شرور الشيطان كثيرة لا تحصى، وأعظم صفاته وأشدها شرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا الوسوسة، لهذا وصفه الله عز وجل بها، وهي أصل كل شر يقع في الأرض من ترك للواجبات، أو تقصير بها، أو انتهاك للمحرمات، ومن ظلم للنفس والغير، وغير ذلك.
قال ابن القيم: «ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، وهي الوسوسة، التي هي مبادئ الإرادة؛ فإن القلب يكون فارغًا من الشر والمعصية، فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله حتى تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، ثم لا يزال يمثل له، ويخيل ويمني ويشهي، وينسي علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مددًا لهم وعونًا، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم – إلى أن قال: فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصفه الله بها؛ لكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضًا».
وقال أيضًا: «ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه، يمنعه بجهده أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه ووشوش عليه بالمعارضات والقواطع، فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته».
وسوسة الشيطان للإنسان على أنواع ودرجات:
فمن وسوسته تزيين الكفر والشرك:قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}(سورة مريم: 83).
وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}(سورة العنكبوت: 38).
وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(سورة الأنفال: 48).
ومن وسوسته تزيين المعاصي:قال تعالى عن الأبوين عليهما السلام: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}( سورة الأعراف، الآيات: 20-22).
وقال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى})سورة طه، آية: 120.).
وقد جعل الله للشيطان سلطانًا على قلوب أهل الكفر والنفاق، كما جعل له نفوذًا على أهل الغفلة والمعاصي، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}(سورة الحجر: 42).
وقال صلى الله عليه وسلـم : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
ومن وسوسته ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلـم أنه قال: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته»(أخرجه البخاري).
وفي رواية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلـم قالوا يا رسول الله: إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به. قال: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»(اخرجه أحمد).
ومن وسوسته أيضًا: أن يشغل القلب بحديثه ووساوسه فيوقعه في نسيان ما أراد فعله أو قوله من أمر ديني أو دنيوي كما قال تعالى حكاية عن صاحب موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}( سورة الكهف: 63) وتقدم في الحديث: «أنه يخطر بين المصلى وبين قلبه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعًا».
ومن وسوسته أنه يوهم الإنسان ويخوفه من الأمور المستقبلة ويحمله على التشاؤم دائمًا، ويجعل الحياة مظلمة في عينيه فتنتابه المخاوف على المستقبل، والمخاوف من الأعداء، ومن العين، ومن المرض، ومن الموت، ونحو ذلك وكل ذلك من الشيطان أخزاه الله.
وعلاج ذلك قوة الإيمان بالله والتوكل عليه واطراح هذه الوساوس، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}( سورة آل عمران: 175).
وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}( سورة التوبة: 51).
ومن وسوسته: أن يوحي إلى أعوانه من شياطين الإنس بأن يقول أحدهم أو يفعل ما فيه ضرر على العبد المسلم؛ فكم دبر الشيطان من مكيدة للمؤمنين على أيدي أعوانه من شياطين الإنس بسفك دم، أو انتهاك عرض، أو شتم وسب، أو مقالة سوء، أو نجوى، يريد بها الشيطان إلحاق الضرر والأذى والحزن بالمؤمنين ونحو ذلك، كما قال عز وجل {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}(سورة المجادلة: 10).
وخلاصة القول:
أن وسوسة الشيطان على أنواع لا تكاد تحصى كثرة، وهي سبب لكل بلية وكل معصية تقع في الأرض من ترك للواجبات أو انتهاك للمحرمات، وهي على مراتب:
فهو يأتي الإنسان فيدعوه إلى الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله ليكون من جنده ومن أعوانه على الشر.
فإن أيس منه، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه دعاه إلى المرتبة الثانية من الشر، والتي هي باب من الكفر والشرك، وهي البدعة، وحببها إليه لعظم ضررها في الدين، وكون ضررها متعدٍ، وشدة تمسك صاحبها بها لا يكاد يتوب عنها، كما دلت على ذلك الآثار، وكما هو حال أهل البدع.
فإن عجز عن إيقاعه في هذه المرتبة، وكان ممن وفق إلى السنة ومعاداة أهل البدع والضلال دعاه إلى المرتبة الثالثة من الشر وهي الوقوع في الكبائر على اختلاف أنواعها.
فإن عجز عنه دعاه إلى المرتبة الرابعة، وهي الوقوع في الصغائر والاستهانة بها، وهي إذا اجتمعت أهلكت صاحبها، وفي الحديث: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»(أخرجه أحمد). وقال صلى الله عليه وسلـم : «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبًا»(أخرجه ابن ماجة)، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار»(أخرجه الطبراني).
فإن عجز عن إيقاعه في هذه المرتبة دعاه إلى المرتبة الخامسة وهي الانشغال بالمباحات من المآكل والمشارب وتزجية الأوقات بالنزه في المصايف والاستراحات والسياحة هنا وهناك لا لقصد ديني، ولا لقصد ديني دنيوي، وإنما لقصد دنيوي محض واتباعًا للشهوات ورغبات النفس، وبهذا ضاعت كثير من أعمار الخلق والله المستعان.
بل أدى ذلك بالكثير إلى التقصير في الواجبات، والتفريط في حق الله وحقوق الخلق، كالوالدين والزوجة والأولاد والأقارب والجيران والتفريط في حق النفس، وعدم أخذها بالحزم في أداء الواجبات عمومًا، والانتهاء عن المنهيات، والنظر في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو الغذاء الروحي للنفس، والذي لا تحيا القلوب بغيره.
ولقد خرج الناس بهذه المباحات عن الحد حتى ضاعت أعمار وأعمال وأموال.
قال ابن القيم: «ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير؛ إما ليتوصل إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل...».
ومن أمثلة الاشتغال بالمفضول عن الفاضل أن يترك متابعة المؤذن بحجة أنه يقرأ القرآن ونحو ذلك، وأدهى من ذلك وأشد منه أن يترك الشخص العمل الذي يتقاضى عليه أجرًا كالأذان والإمامة أو العمل الوظيفي في مصالح المسلمين بحجة أنه ذاهب لعمل طاعة كالعمرة، أو حضور درس أو محاضرة، أو الخروج للدعوة ونحو ذلك؛ لأن هذا لا يعد من الاشتغال بالمفضول فحسب؛ بل إن هذا من الاشتغال بالسنة عن الواجب، ويا ليت كثيرًا ممن يتساهلون في مثل هذا يدركون ذلك وبخاصة الأئمة والمؤذنون الذين هم من أئمة المتقين؛ يالها من مكانة عظيمة ومنزلة عالية رفيعة لو عرفوا قدرها، والتي هي مطلب عباد الرحمن حقًا، كما قال عز وجل في صفاتهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(الفرقان: 74). وقال صلى الله عليه وسلـم: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة»(أخرجه مسلم ). وقال صلى الله عليه وسلـم في تعظيم مسؤوليتهما وعظم الأمانة الملقاة على عواتقهما: «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين»(اخرجه أبو داوود).
وإنني أعترف أنني أطلت في الكلام عن هاتين المرتبتين الأخيرتين وهما: الانشغال بالمباحات، أو بالمفضول عن الفاضل، وربما خرجت في ذلك من شيء إلى شيء؛ وذلك لمساس الحاجة في الوقت الحاضر إلى التأمل في خطر هذا الأمر؛ لتساهل كثير من الناس في ذلك واعتقادهم أن هذا إنما هو الأمور المباحة، أو المشروعة؛ غافلين عما يترتب عليه من تقصير في الواجبات أو ارتكاب للمنهيات، أو من تقديم للسنة على الواجب، أو المفضول على الفاضل ونحو ذلك، وكيف يعتقد من كان يتولى أمرًا من أمور المسلمين، من أذان، أو إمامة أو أي مسؤولية من مسؤوليات الأمة أنه يسوغ له ترك مسؤوليته بحجة الذهاب لأداء العمرة ونحو ذلك، وهل سيحصل له من الأجر على ذلك مثل أجر من احتسب وتحمل مسئوليته؛ كلا؛ بل إنه إلى التأثم أقرب، ولم يرد في كتاب ولا سنة جواز ذلك فضلاً عن أن يؤجر فاعله، ولم يقل بهذا أحد من علماء الأمة سلفًا وخلفًا، وإنما هذا من مداخل الشيطان وتقديم هوى النفس على حكم الله، وإني لأدعو المسلمين عمومًا وأرباب مسؤوليات الأمة خصوصًا من الأئمة والمؤذنين وعامة الموظفين والآباء والمربين وغيرهم إلى التنبه إلى هذا؛ فنحن أمة إسلامية ديننا الإسلامي دين الجد والعمل لا محل للفراغ في حياتنا، وقت المسلم بين المسجد والبيت والعمل، وساعة للترفيه والراحة عند الملل؛ فكل فرد منا على مسؤولية من مسؤوليات الأمة.فهذا مؤذن، وهذا إمام، وهذا والد، وهذا مدرس، وهذا موظف، وكل منا على ثغر من ثغور الإسلام؛ فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.وإن من أكبر مصائب الأمة أن لا تدري أين مكمن الداء فيها؛ فتضل في حيرة من أمرها، أو ربما تظن الداء دواء لجراحاتها.
فما أكثر الذين يتباكون ويتلاومون على واقع الأمة؛ وكأنهم يدعون لأنفسهم الكمال، فإذا تأملت في واقعهم، وسبرت أحوالهم وجدت أن كثيرًا منهم من أكبر أسباب ضعف الأمة؛ بل العبء الأثقل على كاهل الأمة، شأنهم التلاوم والقيل والقال، والتنصل من مسؤوليات الأمة، وانتقاد الولاة والعلماء والدعاة والمصلحين والعاملين؛ مع التفريط والإضاعة؛ بل والخيانة فيما عليهم من مسؤوليات وواجبات في حق الله وحقوق الأمة، تفريط في حقوق الله، وفي حقوق الوالدين والأولاد، والأزواج والأقارب والجيران، وفي حقوق عامة المسلمين ومسؤوليات الأمة، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}( الأنفال: 27).
______________________________________________________
فالأمة ليست بحاجة إلى الدعاوي الفارغة والحماس الأجوف؛ بل هي أحوج ما تكون إلى رجال لهم رصيد من الصدق مع الله وتقواه بأداء حقوقه وحقوق الخلق؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم يجاهد النفس والشيطان فلن يستطيع مجاهدة الأعداء، ومن خان حي على الصلاة خان حي الكفاح، ومن لم يقم أركان الإسلام وأهم واجباته فلن يقيم ما دون ذلك، ومن ترك الواجب لم ينتفع بالقيام بما دونه إن قام به.
ومجمل القول أن الأمة تحتاج إلى الرجل الراحلة الذي يتحمل مسؤولياته، ويملأ ويسد مكانه في الأمة؛ بأداء حقوق الله، وحقوق العباد، في البيت والمسجد والعمل الوظيفي والشارع، فهذا هو الجندي المجاهد، وما أقل هذا في الأمة، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلـم حيث قال: «الناس كإبل مائة لا يوجد فيها راحلة»(أخرجه البخارى).فالحاكم والأمير والقاضي والإمام والمؤذن والمدرس والموظف والتاجر والعامل وغيرهم ممن ائتمنوا على مسؤوليات الأمة كل منهم مثاب مأجور إذا قام بالعمل على الوجه الأكمل، مع حسن النية في أداء الواجب وخدمة الأمة.ومما يؤسف له أن كثيرًا من الناس يتشبثون بفعل بعض النوافل والأعمال التطوعية مع تفريطهم في أهم الواجبات في حقوق الله وحقوق الأمة، ولا تقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلـم يسأل عن الإسلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلـم: «تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً». قال: يا رسول الله هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطَّوَّع». فقال الأعرابي: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فلما ولى قال صلى الله عليه وسلـم: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا». وفي رواية: «أفلح إن صدق»(اخرجه البخاري ).
وعودًا على ما سبق أقول مؤكدًا: إن الأمة أحوج ما تكون اليوم إلى الرجل الراحلة، الذي يسد مكانه في الأمة؛ أداءً الحقوق لله، وحقوق الأمة؛ مع محاسبة النفس محاسبة دقيقة في ذلك؛ إخلاصًا لله عز وجل ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلـم ، وحفاظًا على أوقات هذه الحقوق والواجبات، واجتهادًا في أدائها على الوجه الأكمل، براءة للذمة، ونصحًا لله ولرسوله ولكتابه.وإنني أنادي الغيورين من أبناء الأمة رجالاً ونساءً من الآباء والأمهات والمربين والموجهين والمدرسين والخطباء والدعاة والواعظين إلى العودة بالأمة إلى هذا المنهج الصحيح؛ فإن به الضمان بإذن الله عز وجل لسعادة الأمة في دنياها وأخراها – والله المستعان.
وأخيرًا فإن الشيطان لا يقف بأذيته للعبد وتسلطه عليه عند هذا الحد، بل إنه إذا عجز عن إيقاعه في المراتب السابقة أو بعضها، وكان ممن هداه الله ووفقه وحفظه وعصمه من الوقوع في حبائل الشيطان سلط عليه حزبه من شياطين الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصْد إخماله وإطفائه؛ ليشوش عليه، ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس من الانتفاع به، فلا يزال المؤمن في حرب معه حتى يلقى الله .
قوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}: من الجنة: جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً، والتقدير: كائنًا من الجنة والناس. و «الناس»: معطوف على «الجنة»، وهو بيان للذي يوسوس؛ أي أن الذي يوسوس في صدور الناس نوعان: شياطين جن، وشياطين إنس؛ كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}( سورة الأنعام: 112. ).
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «إن الملائكة تُحدِّث في العنان (الغمام) بالأمر يكون في الأرض فتستمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم»(أخرجه البخاري).
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن»، قلت: أوللإنس شياطين؟ قال: «نعم شر من شياطين الجن»(أخرجه النسائي ).
ومن وسوسة شياطين الإنس: وسوسة نفس الإنسان له كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}( سورة ق: 16)، وعنه صلى الله عليه وسلـم قال: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به».
وقيل: إن قوله {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان للناس الموسوس في صدورهم. والمعنى: الذي يوسوس في صدور الناس، الذين هم من الجنة والناس؛ فالموسوس في صدورهم على هذا قسمان: جن وإنس؛ فالوسواس وهو الشيطان يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي.
والأظهر القول الأول ، وقد ضعف ابن القيم رحمه الله القول الثاني من وجوه عدة: الأول: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي ويجري فيه مجراه من الإنسي.
الثاني: أنه على هذا فاسد من جهة اللفظ أيضًا؛ فإنه قال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} فكيف يبين الناس بالناس؟!
الثالث: أنه قسم الناس إلى قسمين: جنة وناس، وهذا غير صحيح؛ فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه.
الرابع: أن الجنة لا يطلق عليه اسم الناس بوجه، لا أصلاً، ولا اشتقاقًا، ولا استعمالاً، ولفظها يأبى ذلك، فإن الجنة إنما سمو جنًا من الاجتنان، وهو الاستتار، فهم مستترون عن أعين البشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق