملمة، وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار". ومن المحظور في الضحك أن يكون على حساب المبادئ الأخلاقية كالضحك على النكات الإباحية أو العدوانية، ففي ذلك استخفاف بالعقول والأخلاق، ويجب تجنب الكذب وقول الزور بهدف إضحاك الناس كالذين يتصدرون المجالس ويلفقون القصص المضحكة والحكايات المثيرة لإضحاك الناس ومباسطتهم، فقد نهى الإسلام عن ذلك، وهدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يفعل ذلك بالويل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له، ويل له».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق