إلى كل المسافرين في قوارب الموت!!
إلى كلّ الذين يحاولون عبور البحر دون أن تكون لهم هويّة ، إلى كلّ من يعتقد أنّ ركوب اللّيل مجرّد تسلية تصوّب رماحها في عين النّور المتلألئ هناك ، وأنّ خلف البحر نافذة لجنّة موعودة رسمها العقل فوق الجنون دون ألوان ، إلى كلّ من يتعمّد الموت دون أن يتعرّف عليه المكان.
تطلع أجسادهم كالخشب من تحت الأمواج باردة ، مبلّلة ، مشوّهة كأنّهم في ضمير الطّبيعة مسمار صدئ جرفه الموج كعمر مسروق باسط جناحيه كطائر لوت العواصف ظهره دون أن يغادر أشلاءه المتناثرة بين موجة طائشة ، وصخرة غائرة ، وشاطئ مفزوع.
كالمرايا المشقوقة في مغرز العنق ارتفعت روح وتركت جثّتها متخلّفة في أرض مدينة بعيد ... فلا ملامح بقيت ، ولا أعضاء ظلّت وفيّة لصاحبها ، ولا دمعة نزلت من عين حفرها الماء حتّى اضمحلّت ، واختفت تحت ردم الموج لتصل العالم الآخر دون أن تصل .
أطفال سابقهم الموت في زورق خائن ، وضمير مثقوب ، وقلب وضعت عليه الأقفال ليقتحم ظلمة البحر في ليل هائج ، وطيش شباب يبحث عن الرّغد في بلاد ترفض الكسل وتخرج العرق من الحجر ولا تعترف بعظام غريبة دون ظلّ وماء ونسيم .
أيّ وجهة كالسّيف القاطع نضع أعناقنا تحتها لنصبح طعما للسّمك ، للغفلة القاتمة دون أن ننصت لأكنان الوطن الذي يرعانا كطيور أبصرت النّدى في جدوع أشجاره ، وهوائه ، وكتفيه .
فكم من حاسّة استحالت إلى أمواج يجري فيها حطام حلم ، وزبد ندم ، ومدّ لا نهاية له من القلق لؤلائك الذين تركناهم خلف المغامرة دون وداع ، دون أن نمنح عيونهم مناديل للبكاء . دون أن نترك لهم قبرا يودعون فيه بقيّة ما تركنا من ذكرى ، أيّ دمعة ستفي كلّ هذا الحزن أمام روح ضاعت في السّماء ، وجسد رفضته القبور وجهله الموت ..
كم من إنسان استسلم لخبث الوهم وصنع لنفسه رجاء بلا شراع ، كم من ضحيّة طمرها البحر في أمعائه دون أن تظهر ، كم من جثّة استقبلتها الرّمال دون أن تتعرّف على ملامحها الممسوحة كذنب ، كم من مغامر اختارته السّواحل رفيقا لوحشتها دون أن تمنحه محبّتها الظّامئة ، كم من صدر أمّ صار فارغا ، يابسا محترقا كقصيدة جفّفها الحزن دون أن تنشد على القوافي منطقها الأخير. كم من رضيع بريء جعلوا طفولته هي المثوى الأوّل ، وغرزوا شفاه الموج في وجنتيه لتكون قبلته الأولى ، ورسموا بين أطرافه الصّغيرة حضنا كحضن الأمّ ليمنحه البرد عناقه الأخير ، كم من منظر بشع ستعايشه قلوبنا بعد هذا المنظر المؤلم لطفولة قضمها الضّمير قبل أن تقضمهاا الأمواج والصّخور والرّمال لتنام في كتاب بارد ، كم من وجوه آملة استلمها البحر دون أن يمنحها لجوء الحياة إلى الضفّة الأخرى ، أقصد إلى الهلاك الآخر .
عبد النور خبابة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق