( البقرة :45) ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلاة )
لقد فتح الله عز وجل في هذه الآية العظيمة أفاقاً واسعة للإنسان لكي يستعين على جميع ما يتعرض له يصيبه من البلاء والمصائب والفتن والهموم والأوجاع ....., وكذلك استجلاب ما تهفوا له نفسه و تتشوق إليه من طلب مرضاة الله عز وجل والتقلب في واحات عبادته و طاعته فتضمنت هذه الآية الكريمة جلب الخير و دفع الشر , و هذه غاية عظيمة وهدف تسعى البشرية له فعلم الله عز وجل ضعفها ، فارشد المؤمن إلى أن \"يتصل بالقوة الكبرى يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدود حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة , حينما يطول به الطريق وتبلغ به الشقة في عمره المحدود ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئاً وقد أوشك المغيب ولم ينل شيئاً و شمس العمر تميل للغروب , وحينما يجد الشر نافشاً و الخير ضاوياً , و لا يجد شعاع في الأفق و معلم في الطريق هنا تبدوا قيمة الصلاة , أنها الصلة المباشر بين الإنسان الفاني و القوة الباقية .. \"
و لكن ما هي الصلاة التي امرنا الله عز وجل بالاستعانة بها على أمور ديننا ونيانا ؟
إنها الصلاة التي حافظ عليها صاحبها كما قال عز وجل في صفات
المؤمنين ( المؤمنون : 9 ) ( والذين على صلواتهم يحافظون ) .
فهم يحافظون على شروطها وأركانها وواجباتها وسننها و مستحباتها يحافظون على رواتبها و نوافلها حريصون عليها أشد من حرص البخيل على ماله .
ثم هم مع المحافظة عليها مستمرون على ذلك مداومون عليه كما قال عز وجل ( المعارج : 23) ( والذين هم على صلاتهم دائمون ) فلا ينقطع عن الصلاة بحال من الأحوال ، فليس من أولئك الذين يحافظون عليها إذا كانوا مستيقظين ، فإذا ناموا ضيعوها أو تهاونوا فيها , ولا أولئك الذين يفرقون بين الصيف و الشتاء أو السفر و الحضر , أو الاجتماع و الخلوة ، بل هو محافظ عليها مداوم على أدائها و إقامتها في جميع أحواله ، فهي قرة عينه و حياة قلبه , مصاحبة له في جميع تقلبات حياته ، يعلم أن ربه معظم لها ، رافع لقدرها , قد هدد المتهاونين فيها فما بالك بالمنقطعين عنها ؟! يعلم أن ربه جل وعلا يقول في سورة ( إبراهيم : 2 ) ( وويل للكافرين )
ويقول في سورة (فصلت : 6) ( وويل للمشركين ) ويقول في سورة ( الماعون : 4) ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ) فهدد المتهاونين فيها كما هدد الكفار و المشركين ، فأي تعظيم بعد هذا التعظيم ؟! وهناك أمور يتأكد عندها أهمية الاستعانة بالصلاة منها :
أ) عند حلول الفتن و اختلاط الأمور ، وفي خضم الشدائد و الأهوال ، فحين يتعرض المؤمنون للبلاء في دينهم و أنفسهم ، في أموالهم أو أعراضهم ، فحينئذ يتأكد عليهم الفرار إلى الله عز وجل ،والاستعانة به ، وأعظم ما يتم به هذا الفرار هو الاستعانة بالصلاة التي هي صلة بين العبد و ربه .
ومن الأمثلة على هذا , ما أرشد الله عز وجل بني إسرائيل إليه لما أشتد عليهم البلاء من قبل فرعون وزبانيته فقال ( يونس : 87 ) ( و أوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ) .
قال ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية ( وكان هذا - والله أعلم - لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم ، أمروا بكثرة الصلاة) وتأمل تعقيب الله عز وجل على هذا الأمر فقال ( وبشر المؤمنين ) فإذا فعلوا هذا الأمر فليبشروا حينئذ بالنصر والتمكين , و أنهم قد تمسكوا بالحبل الذي يعصمهم الله عز وجل به من الفتن والبلاء ، ففي هذه الآية توجيه رباني لكل من تعرض للأذى و البلاء أن يستعين بالصلاة ويكثر منها .
وقد سار على هذا النهج الأنبياء صلوات الله عليهم ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم \" لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات \" فذكرها إلى أن قال \" بينما هو ذات يوم وسارة إذا أتى على جبار من الجبابرة فقيل له : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها : من هذه ؟ قال : أختي , فأتى ساره قال : يا ساره ليس على وجه الأرض مؤمن غيري و غيرك , و إن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني , فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها فأًخذ ، فقال لها : ادعي الله لي و لا أضرك , فدعت الله فاطلق ,ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد فقال : أدعي الله لي و لا أضرك فدعت الله فاطلق .
فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلي ...\" وفي رواية لمسلم \" فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم عليه السلام يصلي ... \"
فدل على أن مجرد ذهابها فزع عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة حتى عادت و بشرته أن الله قد كف يد الظالم ، فتأمل استعانته بالصلاة على هذا الأمر الجلل أن تدرك مدى تعظيم أنبياء الله عز وجل لشأن هذه الصلاة وتعلقهم بها ومعرفتهم بأثرها لهذا قال ابن حجر في فوائد هذا الحديث ( وفيه أن من نابه أمر مهم من الكرب ينبغي له أن يفزع إلى الصلاة ) وقد كان هذا هو دأب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة )
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( ولقد رأيتنا ليلة البدر ما منا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى شجرة و يدعو حتى أصبح) وكذلك فعل في غزوة الأحزاب , ولما كسفت الشمس قام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يجر رداءه ، وصلى بالناس صلاة الكسوف إلى غير ذلك من الأمثلة و المقصود التنبيه عليها والتذكير بأهميتها .
و خلال نظرة سريعة فاحصة في أحوالنا اليوم نجد غياب مثل هذه المعاني السامية التي تنبع من خلال الفهم الصحيح لحقائق هذا الدين العظيم . و استبدالها بالفرار إلى النشرات الإخبارية و التحليلات السياسية ومطالعة الصور التي تعرض الأشلاء و الدماء و السجون والحروب ....., وعدم تخطي هذه المرحلة إلى ما بعدها من السعي و العمل , ودعنا نتخيل أن مليار مسلم فزعوا إلى الله عز وجل وفروا إليه ليرفع عنهم البلاء وينصرهم على عدوهم فهل تقوم لعدوهم قائمة ؟! فالأمر يحتاج إلى صدق مع الله عز وجل واستغاثة به ولجوء إليه عند ذلك ليكون النصر تحقيقاً لا تعليقاً وقد وضح الله هذه الحقيقة في كلمتين ( الأنفال :9 ) ( إذْ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم )
2ـ الاستعانة بالصلاة للقيام بأعباء الدعوة و تحمل تبعاتها التي من أهم شروطها تزكية النفس و تطهيرها , فكلما ضعفت الصلة بالله عز وجل كلما ضعف الداعية عن تحمل أعباء الدعوة وكلما قويت الصلة بالله عز وجل كلما كان أقدر وأقوى .
ولهذا أرشد الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة إلى الصلاة الليل لتكون الزاد الذي يمده بالصبر والاحتمال ، و الاستمرار في تبليغ هذه الدعوة حيث قال تعالى ( المزمل: 1) ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ...) .
وهذا نبي الله شعيب – عليه السلام - قد لاحظ قومه اهتمامه بالصلاة و تعظيمه لها حتى قالوا (هود : 87) ( أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ....) كما أن الداعية يجب أن يتميز بابتعاده عن الفحشاء والمنكر واجتناب كل ما يشين ويعيب , والصلاة من أعظم ما يعينه على هذه الأمر بشهادة رب العالمين حيث يقول ( العنكبوت : 45 ) ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )
وكذلك تعتبر الصلاة أفضل ما يستعين به الداعية على مراجعته لكتاب الله وحفظه والارتباط به و معه ، خاصة عند تزاحم الأعمال وضيق الوقت, لانشغال الداعية بالأعمال المتعدية فما أحراه حينئذ أن يسلك الجادة .. ويجعل الصلاة زاداً يتزود به في دعوته إلى الله عز وجل .
3 ـ الاستعانة بالصلاة على مغفرة الذنوب فالله عز وجل يقول (هود : 114) ( أقم الصلاة طرفي النهار و زلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات )
قال ابن سعدي – رحمه الله – ( فهذه الصلوات الخمس وما الحق بها من التطوعات من أكبر الحسنات , وهي مع أنها حسنات تقرب إلى الله و توجب الثواب , فإنها تذهب السيئات وتمحوها ) وكثرت الأحاديث التي تدل على مغفرة الذنوب بالصلاة منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أرأيتم لو أن نهر بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شئ ؟ قالوا لا يبقى من درنه شئ قال :\" الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا ) وفي صحيح مسلم \" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر \" .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدل على مغفرة الذنوب بالصلاة , أفلا يكون هذا حافزا إلى الاهتمام بها لتكون الصلاة خير معين لنا على ذونبنا وأخطائنا .
4 ـ الاستعانة بالصلاة على أداء شكر الله عز وجل كما جاء في سورة الكوثر حيث يقول الله عز وجل ( إنا أعطيناك الكوثر فصلي لربك وانحر ) .
والمعنى فاجعل صلاتك كلها لربك خالصاً دون ما سواه من الأنداد والآلهة , وكذلك نحرك أجعله له دون الأوثان شكراً له على ما أعطاك من الكرامة و الخير الذي لاكفء له وخصك به \" .
و الله عز وجل يقول ( سبأ : 13 ) ( أعملوا آل داوود شكرا ) . و معلوم أن الصلاة خير الأعمال كما قال عليه الصلاة و السلام : ( وأعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) .
وحين بشرت الملائكة مريم عليها السلام بقولها (آل عمران :42) ( يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) أرشدتها إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقالت ( يا مريم اقنتي لربك و أسجدي وأركعي مع الراكعين ) فلما خصت الملائكة الصلاة من بين سائر العبادات دل ذلك على أهميتها حيث أنها لو عملت عملاً أخر يقوم مقام الشكر افضل من الصلاة لنبهت عليه, وإذا أردت أن تعرف مدى محبة الملائكة للصلاة فاقرأ قوله تعالى( آل عمران :39) ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب )
ولما كانت الصلاة بهذه المنزلة العظيمة , وكان أداؤها من أعظم الأعمال التي يتم بها الشكر لله عز وجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر منها \" وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه فقيل تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟! فقال \" أفلا أكون عبداً شكورا\".
قال ابن حجر \" وفيه مشروعية الصلاة للشكر\" فما أحوج العبد الفقير إلى الله عز وجل ليكون من أولئك الذين وعدهم الله بالمـــزيــــــــــــــــد ( إبراهيم:7) ( ولئن شكرتم لأزيدنكم ) وليكون من ذلك القليـل ( سبأ : 13 ) ( و قليلٌ من عبادي الشكور )
قال ابن القيم \" وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه \" .
5 ـ الاستعانة بالصلاة على ما يستقبله العبد من الأهوال و الكروب يوم القيامة قال تعالى ( النور : 36 ) ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب و الأبصار ..) .
فحشد الله عز وجل هذه الآيات بذكر أماكن الصلاة وواجباتها و إقامتها ثم بين أن هذه الأعمال المذكورة في الآية أعظم ما يدفع به العبد أهوال ذلك اليوم و كروبه .
ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله ذكر منهم \" ورجل قلبه معلق في المساجد \" .
و قال عليه الصلاة و السلام \" بشر المشائين في الظلم و بالنور التام يوم القيامة \"
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أهمية الصلاة .
وعلى العموم فالصلاة خير الأعمال , و أنفعها للعبد . ونفعها لصحابها يتناول الحاضر والماضي و المستقبل وكما أن نفعها على مستوى الأمة و على مستوى الفرد فلا جرم أن يكون دعاء الخليل عليه السلام ( إبراهيم ) (ربي إجعلني مقيـم الصلاة ومن ذريتي ربنا و تقبل دعاء ) كما أنها من أخر الكلمات التي نطقت بها شفتا نبينا عليه الصلاة والسلام \" الصلاة .... الصلاة وما ملكت أيمانكم \"
فكان لزاماً على كل مؤمن أن يدرك أهمية الصلاة في حياته لأنه يجد هذا منثوراً في كتاب ربه جل و علا , و سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فحري بها أن تتصدر قائمة الأولويات في كل يوم من حياته بعد الشهادتين , و ما ضعف المسلمون اليوم و تردت حالهم إلا بسبب ضعف ارتباطهم بربهم جل و علا كما قال سبحانه ( الأنفال : 53 ) (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
نسأل الله عز وجل العلم النافع و العمل الصالح و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه و سلم
فرحان العطار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق