عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وجد أن اليهود يصومون يوم عاشوراء، وفي ذلك روى الإمام البخاري في صحيحه عن الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قَدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ، فرأَى اليهودَ تصومُ يومَ عاشوراءَ، فقال: (ما هذا؟) قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومَ نجَّى اللهُ بني إسرائيلَ من عدُوِّهم، فصامه موسى. قال: (فأنا أحقُّ بموسى منكم). فصامه وأمَر بصيامِه)، إذ يرتبط عاشوراء ببني إسرائيل أثناء حُكم فرعون لهم، حيث كان ظالماً مستبداً، ولم تكن لدى المستضعفين أيّ وسيلة للتخلّص من ظلمه، إلا أنّ الله تعالى أهلك فرعون ومن معه من أتباعه بعد أن سار في البحر المشقوق ظاناً أنّهم سينجون، فاندثر ظلمه، وذلك قدر كلّ ظالم مُستبدّ، حيث قال تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ)؛ فمهما تكبّر الظالمون فلا بدّ لهم من نهاية، فكان يوم عاشوراء اليوم الذي رفع الله فيه الظلم عن عباده، ونصر فيه أهل الإيمان على من عاداهم.
وقد فُرِض على المسلمين صيام عاشوراء في بداية الأمر، ثمّ أصبح نافلةً بعد أن فرض الله تعالى على المسلمين صيام شهر رمضان، وليحثّ الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على عدم ترك صيام عاشوراء، قال في فضل صيامه: (صيامُ يومِ عاشوراءَ، أَحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السّنةَ التي قبلَه)، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يُرد أن يمرّ يوم عاشوراء دون تدبّر، إذ أراد لأمته أن تتّخذ العبرة والعِظة منه.
وقت يوم عاشوراء وصيامه
عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر مُحرَّم، ولذلك سُمِّي بعاشوراء، إلا أنّ العلماء اختلفوا في تحديده، فقال البعض منهم إنه اليوم التاسع من محرّم، وذهب الجمهور من العلماء إلى القول بأنه العاشر وليس التاسع، وهو الراجح، وبيّن ذلك الإمام النووي رحمه الله في كتاب المجموع، حيث قال: (عاشوراء وتاسوعاء اسمان ممدودان، هذا هو المشهور في كتب اللغة، قال أصحابنا: عاشوراء هو اليوم العاشر من المُحرَّم، وتاسوعاء هو التاسع منه، هذا مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء، وهو ظاهر الأحاديث ومُقتضى إطلاق اللفظ، وهو المعروف عند أهل اللغة).
ويقع صيام عاشوراء على ثلاث مراتب؛ الأولى منها صيام التاسع والعاشر والحادي عشر من ذي الحِجّة، وذلك أكمل المراتب، والمرتبة الثانية تكون بصيام التاسع والعاشر من محرم فقط، كما بيّنت أكثر الأحاديث النبوية، والمرتبة الثالثة تتمثّل بصيام العاشر فقط، ولا يُعدّ ذلك مكروهاً، وهذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتجدر الإشارة إلى أنّ لصيام عاشوراء مكانةً خاصةً، وممّا يدلّ على ذلك أنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعلّمون أولادهم صيامه، كما أن بعض السلف كانوا حريصين على صيامه حتّى في السفر، ومنهم: عبد الله بن عباس، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري، وقد ورد عن الزهري أنّه قال: (رمضان له عدّةٌ من أيّام أُخَر، وعاشوراء يفوت، ونصّ أحمد على أنه يُصام عاشوراء في السفر).
أحكام متعلّقة بيوم عاشوراء
بيّن العلماء العديد من الأحكام المتعلّقة بصيام يوم عاشوراء، وفيما يأتي بيان بعضها بشكلٍ مفصّلٍ: يجوز إفراد يوم عاشوراء بالصيام، وإن صادف يوم جمعة أو سبت، دون أيّ بأس، ولكنّ الأولى صيام يوم قبله أو يوم بعده، وذلك ما بيّنه الإمام ابن تيمية رحمه الله، وما ذهبت إليه اللجنة الدائمة للإفتاء، وإن لم تتعيّن بداية الشهربشكلٍ قاطعٍ فيُعتمد في ذلك على افتراض إتمام شهر ذي الحجة ثلاثين يوماً، وصيام التاسع والعاشر من محرّم، وفي ذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: (فإن اشْتَبه عليه أوَّل الشهر، صام ثلاثة أيام، وإنما يَفعل ذلك؛ ليتيقَّن صوم التاسع والعاشر).
بيّن الإمام ابن تيمية رأيه فيما يكون في يوم عاشوراء من الكُحل، والحنّاء، والاغتسال، وإظهار السرور والسعادة، فقال: (لم يَرد في شيء من ذلك حديثٌ صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، ولا اسْتَحَبَّ ذلك أحد من أئمَّة المسلمين؛ لا الأئمّة الأربعة، ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً؛ لا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الصحابة، ولا التابعين؛ لا صحيحاً، ولا ضعيفاً).
لا يُشرَع للمسلم قضاء يوم عاشوراء إن فاته صيامه دون عذر، وكذلك الحال إن كان السبب متوقّفاً على عذرٍ ما، كالحيض أو النفاس أو المرض، فالنوافل إما أن تكون بسبب أو بلا سبب، فإن كانت بسبب فإنها تفوف بفوات السبب القائمة عليه، كالرجل الذي يدخل المسجد ويطيل المكوث فيه، ثمّ أراد صلاة تحية المسجد، فلا تشرع بحقّه، لأنها قائمة على سبب، وإن فات السبب فاتت مشروعيتها، ومثل ذلك ينطبق على يوم عرفة ويوم عاشوراء، لأنهما مخصصان بيوم ووقت محددين، وإن فات اليوم فات الحكم المتعلّق به.
يجوز الصيام تطوعاً إن كان على المرء الصيام لقضاء الفريضة، فيجوز مثلاً صيام يومي الاثنين والخميس أو الأيام البيض إن كان على العبد الصيام فريضةً لنذرٍ ما، أو كفارةٍ، أو قضاءً لفرض رمضان، ولكنّ الأولى تقديم الفرض على النّفل في الصيام، تبرئةً للذّمة وأداءً للعهد الذي عليه، وتجدر الإشارة إلى أنّ النية في صيام النفل تصحّ من العبد بعد طلوع الفجر إن امتنع عن المفطرات، بخلاف صيام الفريضة الذي يُشترَط فيه عقد النيّة لصيامه من الليل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق