لا تجعل الفتور يغتالك
بسم الله الرحمن الرحيم قديما قالوا أن الفرصة لا تأتي في العمر إلا مرة واحدة، فطوبي لمن استغلها، ورغم أن لهذا الكلام بعض المآخذ، إلا أنه ينطوي في ذات الأمر على بعض الفوائد، فالفرص في حياة الإنسان عامة متعددة ومتنوعة، وفي حياة المسلم أكثر تعددا وتنوعا، والسعيد من استثمر رصيد فرصه في النافع، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى الأماني. إن عمر الإنسان نفسه أعظم فرصة، وما المرء إلا أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضه، وأغلى ما يسعى فيه المرء أن يعتق نفسه التي بين جنبيه من النار ومن غضب الجبار.. تلك هي رسالة المسلم النبيلة، التي كرس لها كل جوارحه وأوقاته، فعمر الأرض وعمر لحظاته كلها في ما يرضي الله تعالى. وما رمضان في حياة المسلم إلا فرصة سنوية ثمينة، يغتسل فيها من الذنوب، وينسجم مع فطرته في الإنابة إلى الواحد الأحد، فأنس النفس الحقيقي أن تلجأ إلى كنف الله تعالى، حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل»
(1) قال المناوي: (اللّهم أنت عضدي) أي معتمدي، قال القاضي: العضد ما يعتمد عليه ويثق به المرء في الحرب وغيره من الأمور (وأنت نصيري، بك أحول) قال الزمخشري: من حال يحول بمعنى احتال، والمراد كيد العدو، أو من حال بمعنى تحول، وقيل أدفع وأمنع من حال بين الشيئين إذا منع أحدهما عن الآخر (وبك أصول) أي أقهر. قال القاضي: والصول الحمل على العدو، ومنه الصائل (وبك أقاتل) عدوك وعدوي. قال الطيبي: والعضد كناية عما يعتمد عليه ويثق المرء به في الخيرات ونحوها وغيرها من القوة.
(2) كيف تفوتك الفرصة الرمضانية؟! فلتشحذ الهمة، وتأخذ الأهبة لنيل بركات هذا الشهر الكريم .. ألا يسرك أن تكون من أهل باب الريان، ومن أهل العتق من النيران، ومن أهل جنة الرضوان، ومن أتباع هدي النبي العدنان .. كيف الفتور وقد سلسلت الشياطين، وغلقت أبواب الجحيم؟! .. وكيف التقاعس والرحمن قد منح الأمة ليلة القدر، وتكفل بجزاء الصوم؟!.. لا تستصغر همتك، ولا يهولنك مظهر الجوع والعطش، فإن من وراء الأكمة الخير الجزيل. كتب العالم الحجة، عالم الجزيرة ومفتيها «ميمون بن مهران» إلى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: إني شيخ رقيق، كلفتني أن أقضي بين الناس، وكان علي الخراج والقضاء بالجزيرة. فكتب إليه: إني لم أكلفك ما يعنيك، اجب الطيب من الخراج، واقض بما استبان لك، فإذا لبس عليك شيء، فارفعه إلي، فإن الناس لو كان إذا كبر عليهم أمر تركوه، لم يقم دين ولا دنيا. صاحب الهمة العالية يذلل الصعاب من خلال النظر إلى حسن العاقبة، فالفتور غير موجود في قاموسه الفكري والشعوري. فهو يتعامل مع الصعاب كواقع، الجوع والظمأ لا يقيد حركته، ولا يجعله واقفاً جامداً مكانه، لأن همته العالية تسمو به إلى آمال وآفاق كبيرة وبعيدة، وينظر من خلال همته دائما إلى منح الله في أوامره. ولقد كان من هدي علماء السلف أنهم كانوا إذا جاء شهر رمضان، يتركون العلم، ويتفرغون لقراءة القرآن، حتى قال بعضهم: «إنما هما شيئان: القرآن والصدقة». وكان الإمام الزهري -رحمه الله تعالى- كذلك. وكذلك كان الإمام مالك، وهو ممن اشتهرت منـزلته وقيمته واهتمامه بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه له، حتى إنه كان لا يحدثهم إلا وهو على وضوء ويبكي ويتخشع، وكان يقدِّر ويُجل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ومع ذلك كان إذا دخل رمضان، لم يشتغل بالحديث بل يترك الحديث ويقبل على القرآن. وكذلك كان سفيان الثوري -رضي الله عنه-. وقد تفتر النفس في الاستمرار على العمل الصالح والمداومة عليه، ولمعالجة هذا الداء لا بد من العزيمة الصادقة على لزوم العمل والمداومة عليه، أيا كانت الظروف والأحوال، وهذا يستلزم نبذ العجز والكسل والدعة والخمول، وإذا كان الإنسان يكره الموت الذي فيه انقطاع حياته، ويكره الهرم الذي فيه انهيار شبابه وقوته، ألا يدرك أن هناك أمرا- لربما كان أشد منهما- وهو العجز والكسل، وضعف الهمة والتراخي، والتسويف وركوب بحر التمني، مما يقعده عن كل عمل صالح، ويثبطه عن كل بر وطاعة. وقد كانت حياة السلف، رحمهم الله، معمورة بطاعة الله حتى يلقوا ربهم، وأقوالهم وأحوالهم في ذلك كثيرة، قال ميمون بن مهران: «لا خير في الحياة إلا لتائب، أو رجل يعمل في الدرجات، ومن عداهما فخاسر». وقال بعضهم يحكي حالهم: «كانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس»، يريد: أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير. وفي الترمذي عنه -صلى الله عليه وسلم-، أنه سئل: أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» قيل: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله».
(3) وبكى معاذ -رضي الله عنه- عند موته وقال: (اللهم إني لم أحب البقاء في الدنيا لا لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، إنما أبكي لظمأ الهواجر وقيام الليالي المظلمة، ومزاحمة العلماء بالركب، ومجالسة أناس ينتقون أطايب الكلام، كما ينتقى أطايب الثمر). وقال أحد الصالحين عند موته: (إنما أبكي على أن يصلي المصلون ولست فيهم، وأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم). فما أعظم الانتكاسة بعد الطاعة، وما أقبح العود إلى الغفلة بعد الذكرى والموعظة، وقد كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك»
(4)، ومن دعائه أيضا: «اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور»
(5) إن لإدمان المداومة على الأعمال الصالحة أثارا حميدة منها: دوام اتصال القلب بخالقه وبارئه، مما يعطيه قوة وثباتا، وتعلقا بالله عز وجل، وتوكلا عليه، ومن ثم يكفيه همه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق:3] ومن الآثار كذلك: تعاهد النفس عن الغفلة، وترويضها على لزوم الخيرات، حتى تسهل عليها فلا تكاد تنفك عنها رغبة فيها، وقد قيل: «نفسك إن لم تشغلها بالطاعة، شغلتك بالمعصية». إن التوكل الحق قرين الجهد المضيء والإرادة المصممة وليس العجز والكسل، ولم ينفرد التوكل عن القوة والحزم إلى الضعف والتواكل إلا في العصور التي مسخ فيها الإسلام وأصبح بين أتباعه لهوا ولعبا. وقد استعاذ عمر بن الخطاب -فاروق الإسلام- من الخور الذي ينتاب المسلمين في دعائه المشهور: «اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة»، ففاجر مصابر وتقي منهار مصيبة؛ لأن الفاجر الفاتك النشيط شيطان مريد، والتقي الخامل العاجز المقصر؛ جبان رعديد، والإسلام يريد رجلاً قوياً حازماً بصيراً. إن الإنسان كلما حقق من الإيمان والفاعلية، ارتفعت قيمة حياته لتنال السعادة والنجاح ورضا الله في الدنيا وسكنى الجنان في الآخرة، والعكس صحيح أيضًا .. فكلما قل نصيب الإنسان من الإيمان والفاعلية ضاعت قيمة حياته فعاش تعيسًا فاشلاً في الدنيا وباء بالخسران في الآخرة. نحن أمة رمضان شهر الفاعلية .. فلقد أوجب الله تعالى على أفراد هذه الأمة أن يكونوا على قمة هرم الإنجاز والفاعلية حتى تستطيع الأمة أن تقوم بعبء هذه الأمانة الثقيلة. ولعل ذلك هو سر حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يزرع في أصحابه حب الإنجاز والعمل، وكراهية العجز والبطالة والكسل، فكان -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم أن يقولوا في كل صباح ومساء: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»
(6) ومنهج الإسلام يحوي في ثناياه كل عوامل الإنجاز والفاعلية في تفرد ليس له نظير بين المناهج الأرضية، يقول «بريجولت» في أحد كتبه الشهيرة، وهو كتاب (بناء الإنسانية): «إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل ندين لهم بوجوده نفسه، فالعالم القديم لم يكن للعلم فيه وجود، وقد نظم اليونان المذاهب، وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبًا تمامًا على المزاج اليوناني». فطوبى لمن أظمأ نفسه اليوم للري الكامل، وطوبى لمن جوع نفسه اليوم للشبع الأكبر، وطوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره، وطوبى للسائحين والسائحات ما أعد لهم في الجنات، ولو يعلم السائحون عن هذه السياحة لتمنى الناس أن يكون رمضان السنة كله كما أخبر بذلك المعصوم عليه الصلاة والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق