إن الأولاد نعمة من الله عظيمة، ومنّة من الله جليلة، فهم قرة العيون، وجلاء الأحزان والهموم، وهم القوة عند الضعف، والعون عند الحاجة، وهم الذخر بعد الموت، والفضل عند لقاء الربِّ، وهم الذين يستغفرون للآباء والأمهات في الحياة وبعد الممات، وهم الذين يرفعون قدر والديهم بأخذهم كتاب ربِّ الأرض والسماوات، وهم الخير لمن ربَّاهم على الخير، وهم الثمرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربِّها، وصدق الله - تعالى - إذ يقول: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف : 46].
عباد الله: لقد امتنَّ الله - تعالى - علينا بكثرة الأبناء والبنات، وبوافر الخيرات، فلا يطلبون طلبًا إلا تيسَّر لهم، ولا يتمنون شيئًا إلاَّ وجدوه أمامهم، نحرص كل الحرص على تلبية ما يحتاجونه من الأكل واللباس والتعليم، والمسكن والمركوب، فلا نرى والدًا يبخل على أولاده في شيء من أمور الدنيا، بل ينفق بسخاء وكرم، دون ملل أو تضجر، بل قد يبادر زوجته وأولاده بالسؤال عن كل ما يحتاجه الأولاد، وهو مأجور مشكور - إن شاء الله - إن حسنت نيَّته؛ لأن ذلك من قيامه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته»؛ (رواه البخاري).
ومن تمام المسؤولية إكمال حاجات البيت، ومراعاة صحة أهله وأولاده. ولكن هل يا تُرى قام ذلك الوالد بجميع المسؤولية التي كلفه الله بها حسب استطاعته؟ هل نظر هؤلاء الآباء والأمهات إلى الرعاية لأولادهم وتلبية احتياجاتهم الإيمانية والنفسية؟ ألم يسمعوا قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم : 6]؟ إنا لنجد من الآباء والأمهات مَن يكون سببًا وعاملاً مساعدًا في هدم أخلاق أبنائهم وبناتهم، بل ربما أوصلوهم إلى حب العاجلة، وإيثارها على الآخرة؛ بإهمال تربيتهم وتوجيههم، وهذا كله نذير خطر علينا؛ لأن الأجيال القادمة من شبابنا وبناتنا هم الذين سيحملون همَّ الدين والدنيا من بعدنا، فإذا قصَّرنا في توجيههم وتربيتهم خلال صغرهم ووقت شبابهم، فمتى نأخذ بأيديهم. لقد أهمل الكثير من الآباء في ذلك إهمالاً كبيرًا، فتراه يسعى سعيًا حثيثًا على أمور دنياه، ولو على حساب أولاده وهو يحسب أن ذلك هو الأهم في حياتهم.
وهناك نقطة هامة غفل عنها كثير من الآباء والأمهات: وهي عدم الحرص على تربية الأولاد التربية الصحيحة المبنية على العلم الشرعي الصحيح النابع من الكتاب والسُّنَّة، وعلى الرغم من تيسير العلوم الشرعية عن طريق دور التعليم، ووسائل الإعلام المرئية،والمسموعة، إلا أن هناك تقصيرًا عظيمًا في حصول النفع من هذه العلوم، حتى رأينا بعض الآباء والأمهات يعتمدون على ذلك، ولا يتابعون أولادهم في هذا التحصيل الهام الذي ينبني عليه مستقبلهم وحياتهم القادمة.
إن الاستهانة بهذه الأمور جعلت الأولاد ينصرفون عن هذه العلوم الشرعية، مع وجود المؤثرات القوية عن طريق وسائل الإعلام الهدَّامة التي تهدف إلى خلخلة العقيدة في قلوبهم، وبث الشهوات المحرَّمة في صفوفهم؛ كي يوقعوهم صرعى يلهثون وراء كل ناعق يدعو إلى الضلالة والغي.
إن الذين يتمنون السعادة في الدنيا يحرصون كل الحرص على الأخذ بأيدي أولادهم إلى ما يحفظهم، ويوصلهم إلى رضا مولاهم، فليس من سعادة الأب أو الأم أن يروا أولادهم يركبون أفخم السيارات، ويحملون أحدث الموديلات من أجهزة الجوَّالات، ويلبسون أفضل الملابس، ويسكنون أوسع البيوتات، لا بل سعادة الوالدين أن يروا ثمرة فؤادهم، وبذرة زرعهم قد نمت على حب الخير وأهله، والبعد عن الشر وأهله، والتعلق بدار القرار، والزهد في دار الفناء والبوار.
فأين هؤلاء الآباء والأمهات الذين يسعدون بذلك وواقع الحال خير شاهد لما أقول.
لقد ظهرت في الأزمنة الأخيرة فتنٌ وشرور لا يعلم مداها إلا الله، ومن ذلك فتنة الذين خرجوا على أمة الإسلام يضربون فيها البرّ والفاجر، ويقذفون المسلمين بما ليس فيهم، لقد قاموا بتدمير المنشآت، وقتل الأنفس البريئة، وترويع الآمنين، ومكنوا لأعداء الملة والدين من أن يسلطوا ألسنتهم وأقلامهم على أهل الدين والمتمسكين به، إن هؤلاء الذين خرجوا عن إجماع الأمة، وانتهجوا نهج الخوارج القُدامى يتضح للجميع خطورة ما هم عليه من صفات سيِّئة؛ حتى لا يَفتتن بهم مَنْ ليس عنده قدر من الباطل، ولقد بيَّن لنا رسولنا شيئًا من العلم؛ حيث قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يخرجُ قومٌ في آخر الزمان؛ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة»؛ (رواه البخاري، ومسلم).
فانظروا - يا عباد الله - وصف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما ذكرهم أنهم أحداث أسنان؛ أي: صغار في السن ليس عندهم نضج عقلي، وتفكير سديد، وعلم راسخ، بل إنهم يتكلمون في أمر الدين وكأنهم أصحاب العلم الواسع، ويتلفظون بأحاديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكأنهم علماء الأمة وموجِّهوها، إلا أن إيمانهم لا يجاوز حناجرهم؛ لما في قلوبهم من الشبهات الخطيرة المخالفة لما عليه سلف الأمة.
إن هذه الفتنة وغيرَها من الفتن خيرُ شاهد على أن البعد عن صراط الله المستقيم الذي أمرنا الله به ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعود على الأمة جميعًا بالضرر في دينها ودنياها. فعن الزبير بن عدي قال أتينا أنس بن مالك - رضي الله عنه - فشكونا إليه ما نَلْقَى من الحجاج، فقال: "اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده أشرُّ منه، حتى تلقوا ربَّكم، سمعته من نبيِّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ (رواه البخاري).
فانظروا - يا عباد الله - إلى هذا الحديث العظيم الذين يشير إلى أن الفتن ستزيد كلما مر زمان تلو آخر، فأمر نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالتمسُّك بالدين، والصبر على ما ينال العبد من البلاء، حتى يأتي نصر الله - تعالى.
إن الأمر جد خطير، فأبناؤنا أصبحوا عرضة لكل ناعق يدعو إلى طريق الضلال؛ حتى غدا أصحاب الفكر الضال يؤثرون تأثيرًا رهيبًا على فكر أبنائنا، ويأخذون بأيديهم إلى الخروج عن شرعة الله باسم الغيرة على الدين، والتمكين لشرعة رب العالمين، حتى رأينا الكثير من الشباب الذي فتنوا بهم، وتحمسوا لكلامهم، ووقعوا في براثن تخطيطهم - أصبحوا أداة هدم بدلاً من أن يكونوا أداة بناء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
كيف وجهنا رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكيفية التعامل مع أولادنا؛ كي نحفظهم من الشرور والآثام التي تؤثر على مسيرة حياتهم في الدنيا قبل الآخرة، ومن ذلك:
أولاً: إرشادهم إلى الإيمان بالله - تعالى - وقدرته المعجزة، وإبداعه الرائع عن طريق التأمل والتفكر في خلق السماوات والأرض، ويكفي توجيها للأولاد بمثل الآيات الأخيرة من سورة آل عمران في قوله - تعالى -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران : 190 - 191]. فحين يأخذ الوالد بيد أولاده نحو هذه القضايا الإيمانية الثابتة، وتنصب في ذهنهم وفكرهم بالأدلة الراسخة، فلا تستطيع معاول الهدم أن تنال من قلوبهم العامرة بالإيمان، ولا يمكن لدعاة السوء أن يؤثروا عليهم، ولا يقدر إنسان أن يزعزع نفسيتهم المؤمنة؛ لما وصل إليهم من إيمان ثابت، ويقين راسخ، وقناعة كاملة، والنصوص الدالة على هذه العقيدة الصحيحة من الكتاب والسنة كثيرة جدًّا ولو استطاع الوالد أن يعلم أولاده بعضًا منها؛ كي تتعلق في ذهنهم، وتأخذ بلباب قلوبهم، فقد استطاع أن يثبتهم على الطريق الصحيح.
ثانيًا: أن يغرس في نفوسهم روح الخشوع والتقوى والعبودية لله ربِّ العالمين، وذلك عن طريق الآيات الدالة على عظمة الله وقدرته، وإحاطته بجميع مخلوقاته، وعلمه المحيط بمكنون قلوبهم، وذلك عن طريق تعليمهم القرآن الكريم والخشوع عند سماعه، وتدبر آياته وعظاته وتوجيهاته، فإذا وصلت إليهم هذه المعاني، رسخت التقوى في قلوبهم، وصاروا مرتبطين بربهم لا يحيدون عن أوامره ونواهيه طرفة عين.
ثالثًا: أن يربي فيهم روح المراقبة لله - تعالى - في كل تصرفاتهم وأحوالهم، وذلك بترويضهم على أن الله - تعالى - يراقبهم ويراهم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكل هذا من أجل أن يتعلم الأولاد مراقبة الله في السر والعلن، وأن تكون عبادتهم لربِّهم وأعمالهم خالصة لوجهه، دون طلب رياء ولا سمعة، فلا يعملون من أجل أحد، إنما همُّهم هو إرضاء رب العالمين.
رابعًا: تربية الأولاد على الفضائل الخلقية والسلوكية والوجدانية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بثمرات الإيمان الراسخ في قلوبهم، فالتنشئة الدينية الصحيحة هي تربية النشء على المراقبة الإلهية التي ترسِّخ في قلوبهم المحاسبة للنفس، وعدم الوقوع في الصفات القبيحة والعادات الآثمة المرذولة، والتقاليد الجاهلية الفاسدة، والأفكار المنحرفة عن الجادة، ويكفي قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اتقِ الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِقِ الناس بخُلُق حَسَن»؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني في جامع الترمذي، (4/ 3355، رقم1987).
والتربية على هذه التوجيهات والفضائل تنمي عندهم الجانب الإيماني الذي تنبع منه الأخلاق الطيبة الكريمة، مثل: الخشية، والمراقبة، والصدق، والأمانة، والاستقامة، والإيثار، وإغاثة الملهوف، واحترام الكبير، وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار، ومحبة الخير للآخرين، والإحسان إلى اليتامى، والبر بالفقراء، والعطف على الأرامل والمساكين، وغير ذلك كثير. خامسًا: متابعتهم والحرص عليهم ممن يسممون أفكارهم، وينحرفون بهم عن الجادة والوسطية، وعدم ترك الحبل على الغارب لهم، يذهبون أينما شاؤوا ومع مَن شاؤوا، بل لا بد من معرفة من يخرجون معهم، وهل هذه الصحبة ممن يُستأمنون عليهم إذا كانوا معهم أو لا؟ ولا بد من توضيح فكر هذه الفئة وتحديد منهجها؛ لكي لا يقعوا فريسة لأفكارهم البعيدة عن المنهج السوي. فكل هذه الأسباب وغيرها مُعِينَة - بعد الله - في حماية شبابنا وبناتنا من التيارات الواردة والأفكار الضالة المنحرفة، فالأعداء يتربصون بهم كل متربص؛ ليصرفوهم عن صراط الله المستقيم. إن بلادنا ولله الحمد وهي تحظى بقيادة مؤمنة واعية - تحرص على الخير وتزرعه في طول البلاد وعرضها، وترفع شعار الإسلام والحفاظ على العقيدة، وتفاخر به في كل المنتديات والمؤتمرات، بل وتحرص على تعليم شبابنا وبناتنا كل خير، إن هذه القيادة الواعية بحاجة إلى الدعاء والمساندة، والتعاون معها في حماية هذه البلاد من مزالق الشياطين، ومن عبث العابثين، وذلك بتنمية حب الوطن وأهله في نفوس شبابنا وبناتنا؛ لبذل الجهد من أجل إعلاء مكانة هذه البلاد الفتية التي تفتخر على جميع البلاد بشرعتها العظيمة، ألا وهي شرعة الإسلام.
فتعاونوا - عباد الله - على تربية أولادكم على الخير، وخذوا بأيديهم لكل ما ينفعهم في العاجل والآجل، نسأل الله - تعالى - أن يحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يقينا شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح شبابنا وبناتنا، وأن يعين ولاة أمرنا على كل خير وبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق