يقول ربنا جل وعلا في محكم كتابه : {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}[الصافات: 103 – 112].
قال الإمام الطبري رحمه الله، في تفسيره : ( يقول تعالى ذكره : فلما أسلما أمرهما لله وفوّضاه إليه واتفقا على التسليم لأمره والرضا بقضائه ) أهـ.
وقال أيضا : ( عن عكرمة، قوله (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) قال: أسلما جميعا لأمر الله ورضي الغلام بالذبح، ورضي الأب بأن يذبحه، فقال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إلي فترحمني، وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع، ولكن أدخل الشفرة من تحتي، وامض لأمر الله، فذلك قوله : "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ" ( أهـ.
وفي الآيات السابقة ؛ أن في تسليم العبد أمره لله ، ورضاه بقضائه وقدره ، ثمارا عديدة في الدنيا والآخرة أهمها ما يلي :
1- بلوغه بتسليمه ورضاه بقدر الله ؛ أعلى مراتب الإحسان وأكملها ، دل على هذا ؛ قول ربنا جل وعلا ، كما في هذه الآيات : (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، وقوله : (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، وورد التأكيد بذكر الإحسان ههنا مرتين ، ليدل على أمور :
الأول : بلوغ نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل عليها السلام أعلى مراتب الإحسان وأكملها ، بتسليمهما المطلق لأمر الله.
الثاني : أن تسليم العبد أمره لربه ، ورضاه بقضائه وقدره ؛ يوصله الى أعلى مراتب الإحسان، المستحق عليه دخول الجنة والتلذذ بنعيمها ، كما قال الله : { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة: 85].
الثالث : عظيم جزاء الله لأهل الإحسان من عباده في الدنيا ثم في الآخرة .
2- ان التسليم المطلق لله رب العالمين ،والرضا بقضائه وقدره ؛ من أصول الإيمان ، ودلائله الصادقة ، دل على هذا قول ربنا جل وعلا ههنا) : إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) ، وأتى هذا الخبر مسبوقا بإن المؤكدة ؛ للدلالة على كمال الإيمان ، وحقيقته الصادقة في قلوب أهل التسليم والرضا، والضمير هنا ، عائد على إبراهيم عليه السلام .
فالمؤمن الصادق في إيمانه ، لا تجده الا مسلِّما أمره لربه ، مستسلما لقضائه ، راضيا بقدره وتدبيره.
3- ان التسليم لأمر الله والرضا بقدره وقضائه ؛ سبب الفرج ، وميلاد اليسر من رحم العسر وشدة الكرب ، وهذا بيّن من القصة في أمرين :
الأمر الأول : قوله تعالى ؛ مسليا خليله ونبيه ابراهيم عليه السلام ، ومبشرا إياه بزوال المحنة والبلاء : (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ، لينتهي بهذا الخبر كرب نبي الله إبراهيم عليه السلام ، الذي أُثلج به صدره ، وسُر به فؤاده ، وأُذهب روعه، لأن ولده لن يموت حينئذ ! .
فبعد ان أضجع الخليل عليه السلام ولده الأرض ليذبحه ،وأكب وجهه الى الأرض على جبينه، ولم يأته حتى هذه اللحظة وحي من الله بإعفائه من هذا الفعل ،أصبح احتمال العفو عن ذبحه قليل جدا، لأن الأمر قد بلغ مداه ولم يبق حتى فراق ولده الا لحظات ينتظر فيها؛ قطع الجلد ، والأوداج ثم خروج الدم ، ولما كان الحال كذلك؛ نزل فرج الله ، بالعفو عن ذبح إسماعيل عليه السلام وفديه بكبش أنزل من السماء لهذه المهمة ، فكان للفرج حينئذ أثره ، والفرح به لا يكاد ان يوصف او ينعت ، فسبحان الله ما أكرمه ،وما أوسع رحمته بعباده وخلقه.
وفي هذا ؛ أن على العبد ان يبقى موقنا بفرج الله ،مؤمنا به ولو في اللحظات الأخيرة التي يظن فيها الهلاك ، ففرج الله قرين الكرب ، ومتى ما اشتد به الكرب ، فليعلم ان الفرج قد قرب ودنا ، وفي الحديث الصحيح : ( وإن الفرج مع الكرب ) .
الأمر الثاني : ان التسليم النابع من كمال الرضا ، وقوة اليقين بكرم الله وحسن مجازاته لعبده على بلائه ومحنته ، كما انه سبب للفرج ، وزوال الكرب ، فهو أيضا سبب في حصول الخير الوفير ، والبشائر التي تسر المهج ، وتفرح القلوب والأفئدة ، التي كابدت المحن والشدائد ؛ بصبر ، وثبات ، واحتساب.
وهذا ما ورد في سياق هذه الآيات، اذ أتت البشارة للخليل عليه السلام بعد زوال كربه ، وبلائه ؛ بغلام يأتي من بعد إسماعيل ، وهو إسحاق عليه السلام – على الراجح من قولي أهل العلم، على أن الذبيح إسماعيل بدليل هذه البشارة – فكما ان إبراهيم عليه السلام امتثل أمر ربه ،بمباشرة ذبح ولده طاعة له، وانقيادا ؛ بشره الله ، بولد آخر ، تقر به عينه ، ويفرح به قلبه ؛ مكافئة له على احتسابه وتسليمه، وليكون الجزاء من جنس العمل ؛ فحين امتثل الخليل عليه السلام لهذا الأمر ، أكرمه الله بولد آخر جزاء تسليمه واحتسابه.
وكذلك حال كل عبد يسلم أمره لربه، ويمتثل له ، ذلا وخضوعا ،وانقيادا ، فان العاقبة ستكون له؛ بما يبهج قلبه ، ويشرح صدره ، لاشك في ذلك ولا ريب.
والحمد لله رب العالمين...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق